عناصر الخطبة
1/تلاوة القرآن العظيم 2/فوائد تدبر القرآن الكريم 3/من أعظم ثمرات تدبُّر القرآن 4/أهميَّة تدبُّر القرآن في عقولنا 5/تربية الأبناء على التدبر مع الحفظ.اقتباس
تَدبُّر القرآن يُخرج المتدبِّر من الحيرة والقلق النَّفسي؛ ليسكب فيه الشُّعور بالطُّمأنينة والاستقرار، كما يزحزحه من حال التَّعاسة إلى السَّعادة وراحة البال.. ومعرفة ما أنزل الله من أعظم ما يُربِّي العقول ويجعلها تفهم الحقائق النَّافعة فتتَّبِعها، والضَّارة فتجتنبها...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تلاوة القرآن العظيم لها ثمار حَسَنة تعود على القارئ، في الدُّنيا والآخرة، لكنَّ التَّدبُّر يضاعف هذه الثِّمار. وهي ثمار عديدة لا يمكن حصرها في هذه العجالة، ومن أبرزها:
1- تعميق جذور الإيمان:
تدبُّر آياتِ القرآن الكريم يجعل المؤمن يزداد يقيناً بأنَّه من عند الله -تعالى-، فلا يجد فيه آيةً تُعارض أخرى، ولا يجد لفظةً يمكن استبدالها بأخرى، وإنَّما يسير على نسق واحد من أوَّله إلى آخره، فيشعر المتأمِّل له أنَّ مصدره واحد، وأنَّه من لدن حكيمٍ خبير، وأنَّه لو كان من عند غير الله لوجد فيه اختلافاً كثيراً، وتناقضاً كبيراً.
معشر الفضلاء: وهذا اليقين يحقِّق الثَّبات على الإيمان، كما قال -تعالى-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 102]. وبذلك تتعمَّق جذور الإيمان في القلب، وتزداد رسوخاً.
ومن فوائد التَّدبُّر المُثمر أنه يعمل على تركيز الانتباه في الصَّلاة وخارجها ممَّا يُبعد وسوسةَ الشَّيطان؛ فيكون صاحِبُه من المفلحين الخاشعين، الذين قال الله -تعالى- فيهم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1-2].
أمَّا غير المؤمن فالتَّدبُّر يدفعه -إنْ كان منصفاً مُوَفَّقاً- إلى الإيمان بالله، والاعتقاد بأنَّ القرآن العظيم تنزيل من ربِّ العالمين، فيخرج بذلك من دائرة الإلحاد والشَّكِّ، إلى رحاب الإيمان واليقين، ومن ظلمات الضَّلالة والجهل، إلى نور الهداية والمعرفة.
والتَّدبُّر -في جميع الأحوال- يشفي الصُّدور من شكوكٍ تعتري المرتابين، ويشفي النُّفوس من أمراضٍ كثيرةٍ ومتنوِّعة، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57]. (انظر: دعوة إلى تدبر القرآن الكريم، مختار شاكر كمال، ص 194).
ومن ثمرات تدبر القرآن -إخوتي الكرم-:
2- معرفة الرَّبِّ جلَّ جلالُه:
ومن أعظم ثمرات تدبُّر القرآن: أنَّه يُعَرِّفُ بالرَّبِّ -تعالى-، وعظيمِ سلطانه وقدرته، وعظيمِ تفضُّله على المؤمنين. (انظر: أخلاق حملة القرآن، للآجري: ص 18).
وهذا ما أشار إليه السِّعدي -رحمه الله- عن فوائد التَّدبُّر؛ أنَّه "يُعَرِّف بالرَّبِّ المعبود، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزَّه عنه من سمات النَّقص. ويُعرِّف الطَّريقَ الموصلة إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه. ويُعرِّف العدوَّ والطَّريقَ الموصلة إلى العذاب؛ وصفة أهلها؛ وما لهم عند وجود أسباب العقاب، وكلَّما ازداد العبد تأمُّلاً فيه، ازداد علماً، وعملاً، وبصيرة"(تفسير السعدي: 1/376-377).
ومن ثمرات التدبر:
3- تحقيق العبوديَّة لله -تعالى-:
فتدبُّر القرآن وسيلة لمعرفة ما يريد الله مِنَّا، وكيفيَّة عبادته تبارك وتعالى، ومعرفة ما أنزل الله إلينا؛ لأنَّ القرآن العظيم هو أساس التَّشريع الذي يجب على العباد أنْ يتدبَّروه، ويلتزموا بأوامره، ويجتنبوا نواهيه؛ ليحقِّقوا عبادة الله -تعالى-.(انظر: كيف نتدبر القرآن، لفواز أحمد زمرلي: ص83).
وفي هذا الشَّأن يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلا تزالُ معانيه: تُنْهِضُ العبدَ إلى ربِّه بالوعد الجميل، وتخوِّفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتَحُثُّهُ على التَّضَمُّرِ والتَّخَفُّفِ لِلِقَاء اليوم الثَّقيل، وتَهديِه في ظُلَمِ الآراءِ والمذاهِب إلى سواءِ السَّبيل، وتصدُّهُ عن اقتحام طرقِ البدع والأضاليلِ، وتَبْعَثُهُ على الازديادِ من النِّعَمِ بشُكر ربِّه الجليل، وتُبَصِّرُهُ بحدودِ الحلالِ والحرام؛ لئلاَّ يتعدَّاها فَيَقَعَ في العناء الطَّويل، وتُسَهِّلُ عليه الأمورَ الصِّعابَ غايةَ التَّسهيل.
وتُناديه -كُلَّما فترتْ عَزَماتُهُ-: تَقَدَّمَ الرَّكبُ وفاتَك الدَّليلُ، فاللَّحاقَ اللَّحاقَ والرَّحيلَ الرَّحيلَ، وتَحْدُو به وتسيرُ أمامَهُ سيرَ الدَّليل، وكُلَّما خرج عليه كمينٌ من كمائن العدُوِّ، أو قاطعٌ من قُطَّاع الطَّريق؛ نادَتْهُ: الحَذَرَ الحذَرَ! فاعْتَصِمْ بالله، واستَعِنْ به، وقُلْ: حَسْبِيَ الله ونعمَ الوكيل.
وفي تأمُّل القُرآن وتدبُّره، وتفهُّمه، أضعافُ أضعافُ ما ذكرنا من الحِكَمِ والفوائد، وبالجملة: فهو أعظم الكنوز"(مدارج السالكين: 1/452-453، باختصار).
ومن ثمرات تدبر القرآن:
4- أنه غذاءٌ وعلاجٌ وسلاح:
فهو غذاء للرُّوح، وعلاج يشفي النُّفوس من علَّلها، ويُكْسِبها المناعة القويَّة؛ إذا أحسن المؤمن تدبُّرَه، قال -تعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82]؛ وقال -تعالى-: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت: 44].
أيها الإخوة الكرام: التَّدبُّر يُخرج المتدبِّر من الحيرة والقلق النَّفسي؛ ليسكب فيه الشُّعور بالطُّمأنينة والاستقرار، كما يزحزحه من حال التَّعاسة إلى السَّعادة وراحة البال.
كما أنَّ التَّدبُّر سلاح يدفع الأخطار المحدقة بالفرد والمجتمع من الدَّاخل والخارج؛ حيث يُسْتَعْمَلُ في جهاد النَّفس، ومقاومة المنافقين، وجهاد الكافرين على حدِّ قوله -تعالى-: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)[الفرقان: 52]؛ وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[التحريم: 9].
فالله -تبارك وتعالى- أمر أن يُجاهَدَ الكفَّارُ بالقرآن جهاداً كبيراً، ويكون هذا الجهاد بِحُجَجِ القرآن وأدلَّتِه وبراهينِه، وهو جهادُ أنبيائِه ورسلِه وخاصَّتِه من عباده، الذين تدبَّروا آيات الكتاب العزيز وجاهدوا بها أعداءه. (انظر: زاد المعاد، لابن القيم: 3/5).
وفي هذا الشَّأن يقول الطَّبري -رحمه الله-: "جاهِدْهُم بهذا القرآن جهاداً كبيراً، حتَّى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به، ويُذْعنوا للعمل بجميعه طوعاً وكرهاً". تفسير الطبري: 11/30).
ومفتاح هذا الجهاد الأكبر: هو تدبُّر القرآن العظيم؛ لأنَّ أعداء المسلمين لم يتسلَّطوا ويُحْكموا عليهم القبضة إلاَّ عندما هجروا تدبُّرَ القرآن، ولم يلتزموا بما جاء فيه.
ومن ثمرات تدبر القرآن:
5- أنَّ فيه تربيةً للعقول:
معرفة ما أنزل الله -تعالى- من أعظم ما يُربِّي العقول ويجعلها تفهم الحقائق النَّافعة فتتَّبِعها، والضَّارة فتجتنبها؛ فلا تميل بها الأهواءُ والخرافات الضَّارَّة المفسدة للعقول.
وليس العقل هو الذَّكاء، وقوَّة الفِطْنة، والفصاحة اللَّفظية، وإنَّما العقل الصَّحيح هو أن يَعْقِلَ العبدُ -في قلبه- الحقائقَ النَّافعة، ويميز بينها وبين ضِدِّها، ويعرف الرَّاجح من الأمور فيؤثره، والمرجوحَ أو الضَّارَ فيتركه. (انظر: كيف نتدبر القرآن، ص 83).
قال السِّعدي رحمه الله: "وسُمِّي العقلُ عقلاً؛ لأنَّه يَعْقِل به ما ينفعه من الخير، ويَنْعَقِل به عمَّا يضرُّه... فمَنْ أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشَّر فلم يتركه؛ دلَّ على عدم عقله وجهله"(تفسير السعدي: 1/57).
ومن ثمرات التدبر:
6- أنَّ فيه صقلاً للمواهب، وتنميةً للقدرات العقليَّة:
فتنمو فيه قوَّة الملاحظة، ومَلَكَة التَّفكير، وترتفع قدرته على معالجة الأمور، ويصبح حَكَماً عاقلاً عند اختلاف الآراء والأفكار، كما قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)[الزمر: 9](انظر: دعوة إلى تدبر القرآن الكريم، ص197).
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون.. استمعنا إلى بعض ثمرات التَّدبُّر الزَّاكية، فأين نحن منها؟
والذي نفسي بيده؛ ما تحصَّن عبد من الشَّيطان بمثل ما تحصَّن به مُتدبِّر القرآن، فهو أفضل الذِّكر، وبالذِّكر يخنس الشَّيطان ويهرب؛ ولذا لا تجد للشيطان على العالِم سبيلاً، فمَنْ أراد أن يكون في حصنٍ حصين، ودرعٍ متين، فلا غنى له عن تدبُّر القرآن العظيم.
ولا غَرْوَ أن يتساءل ابن القيِّم رحمه الله -في صيغة استنكارٍ وتوبيخٍ- عن حال مَنْ هَجَرَ تدبُّرَ نصوصِ الوحي، إذ يقول: "سبحان الله! ماذا حُرِمَ المعرِضون عن نصوص الوحي من كنوز الذَّخائر؟! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟! قَنِعوا بأقوالٍ استنبطَتْها مَعاوِلُ الآراء فِكْرًا، وتقطَّعوا أمْرَهم بينهم زُبُرًا، وأوحى بعضُهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً؛ فاتَّخَذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً"(مدارج السالكين: 1/5).
إخوتي الكرام: ما درجة أهميَّة تدبُّر القرآن في عقولنا؟ وهل نحن نربِّي أبناءنا وطلاَّبنا على التَّدبُّر في حِلَق القرآن؟ أم أنَّ الأهمَّ الحِفْظُ وكفى، بلا تدبُّرٍ ولا فَهْم؛ لأنَّ التَّدبُّر يُؤخِّر الحفظَ؟ وهل يربِّي المُعلِّم طلاَّبَه على التَّدبُّر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟
تُرى: ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التَّفسير من بين ما نقرأ؟ ومتى نقتنع أنَّ فوائد التَّدبُّر وأجرَه أعظمُ من التِّلاوة كهذِّ الشِّعر؟ أسئلةٌ تبحث عن إجابة؛ فهل من مُجيب؟
الدعاء...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم