المرجعية المعصومة (1) القرآن الكريم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-14 - 1444/12/26 2023-07-29 - 1445/01/11
عناصر الخطبة
1/القرآن أعظم المرجعيات للمسلم 2/لماذا كان القرآن هو المرجعية؟ 3/براهين على وجوب الرجوع إلى القرآن 4/أمثلة على رجوع السلف إلى القرآن.

اقتباس

فَمَنْ أَسْلَمَ للهِ حَقًّا كَانَ الْقُرْآنُ مَرْجِعَهُ الْأَوَّلَ الَّذِي يَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ فِيهِ؛ يَأْتَمِرُ بِأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهِي عَنْ نَوَاهِيهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدودِهِ، وَإِنْ طَرَأَ عَلَى حَيَاتِهِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ رَدَّهُ إِلَيْهِ لِيَجِدَ فِيهِ الْحَلَّ الشَّافِيَ الَّذِي لَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى سِوَاهُ، وَالنُّورَ الْهَادِيَ الَّذِي يَهْدِيهِ إِلَى سُبُلِ السَّلَامِ.

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَيُّ مُجْتَمَعٍ بَشَرِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَرْجِعِيَّةٌ، وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الْمَرْجِعِيَّةُ مِنْ مُجْتَمَعٍ لِآخَرَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ مَرْجِعِيَّتُهُ دِينِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَرْجِعِيَّتُهُ عُرْفِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ قَانُونِيَّةٌ، وَمِمَّا نَمْتَازُ بِهِ نَحْنُ -أَبْنَاءَ الْإِسْلَامِ- أَنَّ مَرْجِعِيَّتَنَا مَعْصُومَةٌ، وَالْإِيمَانُ بِهَذِهِ الْمَرْجِعِيَّةِ الْمَعْصُومَةِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ، لَا تَسْتَقِيمُ دِياَنةُ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِهَا، وَلَا يَعْتَدِلُ سَيْرُهُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- إِلَّا عَبْرَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ الْجَازِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ رَيْبٌ؛ فَمِنْ مِشْكَاةِ تِلْكَ الْمَرْجِعِيَّاتِ الْمَعْصُومَةِ يَقْتَبِسُ أَنْوَارَ سَبِيلِهِ، وَبِضِيَائِهَا يَدْفَعُ ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ، وَدَيَاجِي الشَّهَوَاتِ الْمُرْدِيَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[الزمر:22].

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ أَعْظَمُ الْمَرْجِعِيَّاتِ لَدَى الْمُسْلِمِ؛ فَلَا يَتَقَدَّمُ شَيْءٌ عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْجِعُ الْمُسْلِمِ إِلَيْهِ، وَلَا يَعْلُوهُ قَوْلُ مَخْلُوقٍ، مَهْمَا عَلَتْ مَنْزِلَةُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ؛ عِلْمًا وَعَقْلاً وَرِفْعَةً؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ خَالِقِ الْخَلْقِ؛ فَتَقْدِيسُهُ مِنْ تَقْدِيسِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَمِنَ التَّقْدِيسِ: تَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ؛ فَمَنْ أَسْلَمَ للهِ حَقًّا كَانَ الْقُرْآنُ مَرْجِعَهُ الْأَوَّلَ الَّذِي يَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ فِيهِ؛ يَأْتَمِرُ بِأَوَامِرِهِ، وَيَنْتَهِي عَنْ نَوَاهِيهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدودِهِ، وَإِنْ طَرَأَ عَلَى حَيَاتِهِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ رَدَّهُ إِلَيْهِ لِيَجِدَ فِيهِ الْحَلَّ الشَّافِيَ الَّذِي لَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى سِوَاهُ، وَالنُّورَ الْهَادِيَ الَّذِي يَهْدِيهِ إِلَى سُبُلِ السَّلَامِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)[النساء:174].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُوَ مَرْجِعِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْأُولَى، وَدُسْتُورُهُمُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَوْلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، الَّذِي خَضَعَ لَهُ -طَوْعًا وَكَرْهًا- مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فَمِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِهَذَا الرَّبِّ الْعَظِيمِ وَالْإِلَهِ الْكَرِيمِ: أَنْ نَرْجِعَ إِلَى كَلَامِهِ وَنَعْدِلَ إِلَيْهِ، وَلَا نَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران:83]. 

 

أَفَتَبْتَغِي عِنْدَ الْأَنَامِ وَسِيلَةً***تَنْجُو بِهَا وَلَدَيْكَ قَوْلُ اللهِ

مَا نُورُ مِصْبَاحٍ لَدَى شَمْسِ الضُّحَى***لَا شَيْءَ قَطُّ لِقَوْلِهِ بِمُضَاهِي

 

وَلِأَنَّهُ مَقَالُ أَصْدَقِ الْقَائِلِينَ، الَّذِي لَا يَصْحَبُهُ كَذِبٌ وَلَا بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)[النساء:87]، وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)[النساء:122]. وَهَذَا "إِخْبَارٌ بِأَنَّ حَدِيثَهُ وَأَخْبَارَهُ وَأَقْوَالَهُ هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ؛ فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِمُنَاقَضَتِهِ لِلْخَبَرِ الصَّادِقِ الْيَقِينِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا"[تفسير السعدي].

 

فَيَا عَجَبًا مِمَّنْ يَتْرُكُ قَوْلَ أَصْدَقِ الصَّادِقِينَ، وَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْكَاذِبِينَ، أَفَيَسْتَبْدِلُ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ: "أَيْ: أَنَّكُمْ تَقْبَلُونَ حَدِيثَ بَعْضِكُمْ مِنْ بَعْضٍ مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ، فَأَنْ تَقْبَلُوا حَدِيثَ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى"[الْبَحْر المحيط].

 

وَالْقُرْآنُ هُوَ الْمَرْجِعِيَّةُ: لِأَنَّهُ كِتَابٌ مَعْصُومٌ لَا يَعْتَرِيهِ الْبَاطِلُ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا أَوْ تَحْرِيفًا أَوْ خَطَأً، وَحَرِيٌّ بِكِتَابٍ هَذَا وَصْفُهُ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت:41-42].

أَيْ:" لَا يَتَطَرَّقُهُ الْبَاطِلُ وَلَا يُخَالِطُهُ صَرِيحُهُ وَلَا ضِمْنِيُّهُ؛ أَيْ: لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْبَاطِلِ بِحَالٍ"[التحرير والتنوير].

 

وَهُوَ الْمَرْجِعِيَّةُ: لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَذَمَّ اللهُ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ فَيُعْرِضُونَ عَنْهُ ، فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[آل عمران:23].

 

فَيَا مَنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْقُرْآنِ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى آرَاءِ الْبَشَرِ الَّتِي تُخَالِفُ هَذَا الْقُرْآنَ، مَا هَذَا مِنْكَ إِلَّا إِعْرَاضٌ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.

 

وَهُوَ الْمَرْجِعِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ كِتَابُ الْهِدَايَةِ الْأَعْظَمِ، وَمَنْبَعُ النُّورِ الْأَتَمِّ، فَمَنِ اسْتَهْدَى بِهِ هَدَاهُ، وَمَنِ اسْتَنَارَ بِهِ أَنَارَ لَهُ طَرِيقَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، قَالَ اللهُ –تَعَالَى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء:9]، وَقَالَ تَعَالَى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ *  يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة:16]؛ فَهَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَى أَرْضِهِ، لِيُسْتَضَاءَ بِهِ، فَيُعْلَمُ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالنَّافِعُ مِنَ الضَّارِّ، وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ".

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: إِنَّ وُجُوبَ الرُّجُوعِ إِلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَدُلُّ عَلَيْهِ بَرَاهِينُ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا الْقُرْآنُ نَفْسُهُ، وَمِنْهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمِنْهَا الْعَقْلُ الصَّحِيحُ؛ فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ آيَاتٌ عَدِيدَةٌ يَأْمُرُ اللهُ فِيهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى كِتَابِهِ الْعَظِيمِ؛ كَقَوْلِهِ –تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء:59].

فَـ"هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ) فَمَا حَكَمَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَشَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟! وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)؛ أَيْ: رُدُّوا الْخُصُومَاتِ وَالْجَهَالَاتِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَكُمْ؛ (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَاكَمْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ خَيْرٌ) أَيِ: التَّحَاكُمُ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِمَا فِي فَصْلِ النِّزَاعِ خَيْرٌ (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أَيْ: وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ"[تفسير ابن كثير].

 

وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَثٌّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ، وَبَيَانٌ أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَلَنْ يَضِلَّ، وَهَذَا بُرْهَانٌ بَيِّنٌ عَلَى وُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ؛ فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرْفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرْفُهُ بِأَيْدِيكُمْ؛ فَتَمَسَّكُوا بِهِ؛ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا"[رواه ابن حبان].

 

وَعَنْ جَابِرٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "..وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللهِ"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

 

وَأَمَّا بُرْهَانُ الْعَقْلِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ يُسَلِّمُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَصْدَرِ السَّالِمِ مِنَ الْأَخْطَاءِ، الْبَرِيءِ مِنَ التَّحْرِيفِ، الْمُتَّصِفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ كَوْنِهِ مَرْجِعِيَّةَ الْمُسْلِمِ الْأُولَى؛ فَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ سَلِيمًا فَسَيُسَلِّمُ بِهَذَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِي عَقْلِهِ خَلَلٌ.

 

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا هِدَايَةً تَعْصِمُنَا مِنَ الْغَوَايَةِ، وَسَدَادًا يُصْلِحُ الْأَقْوَالَ، وَرَشَادًا يُصَحِّحُ لَنَا الْأَعْمَالَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الَّذِي عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَجَدَ تَمَسُّكَهُمْ بِهَذا الْكِتَابِ الْمُبِينِ، بِدِلَالَةِ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ فِي شُؤُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَشُؤُونِهِمُ الْعَامَّةِ، وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِهِ، فَإِذَا ذٌكِّرُوا بِهِ كَبَحُوا جِمَاحَ أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلُوا هَوَاهُمْ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ.

 

فَفِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-: "...ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أَثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ-: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ. فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[النور:22].

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: بَلَى، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ"[متفق عليه].

 

أَرَأَيْتُمْ إِلَى هَذَا الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَتَصْدِيقِ مَا جَاءَ فِيهِ لَدَى الصِّدِّيقِ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، مَعَ أَنَّ مِسْطَحًا قَدْ طَعَنَ فِي عِرْضِهِ فِيمَنْ طَعَنَ!.

 

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ؛ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ. وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ"[رواه البخاري].

 

فَيَا عِبَادَ اللهِ: الْزَمُوا كِتَابَ اللهِ، وَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَائْتَمِرُوا بِأَوَامِرِهِ، وَانْتَهُوا عَنْ نَوَاهِيهِ، وَاسْتَنِيرُوا بِضِيَائِهِ فِي ظَلَامِ الشُّبُهَاتِ، وَادْفَعُوا بِهُدَاهُ صَوْلَةَ الشَّهَوَاتِ؛ فَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ مَرْجِعَهُ وَدَلِيلَهُ، وَسَلَكَ بِهِدَايَاتِه سَبِيلَهُ.

 

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]. 

المرفقات

المرجعية المعصومة (1) القرآن الكريم.doc

المرجعية المعصومة (1) القرآن الكريم.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات