د. محمود بن أحمد الدوسري
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
إنَّ النَّاظر في القرآن العظيم يجد أنَّ الآيات التي تدلُّ على وجوب التَّحاكم إلى ما أنزل الله تعالى كثيرة، وقد وردت بأساليب متعدِّدة في الدَّلالة على وجوب احتكام النَّاس جميعًا؛ حكَّامًا ومحكومين إلى ما أنزل الله تعالى، وهي على النَّحو التَّالي:
الآية الأُولى: قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
خاطب الله تعالى المؤمنين في حالة اختلافهم في شيء من أمر دينهم فيما بينهم، أو فيما بين ولاة أمرهم - فتنازعوا في ذلك - أن يردُّوا معرفة حُكم ذلك المختلَف فيه إلى كتاب الله تعالى، فإنْ وجدوا لله تعالى في كتابه حُكْمًا اتَّبعوه، وإلاَّ ففي سنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهذا هو علامة التَّصديق بالله تعالى وباليوم الآخر[1].
وفي الآية دليل «على أنَّ مَنْ لم يتحاكم في مجال النِّزاع إلى الكتاب والسُّنَّة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنًا بالله، ولا باليوم الآخر»[2].
وكما أنَّ الآية تُوجب التَّحاكم إلى شرع الله تعالى؛ على الرَّاعي والرَّعيَّة سواء، فإنَّها أيضًا تفيد تحريم التَّحاكم إلى غير شرع الله؛ لأنَّ ما حَكَمَ به الكتاب والسُّنَّة، وشَهِدا له بالصِّحة فهو الحقُّ، وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال؟ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ أي: ردُّوا الخصومات والاختلافات إلى كتاب الله، وسنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فالإيمان لا يجيز الرَّد إلى غيرهما[3].
ولا يعني ذلك أنْ نردَّ المتنازَع فيه إلى ظواهر نصوص الكتاب والسُّنَّة فقط، بل المراد منه الرُّجوع إلى الشَّريعة بروحها ومقاصدها في صورتها الشَّاملة، كما فهمها السَّلف الصَّالح، وإلاَّ فإنَّ حرفيَّة النَّص التي يتمسَّك به أهل الظَّاهر، وجمود الفهم الذي يقف عنده أهل الغلو، ليس مرادًا في ذلك.
وفي الآية «أَمْرٌ بِرَدِّ كلِّ ما تنازع النَّاس فيه - من أصول الدِّين وفروعه - إلى الله والرَّسول، أي: إلى كتاب الله، وسنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ففيهما الفَصْل في جميع المسائل الخلافية، إمَّا بصريحهما، أو عمومهما، أو إيماءً، أو تنبيهًا، أو مفهومًا، أو عمومَ معنىً يقاس عليه، وما أشبه ذلك»[4].
ويستفاد من الآية الكريمة عدَّة أمور، منها:
1- أنَّ أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يُخرجهم ذلك عن الإيمان، إذا ردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، كما شَرَطَه الله عليهم.
2- أنَّ قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ نكرةٌ في سياق الشَّرط، تعمُّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدِّين، دِقِّه وجِلِّه، جليِّه وخفيِّه.
3- أنَّ النَّاس أجمعوا على أنَّ الرَّدَّ إلى الله وإلى رسوله: إلى كتابه، وإلى الرَّسول نفسِه في حياته، وسُنَّته بعد وفاته.
4- أنَّه جعل الرَّدَّ من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرَّدُّ انتفى الإيمان، ضرورةَ انتفاءِ المَلْزوم لانتفاء لازِمِه، ولا سيَّما التَّلازم بين هذين الأمرين، فإنَّه من الطَّرفين، وكلٌّ منهما ينتفي بانتفاء الآخر[5].
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60-61].
معنى الطَّاغوت: أصل الطَّاغوت: طَغَوتُ، من قول القائل: «طغى فلان يطغو» إذا عدا قَدْرَه فتجاوز حدَّه، كجبروت من التَّجبُّر، ثمَّ نُقلت لامُه فجُعلت عينًا، وحُوِّلت عينُه فجُعلت مكان لامِه[6].
ومعنى الطَّاغوت في الاستعمال الشَّرعي: هو ما ذكره ابن جرير رحمه الله بأنَّه: «كلُّ ذي طُغيانٍ على الله، فعُبِدَ من دونه، إمَّا بقهرٍ منه لمن عَبَده، وإمَّا بطاعةٍ ممَّن عَبَده له، إنسانًا كان ذلك المعبود، أو شيطانًا، أو وثنًا، أو صنمًا، أو كائنًا ما كان من شيء»[7].
والطَّاغوت كلمة يراد بها المفرد أحيانًا - كما في هذه الآية - ويراد بها الجَمْع في أحيان أخرى - كما في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ ﴾ [البقرة: 257]. والمعنى: أولياؤهم الطَّواغيت[8].
ويلاحظ في الآية:
1- أنَّ الله تعالى قال: ﴿ يَزْعُمُونَ ﴾، أي: يدَّعون الإيمان إذْ لو كانوا من أهل الإيمان الصَّادق، لما تحاكموا إلى غير الله ورسوله. فدلَّ على ادِّعائهم الإيمان، وهم كاذبون. قال ابن القيِّم رحمه الله: «فجعل الإعراضَ عمَّا جاء به الرَّسول، والالتفاتَ إلى غيره، هو حقيقة النِّفاق»[9].
2- أنَّ الله تعالى سجَّل على المتولِّين للطَّواغيت، والمتحاكمين إليهم، وَصْفَ الكفر، في حين أنَّ المطلوب منهم أصلًا الكفر بالطَّاغوت، كما قال تعالى: ﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾. ومن لوازم الإيمان بالله تعالى، الكفر بالطَّاغوت، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
والخلاصة: أنَّ الآيةَ الكريمة دلَّت على وجوب التَّحاكم إلى ما أنزل الله من عدِّة وجوه:
1- أنَّ الطَّاغوت عامٌّ في كلِّ ما عُبد من دون الله، ورضي بالعبادة من معبود، أو متبوع، أو مطاع، في غير طاعة الله ورسوله[10].
2- أنَّ التَّحاكم إلى الطَّاغوت من صفات المنافقين، الذين يُبطنون الكفر، ويُظهرون الإيمان.
3- أنَّ المُعرض عن حُكم ما أنزل الله، قد حُكم بنفاقه، فإذا ضَمَّ إلى ذلك مَنْعَ النَّاسِ من التَّحاكم إلى ما أنزل الله، كان هو أشدَّ كفرًا ونفاقًا.
4- اعتبار ادِّعاءِ الإيمانِ، مع إرادة التَّحاكم إلى غير شرع الله، مجرَّد زعمٍ باطل.
5- أنَّ الكفر بالطَّاغوت تكليفٌ مأمورٌ به.
6- أنَّ إرادة التَّحاكم إلى الطَّاغوت ناتجة عن إرادة الشَّيطان الإضلال لأولئك المتحاكمين إليه[11].
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
التَّحاكم إلى شرع الله مرتبط بالإيمان ارتباط السَّبب بالمسبِّب، فالمؤمنون مؤمنون؛ لإسلامهم وتسليمهم بحُكْم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي يَحْكم به عن وحي الله، والكافرون كفَّار؛ لإيمانهم واستسلامهم - قلبًا وقالبًا - لشرائع الطَّواغيت، وهذه قضيَّة من مُسلَّمات هذا الدِّين، التي أكَّدها الله تعالى في كتابه، بل أقسم في الآية عليها، وأكَّدها بمؤكِّدات كثيرة، ممَّا يُثبت ويؤكِّد: أنَّه لا يؤمن أحدٌ حتَّى يُحكِّم الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم في جميع أموره[12].
والآية الكريمة صريحة في منطوقها: في إفادة أنَّ التَّحاكم إلى ما أنزل الله، من الواجبات التي يختل الإيمان بالإخلال بها، وينتقض بالانتقاص منها[13].
قال ابن القيِّم رحمه الله عن هذه الآية: «أقسم سبحانه بِنَفْسِه المقدَّسة، قَسَمًا مؤكَّدًا بالنَّفي قَبْله، على عدم إيمان الخَلْق، حتَّى يحكِّموا رسولَه في كلِّ ما شجر بينهم، من الأصول والفروع، وأحكامِ الشَّرع، وأحكامِ المعاد، ولم يَثْبت لهم الإيمان بمجرَّد هذا التَّحكيم، حتَّى ينتفِيَ عنهم الحرجُ - وهو ضيق الصَّدر - وتنشرحَ صدورُهم لِحُكْمِه كلَّ الانشراح، وتقبلَه كلَّ القبول، ولم يَثْبت لهم الإيمان بذلك أيضًا، حتَّى ينضاف إليه مقابَلَةُ حُكْمِه بالرِّضى والتَّسليم، وعدمُ المنازعة، وانتفاءُ المعارضة والاعتراض»[14].
ولنستمع إلى كلامٍ نفيسٍ ودقيقٍ للشَّوكاني رحمه الله عند تفسيره للآية نَفْسِها، حيث قال: «وفي هذا الوعيد الشَّديد ما تقشعرُّ له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنَّه أوَّلًا أقْسَم سبحانه بِنَفْسِه، مؤكِّدًا لهذا القَسَم بحرف النَّفي بأنَّهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان - الذي هو رأس مالِ صالحي عبادِ الله - حتَّى تحصلَ لهم غايةٌ؛ هي تحكيمُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم.
ثمَّ لم يكتف سبحانه بذلك، حتَّى قال: ﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ﴾ فضَمَّ إلى التَّحكيم أمرًا آخر، هو عدم وجود حرج، أي: حرج في صدورهم، فلا يكون مجرَّد التَّحكيم والإذعان كافيًا، حتَّى يكون من صميم القلب، عن رضى واطمئنان، وانثلاج قلبٍ، وطِيب نَفْسٍ. ثمَّ لم يكتف بهذا كلِّه، بل ضمَّ إليه قولَه: ﴿ وَيُسَلِّمُوا ﴾ أي: يُذعنوا وينقادوا ظاهرًا وباطنًا.
ثمَّ لم يكتف بذلك، بل ضَمَّ إليه المصدر المؤكَّد فقال: ﴿ تَسْلِيمًا ﴾ فلا يثبت الإيمان لعبدٍ، حتَّى يقعَ منه هذا التَّحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قُضي عليه، ويسلِّم لحُكم الله وشرعه، تسليمًا لا يخالطه ردٌّ، ولا تشوبه مخالفة»[15].
والآية الكريمة تربط التَّحاكم بالدِّين كلِّه، من إسلامٍ وإيمانٍ وإحسانٍ: «فالتَّحكيم: في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج: في مقام الإيمان، والتَّسليم: في مقام الإحسان»[16]. «فَمَنِ استكمل هذه المراتب وكمَّلها، فقد استكمل مراتب الدِّين كلِّها»[17].
الآية الرَّابعة: قوله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 114]. الحَكَم هو الحاكم الذي يفصل في القضايا والخصومات، والحَكَم أبلغ من الحاكم، إذْ لا يستحقُّ التَّسمية بالحَكَم إلاَّ مَنْ يحكم بالحقِّ[18]. و«الحَكَمُ» من أسماء الله تعالى الحسنى؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ» الحديث[19].
ولمَّا كان الله عزّ وجل هو الحَكَم الحقَّ، فقد استنكرت الآية أن يُبتغى غيره في التَّحاكم، وهذا الاستنكار أفاد وجوب التَّحاكم إليه سبحانه.
ويلاحظ هنا: أنَّ النَّظْم الكريم قد قَرَن تنزيلَ الكتاب بوصف الحقِّ، ممَّا يدلُّ على أنَّ اتِّخاذ حَكَمٍ دونه هو من الباطل، بل من أبطل الباطل.
قال أبو السُّعود رحمه الله في معنى الآية: «﴿ أَفَغَيْرَ ﴾ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مُقَدَّرٍ يقتضيه الكلام، أي: قُلْ لهم: أأميلُ إلى زخارف الشَّياطين، فأبتغي حَكَمًا غيرَ الله تعالى، يحكم بيننا...
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾ أي: مُبيَّنًا فيه الحقُّ من الباطل، والحلال من الحرام، وغير ذلك من الأحكام، بحيث لم يبقَ في أمور الدِّين شيء من التَّخليط والإيهام، فأيُّ حاجةٍ بعدَ ذلكِ لِحَكَمٍ غيرِ الله؟ وهذا - كما ترى - صريح في أنَّ القرآن الكريم، كافٍ في أمر الدِّين، مُغْنٍ عن غيره، ببيانه وتفصيله»[20].
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 47-51].
وَصَفتِ الآية الكريمة المستجيبين لحكم الله ورسوله، بالإيمان والفلاح، وجيء بصيغة الحصر ﴿ إِنَّمَا ﴾؛ لدفع أن يكون مُخالِفُ هذه الحالة فيه شيء من الإيمان، وإنْ قال بلسانه: إنَّه مؤمن.
ودلالة الآية على وجوب التَّحاكم إلى الله والرَّسول واضحة؛ بثنائها على القائمين به، ومدحها لهم، ووعدها إيَّاهم بالفوز والفلاح، وواضحٌ أيضًا من ذمِّها للمعرضين عن التَّحاكم إلى الرَّسول، ووصفِها إيَّاهم بالظُّلم، والمرض، والرِّيبة.
وجوب إجابة القاضي المسلم: وقد استنبط العلماء من الآية: وجوب إجابة القاضي المسلم، واعتبروا الرِّضى بما يحكم، رضى بحكم الله في الحقيقة، إذا كان قضاؤه مستقى من الشَّريعة وحدها.
وممَّن صرَّح بذلك القرطبي رحمه الله حيث قال: «هذه الآية دليل على وجوب إجابة الدَّاعي إلى الحاكم؛ لأنَّ الله سبحانه ذَمَّ مَنْ دُعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه فأبى، بأقبح الذَّمِّ فقال: ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... ﴾. قال ابن خُوَيْز منداد: واجب على كلِّ مَنْ دُعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أنَّ الحاكم فاسق»[21].
وتبعه - في حكاية التَّصريح - الشَّوكاني رحمه الله حيث قال: «في هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي، العالمِ بحُكْم الله، العادلِ في حُكمه؛ لأنَّ العلماء ورثة الأنبياء، والحُكْمُ من قضاة الإسلام، العالمين بحكم الله، العارفين بالكتاب والسُّنَّة، العادلين في القضاء، هو حُكْمُ اللهِ، وحُكْمُ رسولِه، فالدَّاعي إلى التَّحاكم إليهم، قد دعا إلى اللهِ وإلى رسولِه، أي: حُكمِهما»[22].
مسألة: هلِ المُعرِض عن مجلس الحاكم المسلم، كالمُعرض عن نَفْسِ حُكم الشَّريعة؟
جوابها: الأمر يحتاج إلى تفصيل في هذه المسألة، وهو يرجع إلى حال المتحاكِم، وحالِ الحاكم، فقد يكون المُعرض عن مجلس الحاكم مُعرضًا عن شخصه، لا عن التَّشريع الذي يحكم به، وحال هذا يختلف عن حال الطَّاعن في الأحكام، التي يصدر عنها الحاكم.
وقد حكى ابن عاشور رحمه الله - هذا التَّفصيل - بقوله: «ولا يُخالف الرَّسولُ في حُكمه شَرْعَ الله تعالى، ولهذا كانت الآية خاصَّة بحُكْم الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، فأمَّا الإعراض عن حُكمِ غيرِ الرَّسول فليس بكفر، إذا جَوَّزَ المُعرِضُ على الحاكم: عدمَ إصابته حُكْمَ الله تعالى، أو عدمَ العدلِ في الحُكم...
ثمَّ إنَّ الإعراض عن التَّقاضي لدى قاضٍ يحكم بشريعة الإسلام؛ قد يكون: للطَّعن في الأحكام الإسلاميَّة، الثَّابتِ كونِها حُكْمَ الله تعالى، وذلك كفرٌ؛ لدخوله تحت قولِه تعالى: ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا ﴾ [النور: 50].
وقد يكون: لمجرَّد متابعة الهوى، إذا كان الحُكْم المخالف للشَّرع، ملائمًا لهوى المحكوم له، وهذا فسوق وضلال، كشأن كلِّ مخالفةٍ يُخالف بها المكلَّف أحكامَ الشَّريعة؛ لاتِّباع الأعراض الدُّنيويَّة.
وقد يكون: للطَّعن في الحاكم، وظنِّ الجَوْر به، إذْ كان غير معصوم، وهذا فيه مراتب بحسب التَّمكُّن من الانتصاف من الحاكم وتقويمه»[23].
الآية السَّادسة: قوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى:10]. في هذا الآية إشارة بالغة الرَّوعة؛ فقد قرن الله عزّ وجل بين كونه صاحب الحُكم الذي يُرجع إليه، وبين كونه هو الربُّ - سبحانه - فلمَّا اتَّصف - جلَّ وعلا - بصفات الرُّبوبية: من قدرةٍ على الخلق والرِّزق، والعطاء والمنع، وسائر صفاته التي لا يُنكرها إلاَّ جاحد كافر به - سبحانه - استحقَّ أن يكون له وحده الحُكم.
وقد بيَّن الله تعالى - في آيات كثيرة - صفاتِ مَنْ يستحقُّ أنْ يكون الحُكْم له، وأسهب الشَّنقيطي رحمه الله في بيان ذلك؛ بما لا تجده في موضعٍ آخر، وممَّا قاله: «فمن الآيات القرآنيَّة التي أوضح بها تعالى صفات مَنْ له الحُكْم والتَّشريع، قوله هنا: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ ثمَّ قال مبيِّنًا صفات مَنْ له الحُكْم: ﴿ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 10-12]. فهل في الكفرة الفجرة المشرِّعين للنُّظم الشَّيطانية، مَنْ يستحقُّ أنْ يوصفَ بأنَّه الرَّبُّ الذي تُفوَّض إليه الأمور، ويُتوكَّل عليه، وأنَّه فاطر السَّماوات والأرض، أي: خالقهما ومخترعهما على غير مثالٍ سابق، وأنَّه هو الذي خَلَق للبشر أزواجًا...؟!
فعليكم أيُّها المسلمون أن تتفهَّموا صفاتِ مَنْ يستحقُّ أنْ يُشَرِّعَ ويُحلِّلَ ويُحرِّمَ، ولا تقبلوا تشريعًا من كافرٍ خسيسٍ حقيرٍ جاهل...
ومن الآيات الدَّالة على ذلك، قوله تعالى: ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 26]. فهل في الكفرة الفجرة المشرِّعين مَنْ يستحقُّ أنْ يُوصفَ بأنَّ له غيبَ السَّماوات والأرض؟! وأنْ يُبالَغَ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكلِّ المسموعات، وبصره بكلِّ المُبْصرات؟! وأنَّه ليس لأحدٍ دونه من ولي؟! سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ومن الآيات الدَّالة على ذلك، قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]. فهل في الكفرة الفجرة المشرِّعين مَنْ يستحقُّ أنْ يُوصفَ بأنَّه الإله الواحد؟! وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهه؟! وأنَّ الخلائق يرجعون إليه؟! تبارك ربُّنا، وتعاظم وتقدَّس، أنْ يُوصفَ أخسُّ خلقِه بصفاته...
ومنها، قوله تعالى: ﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ [الأنعام: 57]. فهل فيهم مَنْ يستحقُّ أنْ يُوصفَ بأنَّه يقصُّ الحقَّ، وأنَّه خير الفاصلين؟! ومنها، قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 59].
فهل في أولئك المذكورين مَنْ يستحقُّ أنْ يُوصَفَ بأنَّه هو الذي يُنَزِّلُ الرِّزق للخلائق، وأنَّه لا يمكن أن يكون تحليلٌ ولا تحريمٌ إلاَّ بإذنه؟! لأنَّ من الضَّروري أنَّ مَنْ خَلَق الرِّزقَ وأنزله، هو الذي له التَّصرُّف فيه، بالتَّحليل والتَّحريم. سبحانه جلَّ وعلا، أن يكون له شريك في التَّحليل والتَّحريم»[24].
الآية السَّابعة: قوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 21]. هذه الآية الكريمة موجبة للتَّحاكم إلى شرع الله، من حيث إنكارها على الذين لا يتَّبعون ما شَرَع الله من الدِّين القويم، بل يتَّبعون ما شَرَع لهم شياطين الجنِّ والإنس، من تحريم ما لم يحرِّم الله، أو تحليل ما لم يحلِّله[25].
واتِّباع شرائع هؤلاء الشَّياطين هو الأصل في باب الضَّلالة والشَّقاوة، ومع ذلك سمِّيت دينًا، ولكنَّه دين مضادٌّ لدين الله؛ لأنَّه يقوم على العمل للدُّنيا، فأصحابها لا يعلمون، ولا يعملون إلاَّ لها[26].
وحتَّى لو كان هؤلاء المطيعون للشُّركاء يريدون بطاعتهم نوعًا من العبادة والقربى، فإنَّ ذلك غير مقبولٍ منهم، بل مردود عليهم؛ لأنَّ الله تعالى لا يُعبد إلاَّ بما شَرَع، لا بما شَرَع الطَّواغيت، وزيَّن الشَّياطين.
وفي هذا الشَّأن يقول ابن تيميَّة رحمه الله: «ومَنِ اعتقد أنَّ لأحدٍ - من جميع الخَلْق، علمائِهم، وعبَّادِهم، وملوكهم - خروجًا عن اتِّباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته، وأَخْذِ ما بُعث به من الكتاب والحكمة، فهو كافر، فيجب التَّفريق بين العبادات الإسلاميَّة الإيمانيَّة النَّبوية الشَّرعية التي يُحبُّها الله ورسوله، وعبادُه المؤمنون، وبين العبادات البِدْعيَّة الضَّلالية الجاهليَّة، التي قال الله فيها: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾»[27].
[1] انظر: تفسير القرطبي (5/ 263).
[2] تفسير ابن كثير (2/ 385).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (2/ 385)؛ أضواء البيان (1/ 92-93).
[4] تفسير السعدي (1/ 362).
[5] انظر: أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 51-53).
[6] انظر: المفردات في غريب القرآن (ص308)، مادة: (طغى).
[7] تفسير الطبري (3/ 19).
[8] انظر: المصدر السابق (ص308)؛ تفسير القرطبي (3/ 282).
[9] مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم، لمحمد الموصلي (2/ 353).
[10] انظر: أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 49-50)؛ فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 542).
[11] انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 545).
[12] انظر: تفسير ابن كثير (3/ 211).
[13] انظر: المصدر السابق (1/ 178).
[14] التبيان في أقسام القرآن (ص270).
[15] فتح القدير (1/ 730).
[16] مدارج السالكين (2/ 192).
[17] تفسير السعدي (1/ 185).
[18] انظر: المفردات في غريب القرآن (ص134)، مادة: (حكم).
[19] رواه أبو داود (4/ 289) (ح4955)؛ وابن حبان في «صحيحه» (2/ 257) (ح504)؛ والبخاري في «الأدب المفرد» (1/ 282) (ح811)؛ وصحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (3/ 216) (ح4955)؛ و«صحيح الأدب المفرد» (ص302) (ح623).
[20] تفسير أبي السعود (3/ 177).
[21] الجامع لأحكام القرآن (12/ 293 ـ 294).
[22] فتح القدير (4/ 66).
[23] التحرير والتنوير (4/ 177-178).
[24] أضواء البيان (7/ 175-179).
[25] انظر: تفسير ابن كثير (7/ 197).
[26] انظر: التفسير الكبير (27/ 140).
[27] مجموع الفتاوى (27/ 59-60).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم