نزول القرآن ومراحله وأسباب النزول

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-09-22 - 1445/03/07 2023-10-03 - 1445/03/18
عناصر الخطبة
1/نزول القرآن إلى السماء الدنيا 2/نزول القرآن مفرقًا وحِكم ذلك 3/أنواع المنزل من القرآن 4/أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل 5/ثمار معرفة أسباب النزول وثماره.

اقتباس

حَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا أَسْبَابَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَالْقِصَصَ الَّتِي حَصَلَتْ عِنْدَ تَنَزُّلِهِ؛ فَذَلِكَ مُعِينٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ وَحِفْظِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَقِصَصِهِ وَأَخْبَارِهِ؛ كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَزِيدُ فِي مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِبَةٌ كَرِيمَةٌ مَنَّ بِهَا الْكَرِيمُ -جَلَّ فِي عَلْيَائِهِ- عَلَى عِبَادِهِ؛ أَلَا وَهِيَ مِنَّةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فَقَالَ: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فُصِّلَتْ:42]، وَلَمْ يَحْمِلْ هَذَا الْوَصْفَ إِلَّا لِأَنَّ نُزُولَهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ -سُبْحَانَهُ-، وَكُلِّفَ بِإِنْزَالِهِ أَمِينُ أُمَنَاءِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى أَمِينِ أَهْلِ الْأَرْضِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشُّعَرَاءِ:192-195].

 

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ -أَيُّهَا الْكِرَامُ- تَعَالَوْا لِنَتَأَمَّلْ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمَرَاحِلِهِ وَأَسْبَابِهِ؛ أَلَا وَإِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ أَنَّ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَنْزِيلَيْنِ: تَنْزِيلًا عَامًّا، وَتَنْزِيلًا خَاصًّا:

فَأَمَّا التَّنْزِيلُ الْعَامُّ فَهُوَ تَنْزِيلُ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ نَزَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ تَحْدِيدًا، قَالَ -تَعَالَى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[الْبَقَرَةِ:185]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الدُّخَانِ:1-6].

 

وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَكَانَ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ مِنْهُ شَيْئًا أَوْحَاهُ، أَوْ أَنْ يُحْدِثَ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا أَحْدَثَهُ".

 

وَأَمَّا التَّنْزِيلُ الْخَاصُّ: فَهُوَ نُزُولُ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُنْذُ بَعْثَتِهِ إِلَى مَوْتِهِ خِلَالَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)[الْإِسْرَاءِ:106]؛ "أَيْ جَعَلْنَا نُزُولَهُ مُفَرَّقًا كَيْ تَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَهْلٍ وَتَثَبُّتٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْدَاثِ".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: مَا الْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يَكُنْ إِنْزَالُهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا نَزَلَتِ الْكُتُبُ السَّابِقَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؟

 

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ هُنَاكَ حِكَمًا عَدِيدَةً لِهَذَا؛ مِنْهَا:

تَثْبِيتُ فُؤَادِ رَسُولِنَا الْكَرِيمِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ آنٍ كَانَ أَقْوَى لِلْقَلْبِ وَأَسْكَنَ لَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)[الْفُرْقَانِ:32].

 

وَمِنْ حِكَمِ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا كَذَلِكَ: التَّحَدِّي وَالْإِعْجَازُ؛ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَسْئِلَةً امْتِحَانِيَّةً وَتَعْجِيزِيَّةً، فَيَأْتِي الْجَوَابُ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَمَّا سَأَلُوا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)[الْفُرْقَانِ:33].

 

وَمِنْ حِكَمِ نُزُولِ الْقُرْآنِ مُفَرَّقًا كَذَلِكَ: تَيْسِيرُ حِفْظِهِ وَفَهْمِهِ؛ إِذْ لَوْ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَمْ يَحْصُلْ هَذَا، فَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: "كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ بِالْغَدَاةِ، وَخَمْسَ آيَاتٍ بِالْعَشِيِّ، وَيُخْبِرُ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ".

 

وَمِنَ الْحِكَمِ: مُوَاكَبَةُ الْحَوَادِثِ؛ فَقَدْ كَانَتْ تَحْدُثُ حَوَادِثُ فَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ لِبَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا، وَالتَّعْلِيقِ عَلَيْهَا، وَالْإِجَابَةِ عَنْ أَسْئِلَةِ أَهْلِهَا.

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي نُزُولِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّ مِنْهَا مَا نَزَلَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ حَادِثَةٍ أَوْ سُؤَالٍ اسْتَدْعَى نُزُولَ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَهَذَا هُوَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، الَّذِي نَزَلَ لِتَرْسِيخِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَهْذِيبِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِصْلَاحِهَا، وَتَقْوِيمِ عِوَجِهَا، وَرَسْمِ الْمَنْهَجِ الْإِسْلَامِيِّ الصَّحِيحِ لِلْحَيَاةِ وَالْأَحْيَاءِ، وَتَشْرِيعِ التَّشْرِيعَاتِ الْعَامَّةِ الْعَادِلَةِ الَّتِي تَحْكُمُ أَعْمَالَ النَّاسِ وَأَقْوَالَهُمْ.

 

وَثَانِيهَا وَهُوَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ آيَاتٌ نَزَلَتْ تَتَحَدَّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ حَدَثَتْ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، فَجَاءَتْ تُبَيِّنُ مَا يَنْبَغِي فِيهَا وَمَا لَا يَنْبَغِي؛ مِثْلُ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ تُعَلِّقُ عَلَى مَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَتُبَيِّنُ الدُّرُوسَ الْمُسْتَفَادَةَ؛ مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:139-143].

 

وَالثَّانِي: آيَاتٌ جَاءَتْ لِتُجِيبَ عَنْ أَسْئِلَةٍ سَأَلَهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَعْضُ الْكَافِرِينَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)[الْبَقَرَةِ:222] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ، لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَسَأَلَهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَأُسْكِتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ مَكَانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: "(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الْإِسْرَاءِ:85]"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَنْفَعَنَا بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِقُلُوبِنَا رَبِيعًا.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- نَذِيرًا وَبَشِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدِ اعْتَنَى عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِتَدْوِينِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَعُلُومِهِ، وَبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِنُزُولِهِ وَأَسْبَابِ ذَلِكَ وَمَرَاحِلِهِ؛ فَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْخَمْسُ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ الْعَلَقِ؛ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ حَتَّى فَاجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[الْعَلَقِ:1-5].

 

وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مِنْ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ، أَوْ هُوَ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَاتِ الْعَلَقِ الْخَمْسِ.

 

أَمَّا آخِرُ مَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَقْوَالٌ فِي آيَاتٍ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ؛ كَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ:128].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مَعْرِفَةَ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمَرَاحِلِهِ تُكْسِبُ الْعَبْدَ مَنَافِعَ وَفَوَائِدَ تَجْعَلُهُ دُؤُوبَ الْحِرْصِ عَلَى تَعَلُّمِ هَذَا الْعِلْمِ الْمُرْتَبِطِ بِدِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ لِعِبَادِهِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ: أَنَّهَا تَزِيدُ فِي إِيمَانِ الْعَبْدِ بِعِلْمِ اللَّهِ -تَعَالَى- الْوَاسِعِ بِشُؤُونِ عِبَادِهِ وَحَاجَتِهِمْ، وَإِدْرَاكِ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فِي تَشْرِيعَاتِهِ الْبَاهِرَةِ؛ يَقُولُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: "مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ"، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ السُّيُوطِيِّ فِي الْإِتْقَانِ: "لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ دُونَ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا".

 

وَمِنْ ثِمَارِ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ: تَيْسِيرُ حِفْظِهِ؛ فَعِلْمُ الْعَبْدِ بِأَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ وَالْقِصَصِ الَّتِي زَامَنَتْ نُزُولَهَا يُسَهِّلُ حِفْظَهَا وَيُرَسِّخُهَا فِي ذَاكِرَتِهِ؛ يَقُولُ الْعَلَّامَةُ الزُّرْقَانِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "وَذَلِكَ لِأَنَّ رَبْطَ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَالْأَحْكَامِ بِالْحَوَادِثِ، وَالْحَوَادِثَ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، كُلُّ أُولَئِكَ مِنْ دَوَاعِي تَقَرُّرِ الْأَشْيَاءِ، وَانْتِقَاشِهَا فِي الذِّهْنِ، وَسُهُولَةِ اسْتِذْكَارِهَا عِنْدَ اسْتِذْكَارِ مُقَارَنَاتِهَا فِي الْفِكْرِ، وَذَلِكَ هُوَ قَانُونُ تَدَاعِي الْمَعَانِي الْمُقَرَّرِ فِي عِلْمِ النَّفْسِ".

 

وَمِنْ ثِمَارِ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ: مَعْرِفَةُ اسْمِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَتَعْيِينُ الْمُبْهَمِ فِيهَا حَتَّى لَا يُشْتَبَهَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ: إِنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي)[الْأَحْقَافِ:17]؛ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ".

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: حَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا أَسْبَابَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَالْقِصَصَ الَّتِي حَصَلَتْ عِنْدَ تَنَزُّلِهِ؛ فَذَلِكَ مُعِينٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ وَحِفْظِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَقِصَصِهِ وَأَخْبَارِهِ؛ كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَزِيدُ فِي مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالتَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهِ.

فَتَدَبَّرِ الْقُرْآنَ إِنْ رُمْتَ الْهُدَى *** فَالْعِلْمُ تَحْتَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ أَبْصَارِنَا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

نزول القرآن ومراحله وأسباب النزول.doc

نزول القرآن ومراحله وأسباب النزول.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات