اقتباس
والقرآن الكريم كتاب مبارك، لا تنقطع منحه وبركاته لأهله وقارئيه، فمن تعلَّمه أو علَّمه فهو أفضل الناس؛ فعن عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(رواه البخاري).
في ذلك الغار الميمون؛ غار حراء سطع النور والهدى على الناس أجمعين؛ ففي ليلة من ليالي العشر الأخير من رمضان، يتنزل جبريل -عليه السلام- من عند رب السماء بأولى آيات القرآن الكريم على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: "جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)[العلق: 1-3]، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده"(متفق عليه).
ومن يومها وظل القرآن الكريم يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسب الوقائع والأحداث على مدار ثلاثة وعشرين سنة كاملة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين"(متفق عليه).
فإذا تلوت القرآن فإن خير ما تستحضرته هو أنه: "كلام رب العالمين"، وأنه "رسالة الله -تعالى- إليك"، التي تنزل بها جبريل على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليبلغنا إياه، بلغتنا العربية الفصيحة: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء: 192-195].
***
وللقرآن الكريم خصائص تميزه لا يشاركه فيها أي كتاب من الكتب السماوية المعروفة، فمنها:
أنه نزل منجمًا، بخلاف سائر الكتب السماوية التي نزلت جملة واحدة: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)[الفرقان: 32-33]... ولقد جاء القرآن الكريم ناسخًا ومهيمنًا على جميع ما سبقه من الكتب: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المائدة: 48].
ومنها: تعهد الله -تعالى- بحفظه: قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]، بخلاف الكتب السابقة فقد أوكل الله أمر حفظها إلى أهلها فحرَّفوها وبدَّلوها وغيَّروها! ومن وسائل حفظ الله -تعالى- له:
أنه محفوظ في الصدور قبل السطور: فلقد يسره الله -تعالى- للحافظين وللتالين وللمتدبري: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر: 17]، قال سعيد بن جبير: "يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله -تعالى- يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن"، يقول الخازن: "قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده؛ بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم"(تفسير الخازن).
وأنه كذلك مكتوب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كتبه كٌتَّاب الوحي من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بأمر منه -صلى الله عليه وسلم-، ومن كتبة الوحي: الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وزيد بن ثابت، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، ومعيقب بن أبي فاطمة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، وأبي بن كعب...
كذلك فإن الله -تعالى- قيض له سنده متواتر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فما نٌقل كتاب ولا صحيفة ولا شيء بمثل الدقة التي نُقل بها إلينا القرآن الكريم؛ فسند متواتر يتناقله الأثبات عن الثقات عن أمثالهم، فلا يعتري ثبوته ونقله خلل ولا شك، وهذا كله من حفظ الله =تعالى- له.
ومن خصائص القرآن الكريم: التدرج في أحكامه: فهذه عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- تذكر الحكمة من ذلك فتقول: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا..."(متفق عليه، واللفظ للبخاري).
ومن خصائصه: نزوله على سبعة أحرف: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف"(متفق عليه).
***
والقرآن الكريم كتاب مبارك، لا تنقطع منحه وبركاته لأهله وقارئيه، فمن تعلَّمه أو علَّمه فهو أفضل الناس؛ فعن عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(رواه البخاري).
ومن بركاته لأهله: الأجر العظيم على تلاوته وحفظه: فعن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصفة، فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم، ولا قطع رحم؟"، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم، أو يقرأ آيتين من كتاب الله -عز وجل-، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل"(رواه مسلم)، وفي الحديث الصحيح المحفوظ: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومنها: أنه يشفع لأهله يوم القيامة: فعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"، قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة(رواه مسلم).
ومنها: الاستشفاء به: قال -تعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82]، ولما رقى بعض الصحابة اللديغ بالفاتحة فشُفي قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما أدراك أنها رقية؟"(متفق عليه)، وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها"(رواه البخاري).
لكن للاستشفاء بالقرآن شرط ذكره الزركشي فقال: "لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيته، وتدبر الكتاب في عقله وسمعه، وعمر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره، وتمسك به وتدبره، هنالك تأتيه الحقائق من كل جانب، وإن لم يكن بهذه الصفة كان فعله مكذبًا لقوله"(البرهان في علوم القرآن، للزركشي).
ختامًا: فإن القرآن الكريم هو حبل الله المتين وهو الكتاب الوحيد القادر على جمع شمل أمتنا الإسلامية وتوحيدها، فهلما نطع الله -تعالى- إذ يأمرنا قائلًا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103].
وابتغاء بركة القرآن الكريم قد جمعنا هذا الملف الذي لا يرقى أبدًا إلى مقامه ومكانته، لكنه جهد المقل، وقد جاءت محاوره كالتالي:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم