الاستماع إلى القرآن

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-09-22 - 1445/03/07 2023-10-02 - 1445/03/17
عناصر الخطبة
1/أهمية استماع القرآن الكريم 2/آداب الاستماع إلى القرآن الكريم 3/ فضائل الاستماع إلى القرآن الكريم 4/ نماذج من تأثير الاستماع إلى القرآن وتأثر المستمعين به

اقتباس

إِنَّ لِحُسْنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ أَثَرًا كَبِيرًا عَلَى النُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ حَتَّى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ لُغَتَهُ؛ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْظَمَهَا مِنْ آيَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى عِظَمِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْخَالِدَةِ الَّتِي لَا تُغَيِّرُهَا الدُّهُورُ وَلَا الْعُصُورُ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ حَاجَةَ الْمُسْلِمِ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، كَحَاجَتِهِ إِلَى الْقِرَاءَةِ؛ نَظَرًا لِمَا يُحْدِثُهُ الِاسْتِمَاعُ مِنْ أَثَرٍ حَسَنٍ عَلَى النَّفْسِ، وَمَا يَجْلِبُهُ مِنْ حُبٍّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ حَسَنِ الصَّوْتِ، فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ).

 

وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "كُنْتُ رَجُلًا قَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُرْسِلُ إِلَيَّ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكُنْتُ إِذَا فَرَغْتُ مِنْ قِرَاءَتِي قَالَ: زِدْنَا مِنْ هَذَا، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "حُسْنُ الصَّوْتِ زِينَةُ الْقُرْآنِ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَلِاسْتِمَاعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ قُدْوَتُنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْرَأْ عَلَيَّ" قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أَنْزِلُ؟! قَالَ: "فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النِّسَاءِ:41] قَالَ: "أَمْسِكْ" فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ: مَدْحُ اللَّهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ الْمُتَّبِعِينَ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزُّمَرِ:18].

 

وَلِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- آدَابٌ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا؛ حَتَّى يَحْصُلَ الْمُسْتَمِعُ عَلَى الْأَثَرِ النَّافِعِ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْهِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْآدَابِ:

الْإِنْصَاتُ التَّامُّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الْأَعْرَافِ:204]؛ قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "هَذَا الْأَمْرُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ سَمِعَ كِتَابَ اللَّهِ يُتْلَى؛ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُ وَالْإِنْصَاتِ".

 

وَمِنْ آدَابِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ: اخْتِيَارُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الْمُنَاسِبَيْنِ؛ فَالِاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ ضَوْضَاءَ أَوْ مَا يَشْغَلُ عَنِ الِاسْتِمَاعِ يَتَنَافَى مَعَ التَّوْجِيهِ الْإِلَهِيِّ لِحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ لَهُ وَالْإِنْصَاتِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الْأَعْرَافِ:204].

 

وَمِنْ آدَابِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ: الْبُعْدُ عَنِ الْأَسَالِيبِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ؛ كَتَرْدِيدِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ كَلَفْظِ الْجَلَالَةِ إِعْجَابًا، أَوْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِمَدْحِ الْقَارِئِ.

 

وَمِنْ آدَابِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ: تَدَبُّرُهُ وَالتَّفَاعُلُ مَعَهُ وَتَمَثُّلُهُ مَنْهَجًا وَسُلُوكًا، فَهَذِهِ الْغَايَةُ الْكُبْرَى مِنَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الْإِسْرَاءِ:9].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمَتَى مَا أَحْسَنَ الْعَبْدُ فِي اسْتِمَاعِهِ لِلْقُرْآنِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحَقِّقُ فَضَائِلَ كَثِيرَةً وَثِمَارًا عَظِيمَةً؛ مِنْهَا:

أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْهِدَايَةِ: قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنِ الْجِنِّ: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الْجِنِّ:1،2]، وَقَالَ -تَعَالَى- أَيْضًا: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الْأَحْقَافِ:29-32].

 

فَانْظُرُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- إِلَى هَؤُلَاءِ الْجِنِّ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا إِلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِنْصَاتِ لَهُ؛ حَتَّى يَعُوا وَيَفْهَمُوا مَا سَمِعُوا، وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَعَوْا آمَنُوا وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ دَاعِينَ.

 

وَهَذَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَيُوَافِقُ رَسُولَ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ فَيُنْصِتُ لَهُ، حَتَّى صَنَعَ فِيهِ ذَلِكَ الْإِنْصَاتُ مَا صَنَعَ مِنَ التَّأْثِيرِ، بَلْ قَدْ كَانَ هَذَا الِاسْتِمَاعُ مِنْ أَسْبَابِ إِسْلَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ)[الطُّورِ:35-37]" قَالَ: "كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ".

 

وَمِنْهَا: اسْتِحْقَاقُ رَحْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- كَمَا فِي قَوْلِ الْحَقِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الْأَعْرَافِ:204]؛ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: يُقَالُ: مَا الرَّحْمَةُ إِلَى أَحَدٍ بِأَسْرَعَ مِنْهَا إِلَى مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ، وَتَلَا الْآيَةَ.

 

وَمِنْ فَضَائِلِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ سَبَبٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ وَبُكَاءِ الْعَيْنِ: فَاسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ -تَعَالَى-: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الْإِسْرَاءِ:107-109].

 

أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ خَشَعَتِ  الْقُلُوبُ، وَدَمَعَتِ الْعُيُونُ، وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلِاهْتِدَاءِ -أَيْضًا-.

 

وَهَذَا إِمَامُ الْخَاشِعِينَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي قَالَ عَنْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْرَأْ عَلَيَّ"؛ قَالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ وَعَلَيْكَ أُنْزِلُ؟ قَالَ: "إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي". قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النِّسَاءِ:41]. قَالَ لِي: "كُفَّ أَوْ أَمْسِكْ"؛ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

 وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "فَبَكَى".

 

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "مَعْنَى اسْتِمَاعِهِ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: لِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْآنِ سُنَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَيْ يَتَدَبَّرَهُ وَيَفْهَمَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ، وَنَفْسُهُ أَخْلَى وَأَنْشَطُ مِنْ نَفْسِ الْقَارِئِ؛ لِأَنَّهُ فِي شُغْلٍ بِالْقِرَاءَةِ وَأَحْكَامِهَا".

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ؛ أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَذَلِكَ فَإِنَّ لِحُسْنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ أَثَرًا كَبِيرًا عَلَى النُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ حَتَّى أَنَّ الْقُرْآنَ لَيُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ لُغَتَهُ؛ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْظَمَهَا مِنْ آيَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى عِظَمِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْخَالِدَةِ الَّتِي لَا تُغَيِّرُهَا الدُّهُورُ وَلَا الْعُصُورُ.

 

كَمَا أَنَّ لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الْقُرْآنِ تَأْثِيرًا حَتَّى عَلَى قُلُوبِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ؛ فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَتْلُو الْقُرْآنَ عَلَى مَسَامِعِ قُرَيْشٍ فَيُؤَثِّرُ فِيهِمْ أَيَّمَا تَأْثِيرٍ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ أَكْثَرُهُمْ؛ فَقَدْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَوْمًا: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَاجْمَعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدُّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ، فَقُولُوا أَسْمَعْ، قَالُوا: نَقُولُ: كَاهِنٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بُكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ. قَالُوا: فَنَقُولُ: مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا تَخَالُجِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، لَقَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ، كُلَّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاجِرٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ، قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، قَالَ: وَاللَّهِ! إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ، وَإِنْ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: أَقْبِلُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْإِنْصَاتِ لِآيَاتِهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَثَرًا عَظِيمًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغَفْلَةَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ؛ فَإِنَّهَا تَحْرِمُ الْعَبْدَ مَنَافِعَ الِاسْتِمَاعِ الْجَزِيلَةَ وَآثَارَهُ الْجَلِيلَةَ.

 

جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

الاستماع إلى القرآن.doc

الاستماع إلى القرآن.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات