حقيقة القرآن ودلالات أسمائه وصفاته

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-10-06 - 1445/03/21 2023-10-18 - 1445/04/03
عناصر الخطبة
تمهيد: أشرف الكلام وأصدق البيان 1/تعريف القرآن الكريم لغةً واصطلاحًا 2/أسماء القرآن الكريم ومعانيها ومدلولاتها 3/صفات القرآن الكريم ودلالاتها.

اقتباس

طُوبَى لِمَنْ تَلَاهُ وَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ وَتَأَمَّلَ فِي بَدِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَفَقَّهَ فِي أَحْكَامِهِ وَدَلَائِلِهِ، وَطَبَّقَ أَحْكَامَهُ فِي حَيَاتِهِ وَأَحْيَا بِهِ لَيَالِيَهُ، وَهَنِيئًا لِمَنْ جَعَلَهُ أَنِيسَهُ وَمُوَاسِيَهُ وَرَفِيقَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ شَرَفَ الْكَلَامِ مِنْ شَرَفِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَإِنَّ مَكَانَةَ الْمَنْطُوقِ مِنْ مَكَانَةِ قَائِلِهِ، وَمَا انْفَتَقَ اللِّسَانُ بِنُطْقٍ، وَلَا انْفَرَجَتِ الشَّفَتَانِ بِكَلِمَاتٍ هِيَ أَشْرَفُ وَلَا أَكْرَمُ وَلَا أَعْظَمُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

 

كِتَابُ هُدًى وَنُورٍ وَنَجَاةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كِتَابُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَكَيْفَ لَا، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ بَيْنَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَبَيْنَ عِبَادِهِ، "فَكَأَنَّ النَّاسَ وَاقِعُونَ فِي مَهْوَاةِ طَبِيعَتِهِمْ، مُشْتَغِلُونَ بِشَهَوَاتِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِلُطْفِهِ رَفْعَهُمْ، فَيُدْلِي حَبْلَ الْقُرْآنِ إِلَيْهِمْ لِيُخَلِّصَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْغَفْلَةِ، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا، وَمَنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ هَلَكَ".

 

وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ أَصْدَقُ الْبَيَانِ؛ (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فُصِّلَتْ:42]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الْخَالِقِ الْعَزِيزِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)[النِّسَاءِ:87]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)[النِّسَاءِ:122].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُهَا (قَرَأَ)، فَلَفْظُ الْقُرْآنِ فِي الْأَصْلِ كَالْقِرَاءَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)[الْقِيَامَةِ:17-18]؛ يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ: (عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ): أَيْ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ.

 

أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ، الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ، الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ، الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ، الْمُتَحَدَّى بِأَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ، الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَبْدُوءُ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالْمَخْتُومُ بِسُورَةِ النَّاسِ.

 

لَكِنْ لِمَاذَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا؟ يُجِيبُ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ قَائِلًا: "سُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عَنْهُ، وَالتِّلَاوَةَ مِنْهُ، وَقَدْ قُرِئَتْ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ".

 

وَلِقُرْآنِنَا -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَ"كَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى"، فَأَوَّلُهَا وَأَشْهَرُهَا: "الْقُرْآنُ"، قَالَ -تَعَالَى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[الْبَقَرَةِ:185]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الْإِسْرَاءِ:9].

 

وَثَانِيهَا هُوَ: "الْفُرْقَانُ"، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)[الْفُرْقَانِ:1]، وَ"سَمَّاهُ فُرْقَانًا لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ"(تَفْسِيرُ الْخَازِنِ)، وَلَقَدْ سَمَّى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- التَّوْرَاةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى فُرْقَانًا، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ)[الْأَنْبِيَاءِ:48].

 

وَثَالِثُ أَسْمَائِهِ هُوَ: "الْكِتَابُ"، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)[الْبَقَرَةِ:2]، وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ، وَالْمُرَادُ بِمِثْلِهِ: السُّنَّةُ.

 

وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ بِـ"الْكِتَابِ" لِأَنَّهُ جَاءَ تَصْدِيقًا لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَشَاهِدًا عَلَيْهَا وَنَاسِخًا لَهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[الْمَائِدَةِ:48].

 

وَتَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ مَقْرُوءٌ، وَتَسْمِيَتُهُ كِتَابًا بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ فِي الصُّدُورِ؛ فَيُقْرَأَ مِنْهَا عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ، وَيُحْفَظَ بِالْكِتَابَةِ الْمَسْطُورَةِ عَلَى ظُهُورِ الصُّحُفِ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ سَبَبَ اشْتِرَاطِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عِنْدَ جَمْعِهِ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ؛ أَنْ يَجِدَهُ مَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا.

 

وَرَابِعُ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ: "الذِّكْرُ"، يَقُولُ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الْحِجْرِ:9]، فَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ ذِكْرًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَوَاعِظِ الَّتِي تُذَكِّرُ بِالْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ يَذْكُرُ قِصَصَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمَا وَقَعَ لَهُمْ... كَذَلِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَى: الشَّرَفِ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)[الزُّخْرُفِ:44]، فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ شَرَفٌ لِمَنْ تَلَاهُ، وَشَرَفٌ لِمَنْ حَفِظَهُ، وَشَرَفٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ، وَشَرَفٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَمَسَّكَ بِهِ النَّاسَ، وَلِذَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)[الْأَنْبِيَاءِ:10]، أَيْ: فِيهِ شَرَفُكُمْ وَمَجْدُكُمْ وَعِزُّكُمْ فِي الْعَالَمِينَ.

 

وَخَامِسُهَا: التَّنْزِيلُ: قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الشُّعَرَاءِ:192]، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ تَنْزِيلًا لِأَنَّهُ تَنَزَّلَ بِهِ جِبْرِيلُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ -تَعَالَى-: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[الشُّعَرَاءِ:193-194].

 

وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ أَشْهَرُ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

 

وَلِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَتَجَاوَزُ الْخَمْسِينَ اسْمًا، وَمِنْهَا أَنَّهُ: "كَلَامُ اللَّهِ"، الَّذِي وَرَدَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)[التَّوْبَةِ:6].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَأَمَّا أَوْصَافُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَكَثِيرَةٌ؛ فَوَصَفَهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ الْكَرِيمِ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)[الْوَاقِعَةِ:77]، أَيْ: عَزِيزٌ مُكَرَّمٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ كَرِيمٌ لِأَنَّهُ يُغْدِقُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَرَأَهُ أَوْ سَمِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ النَّفَحَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، وَهُوَ كَرِيمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ كَرِيمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَانِي الْأُمُورِ".

 

وَمِنْ أَوْصَافِ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ)[الْأَنْبِيَاءِ:5]، وَمِنْ بَرَكَتِهِ أَنَّهُ يَمْلَأُ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ وَالْعُمُرَ بَرَكَةً وَخَيْرًا، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "الْبَيْتُ إِذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ، ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَتَنَكَّبَتْ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَحَضَرَهُ الشَّيَاطِينُ"(رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ).

 

وَيَقُولُ السَّعْدِيُّ: "مُبَارَكٌ: أَيْ: فِيهِ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَالْعِلْمُ الْغَزِيرُ، وَهُوَ الَّذِي تُسْتَمَدُّ مِنْهُ سَائِرُ الْعُلُومِ، وَتُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْبَرَكَاتُ، فَمَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا وَقَدْ دَعَا إِلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَذَكَرَ الْحِكَمَ وَالْمَصَالِحَ الَّتِي تَحُثُّ عَلَيْهِ، وَمَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا وَقَدْ نَهَى عَنْهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَذَكَرَ الْأَسْبَابَ الْمُنَفِّرَةَ عَنْ فِعْلِهِ وَعَوَاقِبَهَا الْوَخِيمَةَ".

 

وَمِنْ أَوْصَافِهِ: وَصَفَهُ اللَّهُ بِالْعَظِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الْحِجْرِ:87]؛ فَالْقُرْآنُ عَظِيمٌ فِي مَصْدَرِهِ، عَظِيمٌ فِي مَبْنَاهُ، عَظِيمٌ فِي مَعْنَاهُ، عَظِيمٌ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْقُلُوبِ... بَلَغَ مِنْ عَظِيمِ تَأْثِيرِهِ أَنْ حَمَلَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ لَمَّا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ: "وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ"(الِاعْتِقَادُ، لِلْبَيْهَقِيِّ).

 

وَمِنْ أَوْصَافِهِ: أَنَّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)[فُصِّلَتْ:41]، فَالْقُرْآنُ عَزِيزٌ، أَيْ: عَدِيمُ النَّظِيرِ وَمَنِيعُ الْجَنَابِ؛ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَعَزِيزٌ لِأَنَّ اللَّهَ أَعَزَّهُ، أَيْ: مَنَعَهُ فَلَا يَجِدُ الْبَاطِلُ إِلَيْهِ سَبِيلًا.(ابْنُ كَثِيرٍ)، لِذَا قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- بَعْدَهَا: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)[فُصِّلَتْ:42].

 

وَمِنْهَا: أَنَّهُ كِتَابٌ مَجِيدٌ"، قَالَ -تَعَالَى-: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)[الْبُرُوجِ:21]، وَأَقْسَمَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَائِلًا: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)[ق:1]، وَالْمَجِيدُ هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ وَالسُّمُوِّ وَالسُّؤْدُدِ... الْفَرِيدُ فِي النَّظْمِ وَالْمَعْنَى وَالْإِعْجَازِ.

 

وَوَصَفَهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ: قَالَ -تَعَالَى-: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)[يُوسُفَ:1]، فَهُوَ كِتَابٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلَا طَلَاسِمَ وَلَا مُعَمَّيَاتٍ، فَالْمُبِينُ هُوَ: "الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ"(ابْنُ كَثِيرٍ).

 

وَمِنْ صِفَاتِهِ: أَنَّهُ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)[آلِ عِمْرَانَ:58]، أَيِ: الْمُحْكَمُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْخَلَلِ وَالزَّلَلِ، وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: عَرَفْتُمْ حَقِيقَةَ كِتَابِ رَبِّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ، وَبَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ كَثِيرَةٌ؛ كَيْفَ لَا وَهُوَ كِتَابٌ تَكَلَّمَ بِهِ رَبُّنَا جَلَّ فِي عَلْيَائِهِ؛ فَاعْرِفُوا لِهَذَا الْكِتَابِ قَدْرَهُ وَاحْفَظُوا آيَاتِهِ وَامْتَثِلُوا أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ وَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَاتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ تَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَدَارِ الْقَرَارِ؛ فَهُوَ السَّبِيلُ إِلَى السَّعَادَةِ وَتَحْقِيقِ الرِّيَادَةِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالزِّيَادَةِ.

 

فَطُوبَى لِمَنْ تَلَاهُ وَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ وَتَأَمَّلَ فِي بَدِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَفَقَّهَ فِي أَحْكَامِهِ وَدَلَائِلِهِ، وَطَبَّقَ أَحْكَامَهُ فِي حَيَاتِهِ وَأَحْيَا بِهِ لَيَالِيَهُ، وَهَنِيئًا لِمَنْ جَعَلَهُ أَنِيسَهُ وَمُوَاسِيَهُ وَرَفِيقَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

 

المرفقات

حقيقة القرآن ودلالات أسمائه وصفاته.doc

حقيقة القرآن ودلالات أسمائه وصفاته.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
29-03-2024

جيد