حالنا مع القرآن

عمر القزابري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تأملات في حالنا مع القرآن 2/ فضائل قارئ القرآن 3/ الاشتغال بالقرآن هو أفضل الأعمال 4/ عظم أجر المتفرغ للقرآن تلاوةً وتدبرًا 5/ لا حياة لنا إلا بالقرآن 6/ حاجة الأمة إلى الرجوع إلى كتاب الله.

اقتباس

كيف يتلذذ المسلم بطاعة وهو منقطع الصلة بكتاب ربه، لا يقرأه إلا في رمضان، فإذا خرج رمضان أغلقت المصاحف ووُضعت في المتاحف وعلاها الغبار وعاد العبد إلى الغفلة والعناد والإصرار. أيها الأحباب كيف حالنا مع القرآن؟! كيف حالنا مع كتاب ربنا في غمرة الفتن والاشتغال بالملذات؟! كيف حالنا مع القرآن في زمن الأغراض والإعراض الأعراض، في زمن الإخلاد إلى الأرض؟! هل لك ورد أيها المسلم من كتاب ربك تفر إليه من وعثاء الضجر وكآبة المنظر وغلبة المنكر، تفر إليه من دنيا الصراعات على الحطام، والتنافس على الأوهام؟!

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

 

معاشر الصالحين: طوبى لمن جعل كتاب الله مثالا يحتذيه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- دليلاً يقتفيه؛ فيهتدي من القرآن بآياته الصادعة وبياناته الناصعة وأوامره النافعة وزواجره الوازعة، ويقتدي من السنة بما حمله رواة الأخبار الذين صدقوا في الإخبار ونقلة الآثار الذين سلموا في مواقف الاختبار وبعدوا عن قدح القادحين وجرح الجارحين، وأن يأخذ نفسه بقول الحق إذا لفظ وغض الطرف إذا لحظ والوفاء بالعهد، إذا عهد والثبات على العقد، إذا عقد قابضًا يده عن اقتراف الجرائم عاصيا هواه في استحلال المحارم وعلم أن الدار الحاضرة دار الارتحال والانتقال والدار الآتية دار المنقلب والاستقرار.

 

 فطوبى لمن عرف مقاصد رشده فتنكب مسالك غيه، وسعى لفكاك نفسه من جرائر أمسه وتزود من أعمال الخير لتحصنه واستكثر من أفعال البر لتخلصه وراقب الله راجيا لرحمته وعصى الشيطان خارجا عن جملته، ومن اطلع الله منه على صحة نية وخالصة طوية وسلامة قلب وصلاح ذات جنب أعانه على حفظ ما استرعاه وأنهضه بثقل ما حمله إياه وجعل له من الحيرة مخرجا ومن مضيق الشبهة منفرجا.

 

هذا وإن هذه المقامات العلية والمواهب الثنية لا يمكن أن تُدرك أو تُنال إلا إذا كان للعبد حظ من كتاب الله ذي الجلال، فهو حبل الله الممدود، وهو الرفد المرفود، فوا عجبا كيف يتلذذ المسلم بطاعة وهو منقطع الصلة بكتاب ربه لا يقرأه إلا في رمضان، فإذا خرج رمضان أغلقت المصاحف ووُضعت في المتاحف وعلاها الغبار وعاد العبد إلى الغفلة والعناد والإصرار.

 

أيها الأحباب كيف حالنا مع القرآن؟! كيف حالنا مع كتاب ربنا في غمرة الفتن والاشتغال بالملذات؟! كيف حالنا مع القرآن في زمن الأغراض والإعراض الأعراض، في زمن الإخلاد إلى الأرض؟! هل لك ورد أيها المسلم من كتاب ربك تفر إليه من وعثاء الضجر وكآبة المنظر وغلبة المنكر، تفر إليه من دنيا الصراعات على الحطام، والتنافس على الأوهام؟!

 

إن الكلام عن القرآن أمر له شأن عظيم؛ إذ هو حديث عن كلام رب العالمين ذي القوة المتين وهو حديث عن كلام وصفه المتكلم به فقال: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21].

 

ومن آثار ذلك أن المعرِض عنه الغافل عن تلاوته هو على شفى تهلكة؛ إذ هو روح قلوب أهل العرفان ولا حياة بلا روح ومن تعلمه وعلمه فهو خير الناس كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلمه وعلمه فهو خير الناس" كما جاء في الحديث "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

 

والذي يتعلم ولو آية منه له من الأجر عند الله –سبحانه- ما يربو على أضعاف ما يتنافس فيه أهل الدنيا مما يعدونه أغلى وأنفس المكاسب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث عظيم يحتاج إلى مزيد تأمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه ذات يوم وهم في الصفة، الصفة مكان في المسجد النبوي كان يجتمع فيه فقراء المهاجرين، قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بَطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ فَيَأْخُذَهُمَا في غير إثم ولا قطيعة رحم؟" قُلْنَا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ يُحِبَّ ذَلِكَ. فقال -صلى الله عليه وسلم- " أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَعْدَادُهُنَّ مِنَ الإِبِلِ".

 

أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق وبطحان بضم الباء موضع بقرب المدينة، والعقيق وادٍ أيضًا قريب من المدينة قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "أيكم يحب أن يذهب إلى ذلك المكان القريب فيأتي منه بناقتين كوماوين" الناقة معلوم أنها من أنفس أموال العرب، ويُقاس عز الإنسان عندهم وثروته ومكانته بقدر ما يملكه من الإبل.

 

قوله -صلى الله عليه وسلم- فيأتي منه بناقتين كوماوين، الناقة الكوماء هي الناقة العظيمة السنام وعظم السنام يدل على السمن ووفرة اللحم، فهي ناقة سمينة نفيسة، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "في غير إثم ولا قطيعة رحم" أي: هذا المال الذي يحصل عليه وهو الناقة الكوماء يحصل عليها بسهولة ودون جهد وتعب وفي غير إثم أي ليس سرقة ولا نهب ولا وقوع في شيء من الإثم والحرام بل ناقة تأتيك بسهولة بغير إثم ولا قطيعة رحم؛ لأن الغالب في تحصيل الأموال وخصوصًا في زماننا هو الحرام من نهب وغش وسرقة وربا ورشوة إلى غير ذلك، حتى قُطعت في ذلك الأرحام وانفصمت العرى عياذا بالله.

 

لما قال لهم -صلى الله عليه وسلم- ذلك، قالوا: يا رسول الله كلنا يحب ذلك؛ لأن المخاطبين هم أهل الصُّفّة من فقراء المهاجرين المحتاجين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا يغدو إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين"، أي أن ذهابك في الغدو أي أول النهار إلى المسجد أو لتعلم أو تعليم آيتين من كتاب الله خير لك من أنفس الأموال، وهذا طبعا في ميزان الله -سبحانه وتعالى- وليس في موازين البشر، وخلافًا لما يعظّمه البشر من الأموال والدنيا وكنوزها وزخارفها ومناصبها.

 

ثم إن الإشارة إلى الآيتين فيتعلم آيتين كما قال -صلى الله عليه وسلم- تسقط علة الذين يتعللون بالوقت والعمل وغير ذلك، فكم تأخذ الآيتان من وقتك تعلمًا أو تعليمًا، ولكنها الغفلة المستحكمة يقف البعض في السهرات أو يتابع المباريات بالساعات، فإذا ما ذكرت له كتاب الله تثاءب وتثاقل، وربما نام وأنت تكلمه، ولو كملته عن صفقة تجارية أو منحة مالية لأصبح أخف من غزال، نسأل الله حسن الحال.

 

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر".

 

مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة في هذا الحديث ضرب الأمثال كالحديث السابق وبضرب الأمثال كما يقال يتضح المقال، فالأمثلة الحسّية تقرّب المعاني إلى الأفهام والأسماع؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضرب لنا هنا مثلاً للمؤمن الذي يقرأ القرآن فيقول: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب"، والأترجة -ويقال في لغات العرب كذلك الأترنجة بزيادة النون- والأترجة ثمرة تشبه البرتقالة ريحها طيب لها رائحة زكية عطرة تعطر المكان طعمها حلو إذا أكلها الإنسان وهكذا المؤمن قارئ القرآن غير الهاجر لتلاوته؛ فإن باطنه حلو بالإيمان وظاهره أيضًا حلو بتلاوته لكتاب الرحمن، فاستوى عنده الظاهر والباطن كهذه الثمرة الطيبة باطنها طيب حلو ورائحتها طيبة زكية.

 

 ففيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن وتالي الآيات، وفيه تزكية جلية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي يشغل نفسه بقراءة كتاب ربه مفتتحًا ومختتمًا وواصلاً الختم بالافتتاح، ولله در سيدنا الإمام الشاطبي يوم يقول:

روى القلب ذكر الله فاستسق مقبلا *** ولا تعد روض الذاكرين فتحملا

وآثر عن الآثار مثراة عذبه *** وما مثله للعبد حصنا وموئلا 

ولا عمل أنجى له من عذابه *** غداة الجزا من ذكره متقبلا

ومن شغل القرآن عنه لسانه *** ينل خير أجر الذاكرين مكملا  

وما أفضل الأعمال إلا افتتاحه *** مع الختم حلا وارتحالا موصلا

 فإن شئت فاقطع دونه أو عليه أو *** صل الكل دون القطع معه مبسملا

وما قبله من ساكن أو منون *** فللساكنين اكسره في الوصل مرسلا

 

جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا وجعل لقارئه قبولا وأريجا وأرجا وفتحا وفرجا، ووعد المستمسك به أن يجعل له من ضيق مخرجا وصلاة ربي وسلامه على سيد القراء وإمامهم وخيرتهم وقائدهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان خُلقه القرآن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى ومعلمي القرآن وعلى من سار على نهجهم واقتفى أثرهم بإحسان.

 

معاشر الصالحين: إن الاشتغال بالقرآن هو أفضل الأعمال وأحبها إلى ذي الجلال، بل إن المتفرغ للقرآن تلاوةً وتدبرًا يعطيه الله أفضل ما يعطي السائلين، تأملوا في هذه المعاني المتفرغ للقرآن تلاوة وتدبرا يعطيه الله أفضل ما يعطي السائلين حتى وإن لم يسأل ربه، فقد جاء في الحديث القدسي "من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".

 

وهذا فضل عظيم فإنك إذا اشتغلت بتلاوة القرآن يعطيك الله ثواب من يسأل الله حاجاته، ويعطيك أفضل عطاء، ويثيبك أحسن مثوبة، وأفضل ما دعا به سائلو الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، فإن المشتغل بالقرآن الذي يتلوه آناء الليل وأطراف النهار سينال -إن شاء الله- هذا الفضل العظيم.

 

جاء في شرح هذا الحديث "يعني من اشتغل بقراءة القرآن وتفرغ للذكر والدعاء أعطاه الله مقصوده ومراده أحسن وأكثر مما يُعطي الذين يطلبون من الله حوائجهم" يعني لا يظن القارئ أنه إذا لم يطلب من الله حوائجه لم يعطه، بل يعطيه أكمل الإعطاء، فإنه من كان لله كان الله له.

 

قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: "في الحديث دليل على أن المشتغِل بالقرآن تلاوة وتفكر يجازيه الله أفضل جزاء ويثيبه بأعظم إثابة".

 

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة. والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".

 

وهذا فضل عظيم، ولكن ما أشد الغفلة؟! فقولك: (الم) فيه ثلاثون حسنة، نأخذ مثلاً سورة الملك التي جاء في فضلها أنها تمنع صاحبها من عذاب القبر فيها ألف وثلاثمائة حرف أو أكثر قليلاً لو قرأها العبد كل ليلة كتب له ثلاثة عشر ألف حسنة، والله يضاعف لمن يشاء.. وهكذا..

 

فما الذي يشغلنا يا عباد الله عن تحصيل هذه الحسنات الغزيرة والتي هي العملة يوم القيامة.

 

أيها الخلان: لا حياة لنا إلا بالقرآن فقد قال ربنا المنان (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ) [الرحمن: 1- 3]، فقدم المنة بتعليم القرآن على خلق الإنسان؛ إشارة إلى أنه لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه، يحِل له الحلال، ويحرّم عليه الحرام، ويحسن له الحَسَن، ويقبّح له القبيح، ويدله على طريق الخيرات، ويهديه للتي هي أقوم، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، يهديك للتي هي أقوم في كل مناحي الحياة في علاقاتك في تجارتك، في صحتك، في مشيتك، في علاقتك ببيتك وأولادك ورحمك في علاقتك بالأشياء من حولك في علاقتك بمستقبلك، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء:82].

 

فالقرآن يشفيهم ويرحمهم ويهديهم ويخليهم ويحليهم، ويعيدهم إلى فطرتهم، وينفي عنهم الضيق والضنك، وينقلهم إلى عوالم الأنس ويصبغهم بصبغة الله، وقد قال ربنا في آية عظيمة تشعر قارئ القرآن بأنه في معية الله، قال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)[يونس:61] فأنت عندما تتلو كتاب ربك فإن الله يسمعك ويراك واستحضار هذا المعنى مشعر بالجلال  باعث على الهيبة دافع إلى التأدب والحضور والخشية.

 

ثم قال تعالى بعد هذه الآية مباشرة (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس:62]، في إشارة إلى أن الطريق إلى الولاية تمر عبر قراءة القرآن وتدبره، يقول أحمد بن الحواري وهذا كلام عظيم يقول: "إني لأقرأ القرآن وأنظر في آيه فيحيّر عقلي بها، وأعجب من حُفّاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا".

 

ويؤكد هذا المعنى الإمام الزركشي بقوله: "ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن العظيم شيئاً".

 

يقول ابن جرير الطبري: "حاجة الأمة ماسة إلى فهمه" انتهى كلامه رحمه الله.

وحاجة الأمة اليوم أشد إلحاحا إلى الرجوع إلى كتاب الله؛ فهذه الفتن قد انتشرت، هذا التبرج الفاحش الخارج عن الحدود قد استشرى، وهذه أشد إلحاحًا إلى الرجوع إلى كتاب الله، فهذه الفتن قد انتشرت، هذا التبرج الفاحش الخارج عن الحدود قد استشرى، وهذا الربا صار أصلاً، والبدع والخرافات والحروب والصراعات وهجر المساجد وترك الصلوات، وهذه المنكرات والدماء تجري أنهارًا في بلاد المسلمين ظلما وقهرا، ولا مخرج من ذلك كله إلا بالرجوع إلى كتاب الله، والتعامل معه كما تعامل معه سلفنا الكرام -رضوان الله عليهم-، لا هذا التعامل السطحي الذي نتعامل معه به اليوم هذا التعامل الخالي من سر التزكية.

 

إن أعداء الإسلام لا يريدونك أيها المسلم أن تعود إلى كتاب الله، لا يريدونك أن تقرأ كلام الله، ولما استعصى عليهم طمسه والقضاء عليه بثوا في طريقه الملهيات والصوارف والشهوات والشبهات حتى ظهر منهم من قال بأن القرآن كتاب إرهاب وكذب (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف: 4] وتبعهم في ذلك بعض المرتزقة من المتأسلمين الذين هم في كل وادي يهيمون والذين يهرفون بما لا يعرفون. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26]، لقد أدركوا أن طريق الغلبة على المسلمين تكمن في فصلهم عن كتاب ربهم قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) [الحج:72].

 

يغتاظون من القرآن وأهله ونحن نسمع اليوم دعوات هنا وهناك إلى التعامل مع القرآن بفهم جديد، والمقصود أنه فهم لا يحل حلالاً ولا يحرم حرامًا، ولا ينكر منكرًا، لذلك وجب على المسلم أن يعود إلى كتاب ربه تلاوة وفهما وتدبرا وعملا وحكما واحتكاما وهذا من أعظم الجهاد قال تعالى (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا).

 

فيا عبد الله.. "اجعَلْ كتابَ اللّهِ نَجيّكَ فَنِعمَ النّجِي. وإنّكَ لَحَريٌ بمُناجاتِهِ حَجي فإنه نُورٌ مُستَصْبَحٌ بهِ في ليالي الشّك، سيفٌ سَقّاطٌ وراءَ ضرائِبِ الشِّركْ جَبَلٌ يَعصمُ مَن اعتصمَ بمعاقِلهِ، وَيَقصِمُ ظَهرَ العادلِ عنهُ بجنادلِهِ لا يبلُغُ عابرٌ عَبرَه. ولا غائِصٌ قعرَه إنْ عُدَّتْ عجائبُ البحارِ لم تُعَدَّ عجائُبه، وإنْ حُدَّتْ غرائبُ الأسمارِ لم تُحدَّ غرائُبه، فحادثْ لسانَكَ بدراستِهِ حتى تَرِقَّ عذَبَتُه، وَمَرِّنْهُ على تلاوَتَهِ حتى لا تَطُوعَ لغَيْرِهِ أسلَتُه لا تَمُرَّ على جُمْلَةٍ إلا عاقِداً بمِعْناها تأملَكَ وتَفَكُّرَك عاكِفاً على مُؤَادَّها تَفَهُمَكَ وتَبَصُرَك. مُجِيلاً في حقيقتِها بَصيرَتَكَ ونظرَك. مُمْتاحاً منها مَواعِظَكَ وَعِبَرَك".

 

تكلم الإمام ابن الجوزي في كتاب له -رحمه الله- عن أهل القرآن وذكر حالهم مع القرآن وكثرة قراءتهم وبكائهم وقيامهم وتعظيمهم لكتاب الله، وهذا في زمانه وبعد أن انتهى قال: "إخواني: رحل من أصفه –أي هؤلاء الذين أتكلم عنهم رحلوا وهذا في زمانه- رحل من أصفه وبقي من لا أعرفه سل عنهم الشعث الغبور وزر إذا اشتقتهم القبور "

يقول هذا في زمانه فكيف بزمان كثر في الزور وشغل الناس عن القرآن بالعقارات والدور واللهو والفجور، يأكلون الربا ويشربون ويبيعون الخمور، ونسوا أن رحى الموت تدور، جوارحهم في صدود، وقلوبهم في نفور إلا من رحم العزيز الغفور، وإذا حدثتهم قالوا ربنا غفور وما علموا أن العقبة كئود، والناقد بصير، والنار تفور.

 

 أما أهل القرآن المتمسكون به التالون له فهم في فرح وسرور وسلوة وحبور كيف لا وربنا يقول عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) [فاطر:29].

 

اللهم أصلح أحوالنا..

 

 

 

المرفقات

مع القرآن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات