عناصر الخطبة
1/ دعوة الرسل عليهم السلام ومضمونها 2/ قصة موسى وفرعون وتأملات فيها 3/ دروس وعبر مستفادة من القصة 4/ منشأ التقويم الهجري وأهمية الهجرة 5/ فضل المحرم وعاشوراء وسبب صيامه 6/ ممارسات بدعية في يوم عاشوراءاقتباس
إذا قرأتَ كتاب الله، ورأيتَ قصة موسى مع فرعون في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن، وما فيها من عظاتٍ وعبر ودروس، تارة مبسوطة وتارة مختصرة، علمت أمورا كثيرة، أوّلُها أن الكبر والجبروت مآل صاحبه إلى الهلاك والزوال، فالتكبر على الله، والعلو على عباد الله، إلى أن يبلغ بالإنسان الكفر والضلال، كل هذا لا بد أن يضمحل، ولا بد أن يزهق ..
إن الحمد لله ونحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله: بعَث اللهُ الرسلَ لهدايةِ الخَلْقِ، ودلالتهم على الطريق القويم، والصراط المستقيم، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، واحترام الدماء والأموال والأعراض، وتحذيرهم من الفواحش والمنكرات والفجور وأنواع الظلم والعدوان، وتخليصهم من كل مَن يريد استعبادهم وإذلالهم من الجبارين والمتكبرين والطغاة الظالمين، ومن الطواغيت والشياطين والسحرة والكهان والمشعوذين.
والله -جل وعلا- قد منح أنبياءه آياتٍ دالةً على صدق رسالتهم، وصِدق ما جاؤوا به، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
ورسل الله -عليهم السلام- دعوتهم واحدة، عقيدة توحيد الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "نحن -معاشرَ الأنبياء- أخوة أولاد علات، أمهاتنا شتى وديننا واحد".
وقد أخبر الله -جل وعلا- عن دعوة جميع الرسل، وأنهم -جميعهم- دعوا إلى عبادة الله وإخلاص الدين لله، منذ نوح -عليه السلام-، إلى أن ختمهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -جل وعلا-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]، وقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36].
وقص الله علينا دعوة الأنبياء، فنوح -عليه السلام- يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:59]، (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:65]، وقال عن صالح: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:73].
ودعوا، مع توحيد الله، إلى تحذير الناس من الأخلاق الرذيلة، فقال عن صالح -عليه السلام- أنه قال لقومه: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:151]، وقال عن لوط -عليه السلام- إذ قال لقومه: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) [الشعراء:165-166]، وقال عن شعيب: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود:84].
وهكذا كانت دعوة كل الأنبياء إلى عبادة الله، وإخلاص الدين له، ودعوة الخلق إلى ذلك، ومن أولئك الأنبياء والرسل موسى بن عمران -عليه السلام-، كليم الرحمن، أحد الخمسة الذين هم أولو العزم الذين قال الله فيهم: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى:13].
فموسى بن عمران أحد الخمسة أولي العزم، وهو كليم الرحمن، أرسله الله إلى أعظم طاغية على وجه الأرض، إلى فرعون الذي تكبر وتجبر وقال: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) [النازعات:24]، بعثه الله إليه داعيا إلى الله -جل وعلا- وإلى عبادة الله وترك ما هو فيه من الطغيان والظلم والجبروت؛ ولكن موسى -عليه السلام- سأل ربه العون والتأويل والتأييد فقال: (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى* قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:45-46].
فجاء موسى وأخاه هارون إلى فرعون داعيا إلى الله يدعونه إلى الله وإلى توحيده وعبادته، ولكن الكبر والظلم ملأ قلبه، فأبى وتكبر وسخر بموسى -عليه السلام- وقال له: (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) [الشعراء:31]، فمنح الله موسى آيتين عظيمتين ومعجزتين عظيمتين: العصا واليد؛ (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) [الأعراف:107، الشعراء:32]، تلتقط كل ما حولها، (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) [الأعراف:108، الشعراء:33]، تلك آيات ظاهرات، وحجج قاطعاتٌ على صدق ما جاء به موسى -عليه السلام-.
وما زال موسى مع فرعون يجادله ويناضله ويقيم حجته عليه، وهو في كبريائه يصف موسى بالجنون ويصفه بالسحر، وكل تلك مغالطات وضلالات، والله يقول عنه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل:14]؛ ما زال موسى يدعو إلى الله، ويعلن دعوته صريحة إلى هذا الطاغية العظيم، ويبين باطله، ويكشف عوره، والله يؤيده، ويثبت قلبه، ويقوي يقينه.
فلما اشتد الأمر على موسى -عليه السلام-، وعظم الكرب عليه، وأراد فرعون أن يعاند ويقاتل الحق بالباطل، طلب من موسى -عليه السلام- المناظرة لكي يتبين الصادق من الكاذب، فطلب من موسى -عليه السلام- مناظرته علنية، وجمع سحرته وأعوانه ليناظروا موسى -عليه السلام-، قال الله -جل وعلا-: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى* فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) [طه:59-60].
أتى بالسحرة وجمعهم بأنواع سحرهم وضلالاتهم ودجلهم، ولكن الحق يعلوا والباطل ينخفض أمام الحق، جاء موسى -عليه السلام- جاء موسى وأخوه هارون ومع موسى عصاه التي يتكئ عليها، وجاء السحرة وحبالهم وعصيهم يخيل لموسى أنها حية تسعى، فأوجس في نفسه خيفة موسى، قال الله: (قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه:68-69].
ألقى موسى عصاه فالتقمت تلك الحبالَ والعصي، وثبت أنها باطلة، وأنها تخيلات لا حقائق لها، فلما رأى السحرة تلك الآية المعجزة العظيمة التي مع موسى تلك العصا خضعوا لله سُجَّداً، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه:70]، لقد كانوا من قبل يطلبون من فرعون أن يمدهم بالمال ويقربهم إليه: (قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء:41-42]، ولكن (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) [الإسراء:81].
فبعد هذه المناظرة، وبعدما تبين الحق وتبين الباطل وذله وضعفه وأن الباطل لم يقف أمام الحق بل كان الباطل زهوقا، عند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يسري بقومه ويفارق بلاد فرعون، وخرج موسى -عليه السلام- بقومه واتبعهم فرعون بجنوده وقال: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء:54-56].
فأمر الله موسى أن يضرب البحر، فانقسم طرقاً عديدة وصار كالطود العظيم، فسلكه موسى وقومه آمنين مطمئنين، ثم سلكه بعده فرعون، فأطبق الله على فرعون، وأغرقه وجنده عقوبة وانتقاما من الله على فرعون وقال له: (أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس:91-92].
أيها المسلم: إذا قرأتَ كتاب الله، ورأيتَ قصة موسى مع فرعون في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن، وما فيها من عظاتٍ وعبر ودروس، تارة مبسوطة وتارة مختصرة، علمت أمورا كثيرة، أوّلُها أن الكبر والجبروت مآل صاحبه إلى الهلاك والزوال، فالتكبر على الله، والعلو على عباد الله، إلى أن يبلغ بالإنسان الكفر والضلال، كل هذا لا بد أن يضمحل، ولا بد أن يزهق.
وأمر ثانٍ هو قوة إرادة الله وعظمتها وأنه يقول للشيء كن فيكون، ففرعون -لعنه الله- كان يقتل النساء من بني إسرائيل ذكورهم وإناثهم، فلما خاف على نفسه، وأن العمل قد تعطل، وأنه محتاج إليهم، جعل قتل الرجال سَنة وقتل النساء سنة، فولد موسى في العام الذي يقتل فيه الذكور، ولكن إرادة الله وقدرته -جل وعلا- حمت موسى من فرعون وطغيانه، وألقى الله في قلب امرأته محبة موسى، فقالت: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) [القصص:9]، وأمر الله أم موسى إذا أرضعته أن تبقيه في اليم فهو محفوظ بحفظ الله له: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) [طه:40]، فإرادة الله فوق كل إرادة، أراد البشر بموسى شرا ولكن الله -جل وعلا- حفظه وتولاه.
وثالث ذلك أن الله -جل وعلا- يحفظ أولياءه، ويحيطهم بنصره وتأييده، وأن تسلط البشر لن يكون أمام القوة شيئا، فالبشر -مهما أعطوا من قوة وسلطة- فإنهم لا يستطيعون الوقوف أمام القوة الإلهية.
وأمر آخر، هو أن في قصة موسى عظة للدعاة، وتبصير لهم بأن يصبروا ويحتسبوا ولا يضجروا، ويتحملوا كل الأذى في ذات الله إن هم صدقوا في الدعوة إلى الله وكانت دعوتهم دعوة صادقة خالصة، قال -جل وعلا-: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر:51]، فالصبر لا بد منه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].
ووقفة أخرى هي أن المسلم يتأمل هذه القصة العظيمة فيرى أن السحرة يسلكون الطرق الملتوية؛ بل طرقهم ملتوية، وأساليبهم متعددة؛ لأنهم أهل ظلم وفساد وأكل للأموال بالباطل.
ومن تلك الوقفات أن تعلم أن السحر ليس في يوم من الأيام مع الحق، ولكن السحر مع الباطل وأهله، والسحَرة هم أعداء الدين والأمة، وأعوان اليهود، وهم خارجون عن طريق الله المستقيم، قال -جل وعلا- (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه:69]، وأن السحر ضرر محض لا خير فيه، (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة:102]، وأن السحر بلاء على الأمة، ومصاب على الأمة، فالسحرة لا خير فيهم، فلا يجوز إتيانهم ولا قصدهم: "مَن أتى كاهنا وسأله عن شيء لم تُقْبَلْ صلاته أربعين يوما"، وفي لفظ: "مَن أتى كاهناً وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد".
فالسحرة مهما ادعوا أنهم يقربون ويصلون بين الرجل وامرأته أن ذلك كذب وباطل فإنهم مهما فعلوا هم أعداء للإسلام أعداء للدين أعداء للعقيدة لا يمكن من أتاهم أن يرجع منهم إلا وقد أفسد دينه وأضعف إسلامه وإيمانه فالحذر الحذر منهم فلا خير فيهم، أن السحرة طلبة مادية فقط قالوا لفرعون (قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ) [الأعراف:113-114]، فهم طلبوا المادة لأن الساحر يفسد عقيدة الإنسان ويسلب ماله فهم ضرر محظ ولا يمكن أن يستفاد منهم ولا يحسن الظن بهم.
ومن تلك الوقفات أن يتبين أن أهل الباطل والفساد يصفون شرهم وفسادهم بالإصلاح ويصفون أتباع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بالفساد، هكذا المفسدون، هكذا أعداء الرسل في كل مكان، يصفون أنفسهم بأنهم المصلحون، ويصفون أهل الدين بأنهم أهل فساد، قال الله عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة:11]، قال الله: (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:12]، وقال فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]، كل صاحب بلاء وفتنة، وكل صاحب مفسدة، يجعل فساده وضلاله إصلاحا.
بعض الطرق الصوفية ذووا الآراء الشاذة والأفكار البعيدة عن الهدى يرون منهجهم وطرقهم الضالة صلاحا، دعاة الاختلاط بين الجنسين الرجال والنساء يقولون عن دعوتهم إنها صلاح وإنها إعطاء للحقوق وحفظ لحق الجنسين، فيرون الاختلاط بين الجنسين -مهما يكن فيه من فساد وأضرار- صلاحاً، وهذا من انتكاس الفِطَر، وزيغ القلوب؛ فإن دعاة الفساد أحيانا قد يدعون إلى باطلهم جهلاً منهم بأنه فساد، وقد يقتنعون بالفساد، وتلك المصيبة! (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر:8].
الداعون للربا والمعاملات الربوية يرون أنهم محسنون للناس ومصلحون وميسِّرون، ولكن الأضرار المترتبة على المعاملات الربوية كلها ضلال وظلم وعدوان على الإنسان، فالربا ظلم وليس بعدل، وفساد وليس بإصلاح.
إن الإصلاح الحقيقي هو اتِّباع كتاب الله واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال الله: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) [الأعراف:56، 85]، فليحذر المسلم أن يكون داعي فساد من حيث لا يشعر، ولْيعلم أن الصلاح والخير إنما هو اتباع الكتاب والسنة، وأن ما سوى ذلك فساد، فكلُّ داعٍ إلى ضلالة وإلى شر فإنه مفسد، دعاة الفوضى الذي يدعون الأمة إلى الفوضوية وإلى الاضطراب وإلى الإخلال بالأمن وإلى سفك الدماء وانتهاك الأعراض ونهب الأموال والإفساد في الأرض يرون دعوتهم إصلاحا، ويرون من يدعو إلى الأمن والاستقرار والطمأنينة وحفظ الدماء والأموال والأعراض يرون ذلك جنونا وفساداً.
فليحذر المسلم أن يغتر بالباطل من حيث لا يشعر، وعليه أن يزن كل دعوة أو دعاية لأي مبدأ من المبادئ بميزان الكتاب والسنة، فيجعل الحق ما وافق الشرع، والباطل ما خالف الشرع.
فيا دعاة الفوضى، ويا دعاة الفتن، ويا دعاة المصائب، اتقوا الله في أنفسكم، وتأملوا واقع الأمة، واحذروا أن تكونوا دعاة مفسدين من حيث لا تشعرون، فلْيتقِ المسلم ربه، وليعلم أن إصلاح الحق هو اتّباع الكتاب والسنة؛ فإنها صلاح على الحقيقة، وما سوى ذلك فساد: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام:153].
فيا أمة الإسلام: إنه لا صلاح للأمة، ولا استقامة لها، ولا طمأنينة لها، إلا باتِّباع كتاب ربها، وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، فهو الخير، وهو الصلاح، وهو الهدى، وهو الفلاح.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق، والاستقامة عليه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله: أنتم اليوم في اليوم الخامس أو السادس من شهر محرم، هذا الشهر العظيم هو أول شهور العام، هذا الشهر العظيم الذي اتخذه المسلمون مبدأ للتاريخ الهجري، ففي عهد عمر -رضي الله عنه- رأى الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- أن يجعلوا محرما أول أشهر العام الهجري؛ لأن الهجرة الإسلامية نقلة عظيمة نقلت المسلمين من القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الاستكانة إلى الظهور، وبها تكوّنت دولة الإسلام الأولى في المدينة التي شرفها الله بهذه الهجرة.
وهذه الهجرة حدث هام للأمة، وانتقال من حال إلى حال، فرأى عمر والصحابة -رضي الله عنهم- أن يؤرخوا للهجرة بأول شهر محرم، فأول كل عامٍ يبتدئ بالعام الهجري شهر الله المحرم هذا الشهر العظيم الذي هو أحد أشهر الحرم الذي قال الله فيه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36].
وكما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إن الزمان قد استدار في هيئته يوم خلق الله السموات والأرض اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم، ورجب مضر بين جمادى وشعبان"، ويقول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل عن أي الصلاة أفضل بعد الفريضة قال: "آخر الليل"، وسئل: أي الصيام أفضل بعد الفريضة؟ قال: "شهر الله محرم".
وهذا الشهر شرع لنا أن نصوم فيه يومين منه هما العاشر مع التاسع أو الحادي عشر، فإما أن نصوم التاسع والعاشر أو العاشر والحادي عشر، ومن صام الأيام كلها فحسن، فصومنا هذه السنة -إن شاء الله- سيكون العاشر يوم الثلاثاء.
وهذا الصيام له أصل في الإسلام، وذلك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة ورأى اليهود يصومون يوم العاشر سألهم عن سبب صومهم فقالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه وأمَر بصيامه، فحقيقة إن نبينا ونحن وأتباع الأنبياء أولى الناس بموسى وبكل الأنبياء، لا أعداؤهم الكافرون المنتسبون إليهم: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68].
فالنبي صامه، وفي آخر حياته قال: "إن عشت إلى قابل لأصومنَّ التاسع"، لكنه توفي قبل أن يصومه، ثم شرع لنا -صلى الله عليه وسلم- أن نصوم يوما قبل يوم العاشر أو يوما بعده فقال: "خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله أو يوما بعده، خالفوا اليهود"، فالسنة لنا أن نصوم يوم الاثنين ونصوم يوم الثلاثاء، ومن صام الأيام الثلاثة: الاثنين والثلاثاء والأربعاء فإن ذلك حسن، فيروى في حديث ضعيف: "صوموا يوما قبله ويوما بعده"، لكن في الصحيح: "صوموا يوما قبله أو يوما بعده".
أيها المسلمون، هذا هو يوم المشروع من محرم، صيام اليومين التاسع والعاشر، هذا المشروع لنا فقط، لم يشرع لنا فيه عويل ولا صراخ ولا سخط ولا تأديب للنفس ولا ضرب لها ولا... ولا... إن هذا الدين دين خير وبركة، شرع لنا عند المصائب الصبر والتحمل والاسترجاع وعدم الصراخ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من ضرب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوة الجاهلية".
فهذه الأمور من الجاهلية يحييها بعض المنتسبين للإسلام -وللأسف!- هي من الضلالات التي يبرأ منها الإسلام، ولعلكم تشاهدون في بعض القنوات بعض الطوائف في اليوم العاشر من محرم يضربون صدورهم بالآلات الحادة حتى يخرج الدم، والصراخ والعويل، والقيل والقال، والاستغاثة بغير الله، هذه الأمور التي تبعث -وللأسف الشديد- شماتة أعداء الإسلام والمسلمين حين يرون هذه الأمور الترهات المخالفة لشرع الله، التي لم تكن في دين الله، وما أنزل الله بها من سلطان.
نحن نحب آل بيت رسول الله، ونكرمهم، ونحترمهم؛ ولكن الصلاح والخير منهم؛ لأن الله يقول: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى:23]، أما أن نغلو فيهم ونعبدهم من دون الله وندعوهم من دون الله ونستغيث بهم من دون الله أو نعتقد عصمتهم أو أنهم معصومون فكل هذا أمور يخالف شرع الله، فما تشاهدونه في القنوات التلفزيونية وسينقل لكم من بعض في اليوم العاشر من ضرب ولطم وصياح وعويل وتعطيل للأعمال وأمور منكرة مبتدعة في دين الله؛ فليعلم المسلم أن هذه أمور تخالف شرع الله، وأن موقف أهل المصائب الرضا والتسليم والاسترجاع.
أما هذه الأمور فإنها مخالفة لشرع الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال لما مات ابنه إبراهيم: "القلب يخشع والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون"، هكذا السنة، أما هذا الصياح والعويل والضرب وشق الجيوب ولطم الخدود وضرب الأجساد بالآلات حتى يسفك الدماء، وربما مات -والعياذ بالله!- من الضرب المشيب، فكلها أمور تخالف شرع الله، أمور أحدثت بعد القرون المفضلة، أمور ما أنزل الله بها من سلطان، أمور هي بعيدة كل البعد عن الإسلام وتعاليمه. فنسأل الله الهداية للجميع، والتوفيق لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا رَحِمَكُم اللهُ على نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم