إنه القرآن

الشيخ د فيصل بن عبد الرحمن الشدي

2023-02-03 - 1444/07/12 2023-02-13 - 1444/07/22
عناصر الخطبة
1/عظم أثر القرآن على القلوب 2/شهادة الأعداء على عظمة القرآن 3/واجبنا تجاه القرآن

اقتباس

يجتمع الأساقفة عند النجاشي وقد بسطوا صحفهم بين أيديهم، فيأتي المسلمون وعلى مقدمهم جعفر بن أبي طالب، فيتلوا عليهم صدر سورة مريم؛ فتنهمر دموع النجاشي حتى اخضلت لحيته، ويبكي الأساقفة حتى اخضلوا صحفهم بين أيديهم...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

                                    

اللهم لك الحمدُ أنزل القرآن لنا نوراً، وأشهد أن لا إله إلا هو جعل القرآن لنا دستوراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أبان في القرآن لنا أجوراً، اللهم صل وسلم عليه وآله وصحبه وأتباعه القائمين بالقرآن دهوراً، اللهم وأورثناهُ به الجنة حبوراً وسُعداً وسروراً.

 

وبعد: فاتقوا الله، فمن قام بالقرآن كان عمله مبروراً.

 

عباد الله: "خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فرده وقال له: َأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ"(رواه البخاري).

 

الله أكبر! يا لعظمتهِ وتأثيرِه، ويا لأثرهِ في عظيمِ الأمر وصغيرِه، لهيبتهِ وقوتهِ وعزَّتهِ هابُوه، لجلالته وقدسيِّته وهدايته لأبناءهم ونساءهم خافُوه؛ إنَّه القرآن، وإنَّهم الكفار أمامه في الصد عنه أعوان، يؤزهم الشيطان، ولكن هيهات هيهات هذا هو القرآن.

  

هَذا كِتابُ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ *** قَد فَاضَ نُوراً بَاهياً وَجَلالا

سُبحانَ مَنْ هَذا البَيانُ كِتَابُهُ *** مَلَكَ القُلوبَ وَمَزَّقَ الأَسدالا

 

إخوة الإيمان: إنه القرآن خافَه الكفار فعنه صدُّوا، وفي حربهم إياه شدَّوا، وقد فرشوا بساط العداء له ومدَّوا، وما لسماع الناس عنه فحسب ردَّوا، بل دعوا للغوا فيه وجهدوا، قال -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26]، ولكن أنّى لكفٍ أن تحجب ضوء الشمس؟! هذه شهادة الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ لما جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فرجع إلى قومه يعلنها صريحة "وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ "(صححه الحاكم ووافقه الذهبي).

 

الله أكبر! من وعى القرآن علِم سلطانَه، ومن فهم بيانَه أجَلَّ مكانَه، كيف والله أيَّد برهانه؛ (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[القيامة: 17 - 19]، يقدم جبير بن مطعم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فداء الأسرة بعد بدر، فإذا برسول الله يقرأ سورة الطور يرتِّلها، وما عرفت الدنيا أجمل ترتيلاً من رسول الله بأبي هو وأمي -صلوات الله وسلامه عليه-، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)[الطور: 35 - 37]، قَالَ جبير بن المطعم: "كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ"(رواه البخاري)، قال ابن كثير: "فكان هذا سبب هدايته"، إذ أسلم فيما بعد.

 

فإن كان هذا أثرُ القرآن في عبدة الأوثان، فكيف أثره في أصحاب الكتاب؟! يسمعه قساوسة النصارى فيتأثرون قال -تعالى- فيهم: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة: 83].

 

يجتمع الأساقفة عند النجاشي وقد بسطوا صحفهم بين أيديهم، فيأتي المسلمون وعلى مقدمهم جعفر بن أبي طالب، فيتلوا عليهم صدر سورة مريم؛ فتنهمر دموع النجاشي حتى اخضلت لحيته، ويبكي الأساقفة حتى اخضلوا صحفهم بين أيديهم، ويقول النجاشي: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة"(رواه أحمد وصححه الألباني).

 

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء: 107 - 109]، صح عند أبي داود وغيره أنه قرأ صلوات وربي سلامه عليه آية السجدة على المنبر وسجد، وسجد المسلمون معه، فنسجد تأسياً به واقتداء.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً الداعي إلى رضوانه.

 

وبعد: فلأجل القرآن وعظمته، وعزته وقوته، وتأثيره وهدايته، ضاق به الكفار ذرعاً، وجهدوا أنفسهم عنه صداً ومنعاً، فأقدم عليه قوم منهم بالإحراق، ونفخوا في بغضه الأبواق، ولكن هيهات هيهات!.

 

قُرآنُنا النَّورُ والأَعداءُ ظَلمَاءُ *** وكم تُبدِّدُ ليلَ الوهمِ أضواءُ

قُرآنُنا سُوَرٌ بِالحَقِّ نَاطِقَةٌ *** بَيانُها مُشرقٌ كَالشَّمسِ وَضَّاءُ

وَحيٌ من اللهِ مَحفوظٌ وإِنْ حَرَقوا *** أَوراقَه، فَلهُ في الرُّوحِ سِيمَاءُ

قُلوبُنا أَيُّها الغَاوي مَصاحفُنا *** فَبؤْ بخَيْبتِكَ الكُبرى كَمَنْ بَاءوا

 

عباد الله : لقرآنٌ هذا نورُه وربيعُه وعبيرُه، وهذا خوفُ الكفار منه وأثرُه وتأثيرُه، حريٌّ -وربي- أن نعود إليه عوداً حسناً، في ورد يومي لمن أراد الهدي السوي، وتدبرٍ فيه وتفكرٍ في معانيه، فهي -والله- حبل الله القوي.

 

اللهم صل وسلم على محمد.

 

المرفقات

إنه القرآن.pdf

إنه القرآن.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات