يوسف محمد البيوش
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على النبي الأمي دائمًا وأبدًا.
القرآن الكريم هو هبة السماء إلى الأرض، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، لا تزيغ به العقول، ولا تلتبِسُ به الألسُنُ، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، فيه خبرُ ما قبلَكم ونبأُ ما بعدَكم وحكمُ ما بينَكم، هو الفصل ليس بالهزل.
وإن كانت معجزات الأنبياء قد أصبحت خبرًا من الأخبار ونبأً من الأنباء فإن معجزةَ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- باقيةٌ خالدةٌ نتلمَّسُها ونتلوها ما دامت السموات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول أمير الشعراء في نهج بردته الشهيرة في هذا المعنى:
جاءَ النبيونَ بالآياتِ فانصرمَتْ
وجئتَنَا بحكيمٍ غيرِ منصرمِ
آياتُهُ كلَّما طالَ المدى جُدُدٌ
يَزيْنُهُنَّ جلالُ العِتقِ والقِدَمِ
وقد نزل القرآن على أمة ما كانت تحسن شيئًا إحسانها البيان، ولا تقدِّرُ شيئًا تقديرها للشعر البليغ والكلام الفصيح والخُطَبِ المُجَلْجِلَةِ والأمثالِ السائرة، حتى قيل في حقها تلك أمةٌ سجدت للبيان قبل أن تسجد للأوثان.
فما سمعنا عربيًّا استهزأ بالبيان، في حين سمعنا من استهزأ بالأوثان، ألم يقل قائلهم: (أكلَتْ حنيفةُ ربَّها زمنَ التقحُّمِ والمجاعةِ)، وكذلك قصة إسلام الصحابي راشد بن عبد الله السُّلَّمي عندما رأى ثعلبًا يبول على صنمٍ له كان يعبده قبل إسلامه، فقال بيتًا سار مسرى المثل في الناس:
أَربٌّ يَبُولُ الثعلبانُ برأسِهِ *** لقد ذلَّ منْ بالَتْ عليهِ الثعالبُ
♦ أمَّا البيان فقد أَولَوْهُ كل عناية وأحلُّوه المحل الأسمى، كتبوه بماء الذهب وعلقوه على أستار الكعبة ولقبوه بألقاب كثيرة كالمعلّقات والمطوَّلات والمسمَّطات، وكثرة الأسماء بلا ريب دليلٌ على شرف المسمى، على هذه الأمة نزل القرآن الكريم ببيانٍ لا أعذبَ ولا أفصحَ ولا أبْيَنَ منه، ببيانٍ سجدت له أفئدتهم قبل أن تسجد له جباههم فهذا الوليد بن المغيرة على الرغم من كفره وعناده إلا أنه أقرَّ واعترف ببلاغة وبيان هذا القرآن العظيم فقال: (إنَّ له لحلاوةً وإنَّ عليه لطلاوةً وإنَّ أعلاه لمثمرٌ وإنَّ أسفلَه لمغدقٌ وإنَّه ليَعلو ولا يُعلى عليه، وما يقولُ هذا بشر).
ولا نستغرب ذلك من الوليد عندما نعلم أن غيره من صناديد قريش وقفوا مبهورين بعظمة هذا القرآن الكريم، فلقد كان أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق يأخذ كل واحد منهم نفسه خلسة لسماعه في الليل والرسول لا يعلم بمكانهم، ولا يعلم أحد منهم بمكان صاحبه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فإذا جمعهتم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، وتكرر معهم ذلك ثلاث ليالٍ، فقالوا لا نبرح حتى نتعاهد على ألا نعود، فتعاهدوا، فأخبر الله عز وجل نبيه عن ذلك فقال تعالى: ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 47].
أما الذي آمن وكان أحد فرسان المعلقات العشر وهو لبيد بن ربيعة فقد امتنع عن قول الشعر إيمانًا منه بعظمة هذا القرآن فلم يقل إلا بيتًا واحدًا في الإسلام حيث قال:
الحمدُ للهِ إذْ لمْ يأتنِي أجلِي *** حتى اكتسيتُ مِنَ الإسلامِ سربالا
هذا هو قرآننا المعجز الذي تحدّى الله به العرب الفصحاء أن يأتوا بعشر آيات من مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
وقد عبّر الشيخ محمد صالح الفرفور - رحمه الله – عما كان يجول في خاطر لبيد فقال:
ألقَى لبيدٌ عصاهُ حينَ أعجَزَهُ
قولٌ بليغٌ بآياتٍ لعمرانَا
ولم تَجُدْ بعدُ في شعرٍ قريحتُهُ
شتَّانَ شعرٌ وآيُ اللهِ شتَّانا
ذاك البيانُ الذي تبقَى عجائبُهُ
رَغْمَ الأنوفِ وإنْ شانُوه بُهتانَا
وبعد أن عرفت - أخي الحبيب - انبهار زعماء المشركين بعظمة القرآن الكريم قبل المسلمين، فهل يكون أولئك المشركون أكثر تدبرًا له منَّا؟!...
فاللهَ اللهَ في كتاب ربنا، تلاوة وتدبرًا، وليكن لنا وِرْدٌ يوميٌّ نصفّي به أروحنا من هموم الدنيا وشوائبها، وترتاح أفئدتنا بتلاوة آياته، وتطرب آذاننا لبلاغة عباراته، وتهدأ أنفسنا لمخاطبة ربنا لنا، فتنتظم حياتنا كما أرادها الله لنا، ونحصل بعد كل ذلك على الغُنْمِ الوفيرِ الذي أخبرنا عنه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم – حينما قال: "من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله حسنةٌ والحسنةُ بعشرةِ أمثالِها، لا أقول (ألم) حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ" أخرجه الترمذي.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم