مكانة القرآن

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2024-09-05 - 1446/03/02
التصنيفات:

 

د. محمود بن أحمد الدوسري

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

 

جميع المسلمين على تباين أقطارهم، وتباعد ديارهم، واختلاف أشكالهم وألسنتهم وألوانهم، لا غنى لهم عن القرآن العظيم طرفة عين، ولا أقل من ذلك؛ لأنه المنهاج الأمثل الذي ارتضاه الله لهم، وبَيَّنَ لهم فيه كل شيء؛ من العقائد، والعبادات والمعاملات، والحقوق الشخصية.

 

ومهمة القرآن العظيم لا تقف عند حد الاعتقاد الصحيح وتوحيد الخالق، بل تزيد عليه تهذيب السلوك، وتربية القلب والعقل، وتصحيح المعاملات، وتطبيق قواعد العدل على النفس والغير.

 

وإذا كان الإنسان لا وجود له، ولا حياة، بغير الروح والقلب والعقل، فإن المسلمين لا كيان لهم، ولا حياة، ولا منزلة، بغير القرآن العظيم، فهو لهم الضياء والغذاء والشفاء.

 

لو تنشده أُمَّتُنا الإسلامية في عصرنا لَوَجدت فيه مُبتغاها من التَّشريعات الفردية والجماعية والعلائق الأسرية، والمعاملات الاقتصادية والقوانين المدنية والأنظمة الدولية.

 

وبعبارة أدق وأوجز: إن أمتنا الإسلامية تجد في القرآن الحكيم كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة، والدِّين والدُّنيا.

 

ولقد اشتمل القرآن العظيم على ست آلاف ومائتين وست وثلاثين آية احتوت جملة وتفصيلاً على العبادات والعقائد والتكاليف والأصول والأحكام، والمعاملات، وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها في السلم والحرب، وسياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، وكل ما يتصل ببناء المجتمع المسلم في نواحٍ شتى، ورسم الشخصية الإسلامية الكاملة؛ خُلقاً وأدباً وعلماً وعملاً[1].

 

وإن هذا القرآن العظيم يهدي المسلمين للتي هي أقوم في دنياهم وأخراهم، ويحفظ لهم طريق الإصلاح والصَّلاح، ويُنَظِّمُ لهم شؤونهم تنظيماً مُحكماً سديداً.

 

هذا القرآن الكريم يريد للمسلمين جميعاً أن يكونوا قوة في أنفسهم وعلى أعدائهم، لا يَظلمون ويعتدون، ولا يُظلمون ويُقهرون، ولكن عليهم أن يردوا الظلم والاعتداء، ثم لا يستزيدون.

 

هذا القرآن المجيد إذا تَدَبَّرهُ المسلمُ حَقَّ التدبر وعلم أهدافه استطاع أن يُبْعِدَ عن نفسه أخلاق الجاهلية الأُولى بكل ما تحمله من مفاسد وضلالات.

 

هذا القرآن الحكيم إذا رجع إليه المسلمون وفهموه على وجهه الصحيح استطاعوا بناء قوة تقدر على خوض معركة الحياة الضّارية بعزم وحزم، وهي متسلحة بسلاح العلم والتقوى والإيمان، والفضائل والأخلاق التي لم يَعُدْ لها مكان في هذه الحضارة المادية المعاصرة المتغلِّبة على القلوب والعقول والأبدان[2].

 

وفي هذا القرآن العزيز المخرج للمسلمين في كل مكان وزمان، يعتصمون به في روابطهم، ويقيمون أحكامه في حياتهم، ويجاهدون به أعداءهم، ويصلحون به دنياهم، ويستقبلون به آخرتهم، ولقد اقتضت سُنَّة الله تعالى أن تكون هداية هذا القرآن سبباً رئيساً لنجاتهم، قال تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124][3].

 

هذا الفرقان من الله تعالى، فَرَّقَ به بين الحقِّ والباطل، والعدلِ والجَوْر، والإحسان والإساءة، به أخرج الأمَّة من ظلمات الجهل، وشتات التَّفرق والتَّشرذم، وغيابات الطغيان والعصيان، والمتاهة في الأرض، لا قيمةَ لها ولا قَدْر، فبعثها من مَوَات، وأيقظها من سُبَات، فتقدَّمت به الأمم، وارتقت معه إلى نهاية القِمم، وسَمَتْ حضارتها على سائر الحضارات، فأخذتْ بزمام البشريَّة وركابها في طريق الرُّقي الحضاري، وقطعتْ بها أشواطاً.

 

ولمَّا تركت الأمَّة هذا الفرقان، خُذِلَتْ في كافَّة المجالات، ومختلف الميادين، فأصبحت عالةً على الأمم، وفي غاية السَّقَم، تتعرض للنِّقم، ولا تدري أنَّها هي سبب هذه النِّقم بتركها كتاب ربِّها. ولا سبيلَ لها لاستعادة سابق مجدها إلاَّ بتجديد العهد مع ربِّها والتَّمسُّك بكتابها، وتطبيقه في حياتها، فتستعيد عزَّها وشرفها، فمهما ابتغت العزَّة في غيره، أذاقها الله كأس الذِّلة والمَهانة.

 

إن القرآن المبين لم يغادر صغيرة ولا كبيرة فيها صلاح المجتمع المسلم والفرد المسلم إلاَّ أمر بها، وحذَّر مِنْ تركها والزهد فيها. فللقرآن العظيم في نفوس المؤمنين مكانة عظيمة ليست لأيِّ كتاب آخر على الإطلاق.

 

وكفى بالمسلمين شرفاً أن القرآن العظيم هو كلام ربِّ العالمين، نزَّله بواسطة رسوله الملكي الأمين، على رسوله البشري سيد الأنبياء والمرسلين، بلسان عربي مبين، فتعبَّدَ المسلمين بتلاوته وكفى بذلك تعظيماً في نفوسهم.

 

إنَّ الكتاب الذي يصل للناس من مؤلِّف قدير يعرفونه، يكون عزيزاً عندهم بمقدار ما يعرفونه عن ذلك المؤلِّف من مكانة علمية، فكيف بكتاب ربِّ العالمين القادر المقتدر العليم الحكيم؟

 

وإنَّ الكتاب الذي يُعطي الناسَ جزءاً صغيراً من المعلومات، وفي باب واحد من أبواب المعرفة، يكون عزيزاً لديهم بمقدار فائدتهم منه، فكيف بالكتاب الذي يحوي الخير كلَّه ويدل عليه؟

 

وإنَّ الكتاب الذي أعلمُ أن قراءتي له ترفع منزلتي بين أصحابي، يكون عزيزاً عندي بمقدار هذه الرفعة، فكيف بالكتاب الذي يرفع منزلتي في الملأ الأعلى، وعند ربِّ العالمين؟

 

وإنَّ الكتاب الذي يقدِّمُه إليَّ أستاذي، وأعلمُ أن قراءتي له ستزيد درجاتي عنده، أكون حريصاً على قراءته بقدر ما يزيدني من درجات وعلامات، فكيف بالكتاب الذي تكون تلاوته تعبُّداً يرفع درجاتي عند الله تعالى؟ ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

 

فلا يوجد كتاب في تاريخ البشرية كلِّه نال من المكانة في نفوس أصحابه كما نال القرآن العظيم في نفوس المسلمين، ولا يوجد أيضاً كتاب قُرئ وحُفظ في تاريخ البشرية بقدر ما قُرئ هذا الكتاب، ولا عجبَ أنْ سمَّاه الله تعالى «القرآن» فهو الكتاب المقروء، الذي لا تفتر قراءته في ليل، أو نهار، أو سر أو جهار، في صلاة أو ذكر، أو حلقة أو درس.

[1] انظر: مع كتاب الله، أحمد عبد الرحيم السايح، مجلة الجامعة الإسلامية، عدد (40)، (ربيع الأول 1398هـ)، (ص23-27).

[2] نظر: هذا القرآن، لعبد الحي العَمراني (ص9-11).

[3] انظر: القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق، محمد الراوي، مجلة الجامعة الإسلامية، عدد (50، 51)، (ربيع الآخر- رمضان 1401هـ)، (ص177-188).

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات