عناصر الخطبة
1/التعريف بالقراءات وتاريخها2/القراءات المتواترة، والقراء المتبوعين 3/حكمة وفوائد تعدد القراءات 4/الفرق بين الأحرف والقراءات 5/نماذج من اختلاف القراءات وتوجيهها.اقتباس
مِنْ حِكَمِ تَعَدُّدِ الْقِرَاءَاتِ وَالْأَحْرُفِ وَأَسْرَارِهَا: غَزَارَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ: فَكُلَّمَا تَعَدَّدَتِ الْقِرَاءَاتُ كُلَّمَا تَكَاثَرَتِ الْمَعَانِي، فَتَقُومُ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ مَقَامَ آيَاتٍ، فَتَتَّسِعُ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةُ وَتَسْتَوْعِبُ الْمُسْتَجِدَّاتِ وَالْمُسْتَحْدَثَاتِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: كَمْ مِنْ مُسْلِمٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَيُرَتِّلُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ! لِيَفُوزَ بِالْجَنَّاتِ وَالْأَنْهَارِ، وَيَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِزِّ وَالْفَخَارِ، لَا سِيَّمَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِتِلَاوَتِهِ وَوَعَدَنَا بِتَيْسِيرِهِ فَقَالَ: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[الْقَمَرِ:17]، يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "يَسَّرْنَاهُ لِلْحِفْظِ وَالْقِرَاءَةِ"، وَمِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُ أَنْ أَنْزَلَهُ عَلَى عِدَّةِ أَحْرُفٍ وَقِرَاءَاتٍ.
وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِالْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَطَرِيقِ أَدَائِهَا اتِّفَاقًا وَاخْتِلَافًا؛ وَمِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ؛ رَوَاهُ جَمْعٌ صَادِقُونَ عَنْ مِثْلِهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَاذٌّ لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ وَلَا نِسْبَتُهُ.
وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ -عِبَادَ اللَّهِ- لَيْسَتْ مُبْتَدَعَةً وَلَا مُسْتَحْدَثَةً؛ بَلْ لَقَدْ بَدَأَ ظُهُورُهَا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَحْتَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ"، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ لِي: "اقْرَأْ"، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يُقْرِئُونَ النَّاسَ الْقُرْآنَ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ، وَسَالِمٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَخُوهُ عَطَاءٌ، وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ.
ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ سَبْعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ، فَوَهَبُوا عُمُرَهُمْ وَجُهْدَهُمْ وَمَوَاهِبَهُمْ لِخِدْمَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَقِرَاءَاتِهِ، فَكَانُوا أَصْحَابَ فَضْلٍ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَأَوَّلُهُمْ: إِمَامُ أَهْلِ الْمَدَنِيَّةِ الْمُنَوَّرَةِ؛ الْإِمَامُ نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ: وَرْشٌ وَقَالُونُ، صَاحِبَا الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ.
وَثَانِيهِمُ: الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ، وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ: الْبَزِّيُّ وَقُنْبُلٌ.
وَثَالِثُ الْأَئِمَّةِ هُوَ: الْإِمَامُ ابْنُ الْعَلَاءِ الْبَصْرِيُّ، أَخَذَ قِرَاءَتَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ: الدُّورِيُّ وَالسُّوسِيُّ.
وَرَابِعُهُمُ: الْإِمَامُ ابْنُ عَامِرٍ الْيَحْصُبِيُّ مُقْرِئُ الشَّامِ، وَمِنْ تَلَامِيذِهِ: هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ ذَكْوَانَ.
وَخَامِسُهُمُ: الْإِمَامُ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ الْأَسَدِيُّ، مُقْرِئُ الْكُوفَةِ، وَقَدْ نَقَلَ عِلْمَهُ إِلَى: حَفْصٍ وَشُعْبَةَ، صَاحِبَيِ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ كَذَلِكَ.
وَسَادِسُهُمُ: الْإِمَامُ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الزَّيَّاتُ الْكُوفِيُّ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْقِرَاءَةَ: خَلَفٌ وَخَلَّادٌ.
وَسَابِعُهُمُ: الْعَالِمُ النَّحْوِيُّ الْمُقْرِئُ الْإِمَامُ الْكِسَائِيُّ، الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْإِقْرَاءِ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ حَمْزَةَ، وَوَرَّثَ عِلْمَهُ -بِدَوْرِهِ- لِلدُّورِيِّ، وَأَبِي الْحَارِثِ.
ثُمَّ أَضَافَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةً آخَرِينَ؛ وَهُمْ:
الْإِمَامُ: أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ، الَّذِي تَتَلْمَذَ عَلَى يَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَأَخَذَ عَنْهُ: عِيسَى بْنُ وَرْدَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ.
ثُمَّ مُقْرِئُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْإِمَامُ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، وَقَدِ اشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ: رُوَيْسٌ، وَرَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ.
وَأَخِيرًا الْإِمَامُ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْهُ: أَبُو يَعْقُوبَ الْوَرَّاقُ وَإِدْرِيسُ الْحَدَّادُ.
وَإِلَى هَذِهِ الْكَوْكَبَةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَجِلَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْفُضَلَاءِ تُنْسَبُ الْقِرَاءَاتُ الْعَشَرَةُ الْمَعْرُوفَةُ.
عِبَادَ اللَّهِ: وَالْحِكْمَةُ مِنْ تَعَدُّدِ الْقِرَاءَاتِ وَالْأَحْرُفِ: التَّيْسِيرُ عَلَى الْقَارِئِينَ لِلْقُرْآنِ؛ فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ -الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ- قَبَائِلَ شَتَّى، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ لَهْجَتُهُ الَّتِي اعْتَادَهَا وَلَا يُجِيدُ سِوَاهَا، فَلِقُرَيْشٍ لَهْجَةٌ، وَلِتَمِيمٍ أُخْرَى، وَلِطَيِّءٍ ثَالِثَةٌ... فَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلَهْجَةِ قُرَيْشٍ وَحْدَهَا لَشَقَّ عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، وَعَسُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْهَمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ"، فَقَالَ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَؤُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا".
وَمِنْ حِكَمِ تَعَدُّدِ الْقِرَاءَاتِ وَالْأَحْرُفِ وَأَسْرَارِهَا: غَزَارَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ: فَكُلَّمَا تَعَدَّدَتِ الْقِرَاءَاتُ كُلَّمَا تَكَاثَرَتِ الْمَعَانِي، فَتَقُومُ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ مَقَامَ آيَاتٍ، فَتَتَّسِعُ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةُ وَتَسْتَوْعِبُ الْمُسْتَجِدَّاتِ وَالْمُسْتَحْدَثَاتِ، مِصْدَاقًا لِقَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[الْأَنْعَامِ:38]، وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)[النَّحْلِ:89]، هَذَا مَعَ مَا فِي تَعَدُّدِ الْقِرَاءَاتِ مِنَ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ، وَتَجَنُّبِ الْإِطْنَابِ وَالتَّطْوِيلِ.
وَمِنْهَا: إِظْهَارُ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَعَظَمَتِهِ: وَأَنَّهُ تَنْزِيلُ الْعَظِيمِ الْقَدِيرِ -عَزَّ جَلَّ-؛ فَمَنْ سِوَى اللَّهِ -تَعَالَى- يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصُوغَ مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي جَزِيلِ مَبْنًى، وَفَصَاحَةِ أُسْلُوبٍ، وَإِحْكَامِ صِيَاغَةٍ، وَقِلَّةِ حُرُوفٍ؟! (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الْإِسْرَاءِ:88].
وَهَذَا يَحْمِلُنَا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ حَصَرَ الْأَحْرُفَ بِسَبْعٍ، فَكَيْفَ تَزِيدُ الْقِرَاءَاتُ عَنْ ذَلِكَ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْرُفِ وَالْقِرَاءَاتِ؟
وَالْجَوَابُ: إِنَّ مَصْدَرَ الْقِرَاءَاتِ وَالْحُرُوفِ كِلَيْهِمَا هُوَ التَّلَقِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الَّذِي تَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ، -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ الْأَحْرُفِ؛ فَالْحَرْفُ هُوَ نُزُولُ الْقُرْآنِ مُوَافِقًا لِلُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ؛ كَلُغَةِ قُرَيْشٍ أَوْ تَمِيمٍ... وَاللُّغَةُ الْوَاحِدَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا، وَمِنْ ثَمَّ تَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْ قِرَاءَةٍ؛ لِذَا زَادَ عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ عَنْ عَدَدِ الْأَحْرُفِ، فَالْحُرُوفُ شَجَرَةٌ وَالْقِرَاءَاتُ فُرُوعُهَا، وَلَا تَخْرُجُ أَيُّ قِرَاءَةٍ عَنْ أَحَدِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ.
أَمَّا الْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَاتِ تَقَعُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فَقَطْ يُنْطَقُ بِعِدَّةِ كَيْفِيَّاتٍ، أَمَّا الْأَحْرُفُ فَأَلْفَاظٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُجْمَعُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ.
وَفَرْقٌ ثَالِثٌ؛ وَهُوَ: أَنَّ فَائِدَةَ الْأَحْرُفِ هِيَ التَّخْفِيفُ وَالتَّيْسِيرُ عَلَى الْأُمَّةِ، أَمَّا فَائِدَةُ الْقِرَاءَاتِ فَهِيَ تَعَدُّدُ الْمَعَانِي وَتَنَوُّعُهَا؛ ثُمَّ لَنْ يَعْدَمَ الْمُتَأَمِّلُ أَنْ يُدْرِكَ مَزِيدًا مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ وَالْفُرُوقِ فِيمَا بَيْنَهُمَا.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: بِالْمِثَالِ يَتَّضِحُ الْمَقَالُ، وَإِنَّ مِنْ أَوَائِلِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي تُقَابِلُنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مَا قَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الْفَاتِحَةِ:4]، بَيْنَمَا قَرَأَهَا غَيْرُهُمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وَالْفَرْقُ بَيْنَ "الْمَالِكِ" وَبَيْنَ "الْمَلِكِ" مَعْرُوفٌ، وَيَسْتَدْعِي كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَسْرَارِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)[الْبَقَرَةِ :222]، بِسُكُونِ الطَّاءِ، حَيْثُ قُرِئَ: (يَطَّهَّرْنَ)بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَفَتْحِهِمَا؛ فَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: يَنْقَطِعُ حَيْضُهُنَّ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ: "يَغْتَسِلْنَ".
وَمِنَ النَّمَاذِجِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ)، بِالْيَاءِ عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:12]، بِأُسْلُوبِ الْمُخَاطَبَةِ، وَبَيْنَ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ تَتَدَاعَى الْمَعَانِي وَالْفُرُوقُ.
وَمِنْهَا: قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى)[الْحَجِّ:2]، بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْكَافِ، وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي: "سُكَارَى"، وَ"بِسُكَارَى"، أَمَّا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَقَرَآهُمَا: "سَكْرَى"، وَ"بِسَكْرَى"، بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ.
وَمِنْهَا: قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)؛ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تُوَضِّحُ وَتُبَيِّنُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَمَعْنَاهَا: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا.."؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ قَدْ تُشْكِلُ عَلَى الْبَعْضِ؛ إِذْ كَيْفَ يَسْأَلُ ذَلِكَ الْحَوَارِيُّونَ وَهُمْ خُلَّصُ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟!
وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَثِيرٌ لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لِحَصْرِهِ وَاسْتِقْصَائِهِ، وَكُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ -تَعَالَى- الْمُنَزَّلِ بِعِلْمِهِ وَأَمْرِهِ وَحِكْمَتِهِ، قُرْآنٌ يُتْلَى وَيُتَعَبَّدُ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ لَهُ، وَيُسْتَقَى مِنْ كُلِّ أَحْرُفِهِ وَقِرَاءَاتِهِ عُلُومٌ وَأَسْرَارٌ وَمِنَحٌ.
فَأَقْبِلُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- عَلَى كِتَابِ رَبِّكُمْ، وَاتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَتَدَبَّرُوا فِي قِرَاءَاتِهِ؛ لِتَزْدَادُوا مِنْهُ فَضْلًا مِنْ بَعْدِ فَضْلٍ، وَتَتَدَفَّقَ عَلَيْكُمْ مَعَانِيهِ وَأَسْرَارُهُ، فَتُصِيبَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِهِ وَنَفَحَاتِهِ.
فَاللَّهُمَّ قَرِّبْنَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ، وَعَلِّمْنَا مِنْ عُلُومِهِ، وَأَطْلِعْنَا عَلَى أَسْرَارِهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم