اقتباس
ونعود الآن إلى الذين يوقرون الأشهر الحرم فنقول: ولما سميت هذه الأشهر بالحرم؟ وما الذي يحرم فيها؟ وما كان موقف أهل الجاهلية تجاهها؟ وما كنه ذلك النسيء الذي كانوا يصنعونه؟ وما هي خصائصها وفضائلها في ديننا؟ وهل كلها سواء أم بعضها يفضل بعضًا؟ وما هي واجبات المسلم فيها؟ وما أبرز الوقائع والأحداث التي دارت خلالها؟ وهل يحرمها ويصونها أهل الكفر كما يصنع أهل الإسلام؟... أسئلة كثيرة متنوعة ملحة نحاول الإجابة عنها من خلال هذا الملف العلمي.
لما خلق الله -عز وجل- الكون بنجومه وكواكبه وأقماره وفضائه الشاسع فإنه -تعالى- قد خلق المكان؛ نعم خلق الأماكن التي تسع وتحمل وتُقِلُ باقي المخلوقات وتكون محلًا لحياتها،، ومع المكان خلق الله -سبحانه وتعالى- الزمان الذي تُعَدُّ به أعمارها وتنقضي به آجالها وتُحسب به أوقاتها، وقد خُلق الزمان مع المكان لا قبله ولا بعده، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" (متفق عليه)، أي: "عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله ووضعه يوم خلق السماوات والأرض، وذلك أن العرب كانوا يؤخرون المحرم ليقاتلوا فيه...
فينتقل من شهر إلى شهر حتى جعلوه في جميع شهور السنة فلما كانت تلك السنة كان قد عاد إلى زمنه المخصوص به" (شرح مصطفى البغا على صحيح البخاري). ويقدِّم إياس بن معاوية تفسيرًا آخر فيقول: "واستدارة الزمان أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، فحج أبو بكر، ولم يحج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما كان في العام المقبل حج النبي -صلى الله عليه وسلم- فوافق الحج ذا الحجة في العشر، ثم نظروا في الأهلة، فوافق ذلك، فأخذوا به" (الدلائل في غريب الحديث للسرقسطي).
وهكذا غيَّر الناس الزمان الذي خلقه الله -تعالى- وبدَّلوه؛ حتى صار شهر صفر مكان المحرم، وصار شهر رمضان محل ذي القعدة... وما زال ذلك النسيء يدور إلى أن عاد في سنة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصله وقاعدته، فرجع كل شهر إلى محله وموضعه يوم خلق السموات والأرض. ووحدات ذلك الزمان الذي خلقه الله -جل وعلا- عبارة عن سنوات، وكل سنة مكوَّنة من اثني عشر شهرًا، لكنها ليست جميعًا سواء بل بعضها أفضل من بعض، قال الله -عز وجل-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36]، ولقد عيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الأربع الحرم في تتمة الحديث الذي ذكرنا طرفًا منه قائلًا: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" (متفق عليه).
فهذه الأشهر الحرم الأربع لها مزيد فضل ومزية على سواها من الشهور، يظهر ذلك من تسميتها بـ"الأشهر الحرم"، يذكرنا ذلك بالحرم المكي، والحرم المدني، والبلد الحرام... فهذه حرمات مكانية، أما الأشهر الحرم فإنها من الحرمات الزمانية. ولعل من حكمة الله -تعالى- في جعل بعض الأشهر حُرمًا هو أن تكون هذه الأشهر الأربع محطة للعاصين والمذنبين والمصرين على الذنوب كي يتوبوا ويرجعوا وينيبوا ويقلعوا؛ وذلك لعلمهم أنها شهور تتضاعف فيها أوزار الذنوب وتبعاتها كما يتضاعف ذلك في الحرمين المكي والمدني، يقول قتادة في قول الله -تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا" (تفسير الخازن)، فإذا امتنعوا عما اعتادوا من الذنوب في هذه الأشهر لمزيد حرمتها، كان ذلك سببًا في اقلاعهم عنها طوال العام. وقد أكد ذلك الإمام الخازن الذي نقل في تفسيره قولهم: "إن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم والفساد، والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس، لا جرم أن الله خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات، فربما تركها في باقي الأوقات، فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة سببًا لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر، فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض بمزيد التشريف والتعظيم وكذلك الأمكنة أيضًا".
وهذه الأشهر الحرم مجتمعة تشكل ربع العام الهجري القمري، فهي فضيلة للسنة الهجرية فوق غيرها من التقويمات الميلادية والقبطبية...، فإن زدت على ذلك ارتباط جميع الأحداث والمناسبات والشعائر الدينية الإسلامية بالأشهر الهجرية؛ فالصيام في رمضان، ويوم عاشوراء في المحرم، ويوم عرفة في ذي الحجة وعيد الفطر في شوال... إذا زدت ذلك ظهر لك خطأ من اعتنوا بالتقويم الميلادي وأهملوا التقويم الهجري الإسلامي. إن السنة الهجرية هي مظهر من مظاهر التقويم الإسلامي الذي سنَّه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فصار شعارًا وعلامة مميِّزة ومفرِّقة للمسلمين عن سواهم من أمم الأرض، ولا يستبدله بغيره -مختارًا غير مكره- إلا جاهل أو غافل أو منهزم هزيمة نفسية ممن يشعرون بالضعة والدونية والخجل من إظهار شعائر دينهم!
هذا، وما زال المسلمون في كل عصر من العصور يحفظون حرمة هذه الشهور ويحرمون القتال وسفك الدماء فيها، وحتى على القول بأن حرمة القتال فيها منسوخة فإن المسلمين يحفظون الدماء والأنفس والأعراض ويصونونها طوال العام لا في الأشهر الحرم فقط، وإني لا أتكلم عن هذا العصر؛ بل أتكلم عن عصور مضت كانت للمسلمين فيها الكلمة والسطوة والغلبة، فما اعتدوا على غيرهم من الأمم ولا نهبوا ولا سرقوا ولا تجبروا، بل حفظوا لغير المسلمين حقوقهم وأمَّنوهم على دمائهم وأموالهم وأعراضهم وشعائر دينهم. فلما دارت على المسلمين الدائرة -والأيام دول- وملك غيرهم ناصية الأمور وصارت الغلبة لهم، فما راعوا أشهرًا حرمًا أو غير حرم، بل قتلوا وشردوا ونهبوا! بل بغوا وجاروا وظلموا! بل تجبروا وتسلطوا وتعنتوا!... أسالوا الدماء التي ليس لها من تهمة ولا جريرة سوى أنها مسلمة؟ وأزهقوا الأرواح وكل ما ارتكبته من الخطايا هو أن تمسكت بالقرآن؛ كتاب ربها؟! ودكوا الدول والبلاد والقرى وكل جرمها أن فكرت أو سعت يومًا لتطبيق شرع الله؟! يحكي حالنا وحالهم قول الشاعر:
ملكنا، فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فليتهم كانوا كأهل الجاهلية الأولى؛ يحرمون الأشهر الحرم فلا يقاتلون فيها ولا يُغِيْرون، حتى وإن أدخلوا فيها النسيء فإنهم يحرمون مكانها أشهرًا أخرى لا يعتدون فيها ولا يحاربون! لكن أهل جاهلية هذا العصر قد تفوقوا في الغشم والبغي والعدوان على أهل الجاهلية الأولى! فويل لهم، ثم ويل لهم! ونعود الآن إلى الذين يوقرون الأشهر الحرم فنقول: ولما سميت هذه الأشهر بالحرم؟ وما الذي يحرم فيها؟ وما كان موقف أهل الجاهلية تجاهها؟ وما كنه ذلك النسيء الذي كانوا يصنعونه؟ وما هي خصائصها وفضائلها في ديننا؟ وهل كلها سواء أم بعضها يفضل بعضًا؟ وما هي واجبات المسلم فيها؟ وما أبرز الوقائع والأحداث التي دارت خلالها؟ وهل يحرِّمها ويصونها أهل الكفر كما يصنع أهل الإسلام؟ أم هل عندهم ما يقابلها أو يماثلها؟... أسئلة كثيرة متنوعة ملحة تدور في العقول عند ذكر الأشهر الحرم، والتي نحاول الإجابة عنها من خلال هذا الملف الذي عقدناه خصيصًا لذلك، وقد جاءت مواده منتظمة ..
التعليقات