عناصر الخطبة
1/ أهمية اللغة العربية ومكانتها 2/ أسباب محاربة اللغة العربية 3/ أساليب محاربة اللغة العربية 4/ محافظة اليهود والوثنيين على لغاتهم وإحرازهم التقدم العلمي بهااقتباس
إن اللغة العربية هي شعار الدين ووعاؤه، والقرآن لا يقرأ كما أنزله الله تعالى إلا بالعربية، ولا يُتَعَبَّدُ بتلاوته إلا بها، وكُلُّ النصوص التي جاء فيها فضل قراءة القرآن، فإنما مرادها قراءته بلسان العرب، ومن هنا كان تعلم اللسان العربي لكل مسلم دائرا بين الواجب والمستحب؛ فبها ما لا تتم العبادة إلا به، كقراءة الفاتحة، فلا بد أن يقرأها الأعجمي بلسان عربي، ولا تغنيه ترجمتها أو فهم معانيها شيئا، ولا تصح صلاته إلا بها ..
الحمد لله رب العالمين؛ جعلنا من أمة الأميين، وأرسل إلينا خاتم المرسلين، وأنزل عليه كتابه الكريم، بلسان عربي مبين؛ نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أولانا وأعطانا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالرسل، وابتلى الرسل بعباده، فمنهم من آمن، ومنهم من حقت عليه الضلالة.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ علمه ربه -عز وجل- فأحسن تعليمه، وأدَّبه فأحسن تأديبه، آتاه جوامع الكلام، وأعطاه معاقد البيان، وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في كل أحوالكم وأحيانكم، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48].
أيها الناس: لكل أمة من الأمم شعائرها ومناسكها التي تنسكها، وتتمسك بها، وتدعو إليها، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة:48]، وفي آية أخرى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) [الحج:67].
ولسان القوم هو وسيلة الخطاب بينهم، ولغتهم هي وعاء منسكهم وشعيرتهم ودينهم، وكل قوم يفاخرون بلسانهم، ويدعون إلى لغتهم.
وقد أنعم الله تعالى على أمة العرب بأفصح لسان، وأقوى بيان، ثم كان تاج ذلك وتتمته بعثة أفصح البشر -عليه الصلاة والسلام- منهم، ونزول كلام الله تعالى بلسانهم، (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:192-195]، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ" متفق عليه.
وحُفظت العربية بحفظ القرآن، حتى قيل: لولا القرآن ما كانت عربية. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
ولم تُحفظ سائر لغات البشر، بل كانت عبر العصور تندثر وتتبدل وتتغير، وبقيت عربية اليوم هي عربية صدر الإسلام.
إن اللغة العربية هي شعار الدين ووعاؤه، والقرآن لا يقرأ كما أنزله الله تعالى إلا بالعربية، ولا يُتَعَبَّدُ بتلاوته إلا بها، وكل النصوص التي جاء فيها فضل قراءة القرآن، فإنما مرادها قراءته بلسان العرب، ومن هنا كان تعلم اللسان العربي لكل مسلم دائرا بين الواجب والمستحب؛ فما لا تتم العبادة إلا به، كقراءة الفاتحة، فلا بد أن يقرأها الأعجمي بلسان عربي، ولا تغنيه ترجمتها أو فهم معانيها شيئا، ولا تصح صلاته إلا بها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة-رحمه الله تعالى-: "اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.
ولأجل هذا كانت العربية من شعائر الدين، وكان المساس بها، أو احتقارها احتقارا للدين، وللقرآن الذي أُنزل بها، ومحاربتها محاربة للدين، والدعوة إلى غيرها دعوة ضد دين الإسلام؛ وقد جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: تعلموا العربية فإنها من دينكم. وقال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-: اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون.
ولما كانت هذه هي منزلة العربية من دين الإسلام؛ فإن أعداء الملة كرسوا حربهم لها، وسلقوا ألسنتهم بتحقيرها وتصغيرها، وسنوا أقلامهم لنقدها وعيبها؛ لأنها لسان القرآن وبيانه، ولعلمهم أنها وعاء الإسلام وشعاره، فتنفير الناس منها، وصرفهم عنها، ما هو إلا صرف عن كتاب الله تعالى، وعن دين الإسلام.
لقد اشتدت على لغة القرآن حربهم، وتنوعت أساليبهم ووسائلهم، وما وهنت عزيمتهم، ولا يئسوا من تحقيق مرادهم، وكان من محاولاتهم البائسة ادِّعاؤهم صعوبة العربية، ودعوتهم إلى إصلاحها والتعديل عليها، فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات، ومنهم من دعا إلى تدمير قواعد الكتابة، وقال قائلهم في ذلك: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين.
وسخر أحدهم من قواعد العربية، ودعا إلى تركها في مقالة عَنْوَنَها بقوله: "هذا الصرف وهذا النحو. أمَا لهذا الليل من آخِر؟! وآخرون منهم ركزوا هجومهم على الخط العربي، ودعوا إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية، بعد أن أقنعهم بعض المستشرقين بهذا الإثم المبين، وألفوا كتبا في ذلك، وقاموا بتجارب ومحاولات استجلبوها من فعل الترك لما كتبوا اللغة التركية بالأحرف اللاتينية.
وكانت أكبر محاولة لإلغاء لغة القرآن دعوة بعضهم إلى اللهجات العامية المحلية بديلا عن اللغة العربية، ونشط المستشرقون وأذناب المستعمرين لإنجاح هذه المحاولة، وفي القرن الماضي بذلوا جهودا مضنية في هذا السبيل المظلم، وتفرغ بعض الأوربيين لدراسة لهجات مدن مصر والشام، وألفوا كتبا فيها، ووضعوا -بزعمهم- قواعد لها، ودعا أحدهم إلى أن تكون اللهجة العامية هي اللغة الوحيدة للبلاد المصرية، وألقى مستشرق محاضرة قال فيها بكل صفاقة ووقاحة: إن ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى! وأعلن في آخر محاضرته عن مسابقة للخطابة بالعامية، ومن تكون خطبته جيدة ناجحةً فله مكافأة مجزية.
وتَوَّج هذا الضلال والانحراف قبطي شيوعي حين كتب كتابا دعا فيه إلى كسر رقبة البلاغة العربية وإلى الكتابة بالعامية.
وتعدى هذا العدوان على لغة القرآن مصر إلى الشام، فكرس أحد المنحرفين وقته في ضبط أحوال العامية في لبنان، وتقييد شواردها؛ لاستخدامها في كتابة العلوم، وادعى أنه وجد أسباب التخلف في التَّمسك بالفصحى، ثم ورث ابنه عنه ضلاله، فأكمل مسيرة أبيه الضالة، وزعم الابن بعد أبيه أنَّ اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أسباب تخلفهم! ثم قال: ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها، وهذا أعدُّهُ أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي. وتمنى أحد موارنة الشام أن يرى عملاً عسكرياً سياسياً يَفرض اللغة العامِّية على الناس.
والحمد لله الذي خيب أملهم أجمعين ، فبقي لهم ما يسوؤهم من قوة لغة الضاد ومتانتها، وحاجة العرب إليها.
وليس العراق بعيدا عن الشام، إذ وصلت إليه دعوة إلغاء العربية، ودعوى أنها سبب التخلف، فهذا شاعر عراقي يقول: فتَّشْتُ طويلاً عن انحطاط المسلمين، فلم أجد غير سببين، أولهما: حجاب المرأة، والثاني: هو كون المسلمين -ولا سيما العرب- منهم يكتبون بلغة غير التي يحكونها.
وفي القرن الفائت تزامن في دول المشرق العربي مع الدعوة إلى العامية إصدار جرائد ومجلات وكتب باللهجات العامية المختلفة، حتى بلغت سبع عشرة جريدة ومجلة عامية، غير عشرات من قصص الأطفال والناشئة تكتب باللهجات المحلية؛ لتربية أولاد المسلمين عليها، وإحلالها محل لغة القرآن.
وتسابق المستشرقون على إصدار عشرات الدراسات والكتب عن اللهجات العامية، وأصولها، ومحاولة وضع القواعد لها؛ وكلها محاولات فشلت بحمد الله تعالى أمام عظمة لغة الضاد، وهلك أصحابها، وهلكت مشاريعهم التخريبية.
ولما اخترعت الإذاعة والتلفزة نشطت هذه الدعوات الآثمة من جديد، وتبنى الدعوة إليها تلامذة المفسدين المتقدمين، ودعوا في حوارات وبرامج إلى إماتة لغة القرآن واستبدال غيرها بها، وسخَّروا المشاهد التمثيلية والمسرحية الهزلية لهذه المهمة القذرة، فصوروا مدرسي اللغة العربية في أشكالهم وحركاتهم ولباسهم في صور البله والمعاتيه والدراويش، وجعلوهم أضحوكة للمشاهدين والمستمعين، وما من نقيصة إلا ألصقوها بهم، ولا محمدة إلا نفوها عنهم، فوصموهم بالغش والكذب والاستغلال، والجهل والتخلف، والجبن؛ لينقدح في ذهن المستمع والمشاهد أن هيئتهم وأخلاقهم مستمدة مما يدرسون من قواعد اللغة العربية وبلاغتها ونحوها وصرفها، فينصرف الناس عنهم وعن المواد التي يدرسونها، وتُلقى في قلوبهم كراهيتها.
وفي مقابل هذه الصورة المهينة التي ظلموا بها معلمي العربية، فإنهم يصورون مدرسي اللغات الأجنبية في أحسن هيئة وأبهى حلة، ويخلعون عليهم من الأوصاف والأخلاق، والعلم والثقافة، والكرم، والشجاعة، ما أكثره كذب وتزييف؛ ليستقر في ذهن المشاهد والمستمع أن هيئتهم وأخلاقهم وثقافتهم مستمدة من اللغات الأجنبية التي يدرسونها؛ فيحبهم الناس، ويتمنون لأولادهم ما لهم.
وهناك عشرات المشاهد التمثيلية والمسرحية المحفوظة شاهدة على هذا التزييف والإضلال للناس، وهكذا تُصاغ العقول عبر الإعلام، ويُطبع على القلوب، وتُزيف الحقائق، وتُزور المعلومات بما يوافق رغبات المستعمرين وأذنابهم.
وإذا كان كل هذا الإضلال قد وقع في المشرق العربي فإن المغرب العربي قد نال حظه الوافر من حرب على اللغة العربية وعلومها، وعلى من بلَّغ قرآنها ودينها؛ إذ أصبحت لغة القرآن لغة ثانية بعد الفرنسية، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغاربية الفرنسية: إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال إفريقية.
وبلغ من استماتة الفرنسيين في القضاء على اللغة العربية بعد أن عجزوا عن ذلك بفرنسيتهم أنهم اخترعوا قواعد للغة البربرية الأمازيغية، وأقنعوا كثيرا من المغاربة أن أصولهم بربرية، وأن عليهم أن ينبذوا العرب وما جاءهم به نبي العرب -عليه الصلاة والسلام-، وأن يحيوا ثقافتهم ولغتهم، ويعتزوا بأصلهم بدل انتمائهم لأمة العرب.
يقول أحد الباحثين المغاربة: شعر المستعمر باستحالة اقتلاع اللغة العربية من أرض الجزائر وغرس اللغة الفرنسية مكانها، فلجؤوا إلى وسيلة مُساعِدة أخرى، وهي الإيحاء لأكبر عدد من أبناء الجزائر بأن اللغة العربية ليست لغة أصليَّة في الجزائر، وإنما اللغة الأصلية لسكان الجزائر هي اللغة البَرْبريَّة لغة الأمازيغ، وقد تطوع الفرنسيون لوضع أبجدية لها كيما يمكن كتابتها.
وفرنسا تقوم بمعونات ثقافية مجانية بإرسال مدرسي اللغة الفرنسية، وإغراق الأسواق المغربية بالكتب والأفلام الفرنسية، بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية؛ وأوقف مشروع التعريب في البلدان المغربية بحجة أن التعريب أدى للأصولية والتطرف!.
ووقف أحد المسوقين من أبناء المسلمين للغة الأمازيغية خطيبا في أتباعه يقول: إذا كان العرب في وقت سابق قد وصلوا فوق النياق إلى المغرب العربي، فأنا سأكون معهم رفيقاً وأعيدهم على متن "البوينغ" إلى بلادهم الأصلية في الجزيرة العربية.
وما علم هذا الجاهل المخبول المرذول أن أجداده البربر -رحمهم الله تعالى- هم من فتحوا الأندلس، وهم من علَّموا أهلها العربية، ودعوهم إلى الإسلام، بقيادة طارق بن زياد الأمازيغي -رحمه الله تعالى- بعد أن عبر من بلاد المغرب إلى بلاد الأندلس عبر مضيق سمي باسمه إلى يومنا هذا.
وأول ما يتعلم الطلاب العربية فإنهم يعتمدون متن الأجرومية في مبادئ العربية، ويدينون بالفضل العظيم لمؤلفه، ويترحمون عليه عند قراءة جزء من متنه، وهو مغربي أمازيغي برع في النحو، فكتب فيه هذا المتن المختصر المفيد، فكان مرجعا لطلاب العربية في طول العالم الإسلامي وعرضه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وكثير ممن كتبوا في النحو والبلاغة وعلوم العربية لم تكن أصولهم عربية، ولكن الله تعالى منَّ عليهم بالإسلام، وفتح لهم أبواب اللغة ومغاليقها، فبرعوا فيها كما لو كانت أصولهم عربية، فاستقرؤوا كلام العرب وشعرهم، واستخرجوا منه قواعد اللغة وقانونها، فجمعهم الإسلام من شتى الأجناس والأعراق، فاتحدت عصبيتهم لله تعالى ولدين الإسلام، وانحازوا عن لغاتهم الأعجمية إلى لغة القرآن، فتعلموها ديانة لله تعالى، واستعذبوها تدبرا لكتابه -سبحانه- فرزقهم الله تعالى فهمها وتقعيدها.
ثم نبتت من أبنائهم نبتة عاقة سيئة تنادي بالرجوع إلى عصبياتهم الجاهلية، وتطالب بنبذ اللغة العربية، لغة القرآن الذي آمنوا به، وأكرم الله تعالى به أجدادهم؛ فنقلهم به من الرق والعبودية إلى العلم والقيادة والسيادة.
كما نبت في العرب نبتة سيئة تدعو الناس إلى نبذ لغتهم واستبدال اللغات الأجنبية بها، بحجة أنها لغات العلوم والمعارف.
ولن يكل أهل الباطل عن الدعوة إلى باطلهم، ومحاولة دحض الحق به، ولكن الله تعالى مبطل كيدهم، ومحبط عملهم، ومظهر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.
فاستمسكوا -عباد الله- بدينكم، واعرفوا مكانة لغتكم، وأعلموا أنها باب من أبواب عزكم، فإياكم إياكم أن تفرطوا فيها! فإنكم مسئولون يوم القيامة عنها: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزُّخرف:43-44].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:40]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الناس: ولم تكن الدول الخليجية بعيدة عن المستعمرين وأذنابهم في حربهم على اللغة العربية؛ إذ سلطوا عليها اللغات الأجنبية، ومكنوا لها لتزاحم العربية في المدارس والمعاهد والجامعات، وما فَرض الإنجليزية على طلاب التعليم العام إلا خطوة في هذا المشروع التدميري للغة العربية، ثم كانت الكارثة الكبرى بالسماح للمدارس الأهلية أن تضع منهاجها، وتدرس طلابها باللغة التي تختارها؛ لتتوزع غدا أو بعد غد المدارس الأهلية على لغات العالم، ويصبح مجتمعنا مجمعا لتلك اللغات، وانتماءُ كلِّ واحدٍ من أبنائه وولاؤُه لأهل اللغة التي أضحت لغته التعليمية الأولى؛ لأنه درسها في كل مرحلة من مراحل دراسته.
إن للغة تأثيرا كبيرا في ترسيخ الولاء، وتكريس الانتماء، والواحد من الناس يألف من يتكلم بلسانه، ويقترب منه أكثر من غيره، ومن تتبع أحوال المسافرين في محطات سفرهم ثبتت له تلك الحقيقة.
والمغتربون للدراسة أو للعمل أو للعلاج تؤلفهم اللغة، وتجمعهم بلدانهم، فكل أهل بلد لهم رابطة توحدهم، ومستقرٌ يجمعهم، وأقوى دافع لهم في ذلك كون لهجاتهم واحدة.
وكل دولة غربية نراها تستميت في نشر لغاتها في أدغال أفريقية، وفي البلدان الفقيرة، وتبذل أموالا طائلة في هذا السبيل، والسباق بين الدول الغربية على أشده في هذا المضمار. فلماذا يفعلون ذلك؟ وماذا ينشدون من أفراد يعلمونهم لغتهم وهم متخلفون عن حضارتهم بمئات السنين؟! إنهم ينشدون ولاءهم، ويطلبون انتماءهم، ويدركون أن تبديل ألسن هذه الشعوب إلى لسانهم يكرس تبعيتهم لهم، والدول المستعمرة من أول ما تقوم به إذا احتلت بلدا أن تضع للغتها موضع قدم فيه.
يقول الرافعي رحمه الله-رحمه الله تعالى-: ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ.
والرافعي-رحمه الله تعالى- حين يكتب هذا الكلام فإنه قد عاصر الاستعمار في بلاد المسلمين، ورأى ما يفعل الغزاة من طمس ٍللغة من يستعمرهم وإحلال لغته مكانها.
إن اليهود قد أخرجوا عبريتهم من قبرها، وأحيوا مواتها، وجعلوها اللسان الوحيد بينهم، وارتضوها لغة التدريس لطلابهم، حتى في المواد العلمية والتجريبية لا يدرسونها لأولادهم إلا بالعبرية.
واليابانيون الذين بلغوا من التقدم ما بلغوا حافظوا على لغتهم، وجعلوها لغة العلم في بلادهم، وترجموا كتب الغربيين إليها، ولم يفرضوا اللغات الغربية على طلابهم.
وهكذا فعل الكوريون، وهم في الصناعة والتقنيات ما تعلمون، وأما الصينيون فأمرهم عجب؛ إذ ما يصدر اليوم كتاب علمي في الغرب إلا وينبري له المترجمون ليطبع من الغد باللغة الصينية.
وأما البلاد العربية التي رضيت لطلابها أن تزاحمهم اللغات الأجنبية في مدارسهم، فتفسد ألسنتهم وأذواقهم، فما رأيناها تقدمت بهذه اللغات الأجنبية، وقد عاشت في هذا الضلال عقودا كثيرة، بل هي ترفل في أثواب التخلف والضعف والتبعية للغير.
أيغار اليهود وأهل الصين واليابان وكوريا على لغاتهم، ويحافظون على ألسن طلابهم، مع أن لغاتهم لا تساوي شيئا أمام لغة القرآن في مفرداتها، وجُملها، وبلاغتها، واستيفائها لحاجات العصر ومصطلحاته ومتطلباته؛ ويتنكر العرب للغتهم العرباء التي اختارها الله تعالى لهم، وأنزل كتابه بها؟! فيزاحمونها باللغات الأجنبية بحجة التقدم والتطور، واستيفاء حاجات العصر.
كيف يفعلون ذلك وهم يرون أن البلاد العربية التي زاحمت عربيتها باللغات الأجنبية ما أفلحت ولا تقدمت؟ ويرون أن البلاد الوثنية التي تقدمت في الشرق قد حافظت على لسانها، وطوعت العلوم للغاتها، وما ضرها ذلك!.
ومن أعجب ما يكون أن يدعو الداعون إلى الوحدة الوطنية، والانتماء الوطني، ثم تفرض اللغات الأجنبية، ويمكَّن لها في بلادهم؛ لتحل محل العربية، ومن المعلوم أن اللغة هي وعاء الولاء والانتماء، فكيف ينتمي قوم لبلاد رضيت أن تزاحم لغتَها لغاتٌ أجنبية؟!.
ومن تعلم منذ صغره لغة حتى أضحت لغته الأولى فلا بد أن يتعلم جذورها وثقافتها وتاريخ أهلها، فينتمي إليهم ولو لم يكن من بلادهم، وكثير ممن نشؤوا من أبناء المسلمين على ألسن الغرب ولغاتهم كان ولاؤهم إليهم أكثر من ولائهم لأمتهم وبلدانهم.
ألا فاتقوا الله ربكم، واعرفوا فضل لغتكم، ومكانتها من دينكم، وقوِّموا بها ألسن أولادكم؛ فإنها لغة القرآن، ولغة الصلاة والعبادة، وكان السلف يعتنون بها، ويؤدبون أولادهم على اللحن فيها. قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم