نداء القدس ودروس التاريخ

صالح بن عبد الله بن حميد

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ دروس من التاريخ 2/ الإسلام سبيل العزة 3/ الحرب مع اليهود حرب عقيدة 4/ صور من تجني اليهود 5/ إلى أصحاب المماطلات والمفاوضات 6/ المستقبل للإسلام

اقتباس

إنها ليست ورقة باهتة يلقى بها على موائد المفاوضات.. إنها قضية كبرى تتمرد على الوقت الذي تحصره كتابة سياسية أو تحليل آلي، إنها بقعة مباركة من أرض الله وديار المسلمين تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء، وتتصل بجذورها وضمائر أجيالها .. إنْ قصَّر مسئول أو تقاعس جيل؛ فإن القضية أكبر من ذلك وأكبر، إنه نداء متصل من أجل إنصاف القضية وإقرار العدل على الأرض والشعب والقضية ..

 

 

 

الحمد لله لم يزل بالإنعام منعماً، وبالإحسان محسناً، أحمده سبحانه وأشكره يغفر ذنبنا، ويجبر كسرنا، ويغيث لهفنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو ربنا ومولانا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله بعثه منا فضلاً منه ومَنَّا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأبدل خوفهم أمناً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوا الله ربكم حق تقاته، واحذروا بطشه ومقته فهو معكم أينما كنتم.

أيها المسلمون: إن التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وما أكثر العبر وأقل الاعتبار!

إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد من ماضيها، ولا تستفيد من ماضيها لحاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة بتة؛ فالماضي والتاريخ ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هو أساسٌ من أسس إعادة صيغة الحاضر وبناء المستقبل، وكتاب ربنا قد بسط لنا في أحوال الماضين، وقص علينا من قصص الغابرين؛ لأخذ الدروس واستلهام العبر.. (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111] .. (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون) [يونس:14].

أيها الإخوة: إن سجل التاريخ هو المنار المرشد الذي يهدي -بإذن الله- ربان السفينة فيجنبه الصخور المدمرة في قاع البحار، ويقيه الأمواج العاتية فوق سطح المياه.

إن واقع الأمة اليوم في كثير من بقاعها وأصقاعها وأحوالها وأوضاعها يستدعي النظر والاعتبار، والتفكر والادكار، ولو أن المسلمين استوعبوا دروس الماضي لما أخطئوا في كثيرٍ مما أخطئوا فيه، والذي ينظر في تغيرات الأمم في مللها وأخلاقها، ويتأمل في تقلبات الدول في سياساتها واقتصادها هو أقدر على تفهم الحوادث الماضية، والتي هي صورة مشابهة لكثيرٍ من الوقائع المعاصرة...

أيها الإخوة: ويسهل الدرس، وتتضح العبرة، وتتجلى الصورة حين تنظر الأمة في ماضي تاريخها، لا في تاريخ غيرها، وحين تكون التجربة قد مرت بها لا بغيرها.

ومن أجل هذا فهذه دروس ووقفات مع تاريخ عجيب ودرس ثقيل، وتجربة مرة في فردوس مفقود؛ في أرض بقي فيها المسلمون ثمانية قرون، ثم خرجوا منها بل أخرجوا، وكأن لا أثر لهم فيها ولا عين .. ما الذي أدخلهم؟ وما الذي أخرجهم؟

ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! وتوشك أن تشبه الليلة البارحة؛ إنهم أسلافنا وأجدادنا في بلاد الأندلس .. دخلوها بالإسلام فاتحين، وبالعقيدة مستمسكين، ومن عالي الأخلاق متمكنين .. لأوامر ربهم متبعين، وعن مناهيه ومساخطه متباعدين .. كيف دخلوا؟ يقول أحد النصارى في رسالة بعث بها إلى ملكه يصف فيها جيش المسلمين الذين عبروا إلى بر الأندلس بقيادة طارق بن زياد : لقد نزل بأرضنا قومٌ لا ندري أهبطوا من السماء، أم نبعوا من الأرض؟

إنهم القادة والملوك: موسى بن نصير، وطارق بن زياد، والسمح بن مالك، وعبد الرحمن بن حكم، وعبد الرحمن الغافقي .. في كوكبة من القادة والسادة.

فها هو عبد الرحمن الداخل صقر قريش، ينزل من البحر فتهدى إليه جارية بارعة الجمال، فينظر إليها ويقول: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وأنا إن لهوت عنها بهمتي وبمهمتي ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت همتي ومهمتي، ثم قال: والله لا حاجة لي بها.

لقد سار المسلمون في الأندلس في عزة وقوة ومنعة ووحدة وتماسك على هذا النهج.

يذكر ابن تغري بردي : أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته، وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفذ كل وقته، حتى أنه كان لا ينام إلا سويعات متفرقات، فقيل له: لقد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى نومٍ أكثر من هذا. فأجاب: إن الراعي لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي لما كان في بيوت هذا البلد العظيم عينٌ نائمة.

هذه هي صورة القوة، وحسن الرعاية، وصدق الحماية، وحفظ البلاد، ولقد بقوا على ذلك قروناً طوالاً محافظين على دينهم، معتزين بإسلامهم، متوحدين في كلمتهم، يجسد ذلك قول بعض المؤرخين من المسلمين: بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت الأندلس منا لما أضعنا دين الله.

لقد بدت وبدأت عوامل الضعف، وانحلت الدولة الأموية الواحدة الكبرى إلى دويلات وملوك وطوائف .. تنافس فيها أصحابها على السلطة، وتناحروا من أجل كراسي الحكم؛ فانتشر بينهم الغدر المستحكم، والخصام الدائم، والكيد المستمر؛ فلا همَّ لأحدهم إلا تحقيق مصالحه الذاتية، وإشباع أنانيته المفرطة، وكأن الأندلس إنما وجدت لمصلحته الخاصة مهما كان ذليل المكانة مهزوز القواعد.

إن كل تقدم حضاري، وسموٍ فكري، وثقل سياسي، وارتفاع معنوي، وعز سلطاني، إنما مرده إلى التمسك بدين الله، وهو مرهون بمقدار الالتزام بشرع الله والبعد عن الحياة اللاهية والمجون السافر والحقوق المهدرة .. يقول ابن خلدون : إذا تأذن الله بانقراض الملك في أمة حملهم على ارتكاب المذمومات، وانتحال الرذائل، وهذا ما حدث في الأندلس وأدَّى إلى ضياعها.

بل قد أدرك ذلك كاتبٌ من الخصوم يدون لذلك العصر فهو يقول: العرب هووا وسقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، أصبحوا على قلبٍ متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.

ألا ما أكثر العبر وأقل الاعتبار! وماذا عملت كثيرٌ من وسائل الإعلام الإسلامية اليوم؟ وكتاب ربكم يقول: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء:16].

أيها الإخوة: إن سنن الله في الأمم لا تتخلف، بل لقد ذكر ابن حزم شيئاً خطيراً في بيان الحال التي وصل إليها حكام دويلات الأندلس في سبيل مصالحهم الذاتية، وما يقدمونه للأعداء من تنازلات خطيرة، حتى قال: والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون الأعداء فيمكنوهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

أيها الإخوة: إن التاريخ دروس وعبر، لقد انحرف هؤلاء الأسلاف عن دين الله، ووالوا أعداء الله، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وقعدوا عن الدفاع عن حرمات المسلمين، وابتعدوا عن أسباب التآلف والاتحاد، وحلت الأثرة محل الإيثار؛ ثم من بعد ذلك تكالبت عليهم القوى المعادية، فتمكنت منهم ومزقتهم شر ممزق.

أيها الإخوة: إن نصوص الشرع ودروس التاريخ تقول: إن العرب والمسلمين بغير الإسلام لا قيام لهم، وإنهم بغير الدين لا عز لهم، فإن الإسلام وحده ولا شيء غيره هو الذي يربي ويبني ويزكي ويقوي ويزرع العزة والمسئولية (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8] ولقد جسد ذلك عمر رضي الله عنه في مقولته المشهورة: "لقد كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بهذا الدين، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"

يا قومنا: لقد ابتغى طوائف من قومنا العزة والنصر والوحدة بغير دين الله؛ ابتغوها في القوميات والوطنيات، وفي البائد الفاسد من الأحزاب والانتماءات، فماذا كانت النتيجة؟ إنها الذل -ولا أبلغ من كلمة الذل- وواقع الذل في كثير من الأنحاء والجنبات.

إن قضايانا في قدسنا وفلسطيننا وكشميرنا ومواقع أخرى اختزنت الذل في ظل نداءات غير إسلامية، وما واقع هذه القضايا إلا شاهدٌ عليه .. أبواقٌ كانت تنفخ كاذبة، وتتاجر بهذه القضايا خاطئة .. ترعد وتزبد، وتحذر وتخبر بالوعود الوهمية حينما كانوا يقولون ويتنادون: تحرير كل شبر من الأرض، وتحرير كل حبة من الرمل، والنضال حتى آخر قطرة من الدم .. في نداءات وادعاءات صرخوا بها ونفخوا فما رأيت إلا هباءً ورماداً.

إن العرب والمسلمين حين ينبذون الإسلام وراءهم ظهرياً؛ فإنهم -والله الذي لا إله غيره- لينتحرون انتحاراً، ويطرحون سعدهم ومجدهم وطاقتهم وقوتهم.

ومن أجل استيعاب الدرس والوقفة الصادقة من أجل انطلاقة مثمرة فلنتأمل: إن كثيراً من الكتاب والمفكرين والمحللين والإخباريين الذين يتحدثون عن قضايانا في قدسنا وفلسطيننا وكشميرنا وكل حقوقنا ومغتصباتنا .. هل سمعتم أحداً منهم يتحدث عن الله وعن رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟!

هل تحدث أحدٌ منهم عن أن عمر بن الخطاب دخل بيت المقدس، وتسلم مفتاح المدينة من النصارى وليس من اليهود؟!

ما تحدث متحدثٌ منهم عن أصلنا الديني وتاريخنا الإسلامي .. لا يتحدثون إلا عن كنعان وميراث كنعان .. ألا بعداً لكنعان كما بعدت ثمود.

إن خصومنا هم بنو إسرائيل وأتباع التوراة! وأما بنو قومنا هؤلاء فيا ترى هم بنو من؟!
إن كثيرا ًمن بني قومنا لا يتنادون إلا باسم الأرض وحق كنعان، وبالله الذي لا يحلف بغيره إن إدارة المعركة على هذا النحو ما هو إلا ضلال استعماري مرسوم وقع فيه من وقع، في محنة نفسية وعسكرية وسياسية، لن ينالوا -والله- من ورائها خيراً..

إن بني إسرائيل يديرون المعركة ويعقدون ويبرمون باسم الدين، وباسم التوراة، وباسم التلمود، ويتنادون إلى أرض الميعاد، وثلة من بني قومنا يتنادون بعلمانية وكنعانية .. إنهم لا يذكرون محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا عمر الفاروق، ولا صلاح الدين، ولا شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا محمداً الفاتح، ولا التاريخ المجيد كله .. مسحورون بالاستعمار العالمي الذي ألغى الدين وجعل الشعوب تتنادى بالقومية والوطنية، وما جنوا من ورائها نقيراً ولا قطميراً .. يخرجون الإسلام من الميدان، ويبقى الذين يتنادون بالتوراة وحدود التوراة وآمالها ووعودها.

نظرة إلى الواقع الأليم في كثيرٍ من أجزاء الأمة وبقاعها، وفي رءوس كثيرٍ من مفكريها ومثقفيها وساستها ومنظريها، تكشف كم بعدت الشقة بين هؤلاء وبين شريعة ربهم، ومناهج التربية تفرض عليهم من وراء حدود، ويتحكم فيها أعداء الإسلام كما يشاءون، وإعلامهم لا يهتم إلا بإثارة الغرائز، وبث الفرقة، ونقل كفاءات الغرب ومجونه .. فهل على الفيلم الخليع، والغناء الوضيع، والرقص الماجن تربى أمة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!

إنهم مفكرون ومثقفون ومنظرون لا يعتمدون على الدين في تربية، ولا يتبنونه بتشريع، ولا يوثقون به رباطاً، ولا ينطلقون منه في تضحية.......

ودرس آخر ثقيل، وموقف من الذلة شديد -أيها الإخوة- فلقد أصابنا يهود في ديننا، ونبينا، وقرآننا، ومقدساتنا، وأنفسنا وديارنا، فكلما تقدم المفاوضون معهم خطوة باتجاه السلام المرفوع زاد منهم توجيه الإهانات، وألوان الاحتقارات، وصور الإذلال للمشاعر والشعائر والمقدسات .. لقد حرقوا المسجد الأقصى، وحفروا من تحته الأنفاق، وصادروا الأراضي، وبنوا مغتصبات سموها مستوطنات، ثم تطاولوا وتطاولوا حتى داسوا القرآن ومزقوه تحت أقدامهم، وأهانوا نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصورهم ورسومهم .. إنه درس التاريخ القديم والحديث، وإن نصوص شرعنا الذي تزيدنا تمسكاً بكتاب ربنا وصحة طريقنا وإيقاناً بوعد القرآن ووعيده .. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) [النساء:45].

هؤلاء هم اليهود بطبعهم وخلقهم، وهم شاهدون على أنفسهم في الماضي والحاضر، ولا يقال هذا تجنياً، ولا تزيداً ولا ادعاءً، ولا استعداءً، فلقد آذوا موسى عليه السلام من قبل، ورموا مريم البتول عليها السلام بالإفك والبهتان، وقتلوا الأنبياء، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وحاولوا قتل نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتآمروا عليه، وما انفكوا طوال تاريخهم يكيدون للشعوب، فقد أحلوا الربا، وروجوا الفسوق، وأكلوا أموال الناس بالباطل، واسمعوا إلى كتاب ربكم وهو يحدثكم عنهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ..) إلى قوله سبحانه: (.. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) [النساء:155-161].

نعم؛ لقد أصابونا في ديننا، ونبينا، وقرآننا، ومقدساتنا، وأنفسنا، وديارنا .. وإن العقل والمنطق والحكمة يقتضي أن يراجع ذوو الشأن من قومنا هذه المماطلات والمماحكات في المفاوضات، ويعلنوا موقفاً واضحاً من السلام الشامل العادل الذي يعيد المغتصب ويخرج المحتل ويرد المشردين ويخرج المعتقلين .. لا بد من ربط السلام بالإسلام؛ فبالله نحلف أنه لن يقوم سلامٌ ما لم يحترم الإسلام ويعرف له قدره في الماضي والحاضر والمستقبل، أما أن يستمر اليهود المحتلون، يحرثون ويزرعون ويمتدون، ويغتصبون تحت وابل القذائف اللفظية العربية الثقيلة التي لا تحرر أرضاً، ولا تعيد حقاً، ولا تحمي طفلاً، ولا تبني بيتاً، ومجلس الأمن الذي يضرب بحق النقض كل ما يعارض مصالح المحتلين، فهذا مالا يمكن أن يحقق سلاماً.

ومن جانب آخر فإن الإنصاف يقتضي القول الجازم العاقل أنه لا يمكن أن يكون القتل العشوائي طريقاً للسلام، ولا يكون الاعتداء على غير الغاصبين المحتلين طريقاً للسلام، لكن لابد أن يعلم أن الكبت لابد أن يولد انفجاراً، وأن طمس الحقائق لابد أن يولد عنفاً .. يجب أن يعي كل عاقل أن هناك حدوداً للقهر والظلم فلا يضيعوا فرص السلام الحقيقي العادل .. وإن الأمة لتغار على دينها، وتثأر لكرامتها، ولا يمكن أن تكون القضية نهباً لعمليات الطرح والقسمة على موائد الطامعين واللئام!

إنها ليست ورقة باهتة يلقى بها على موائد المفاوضات.. إنها قضية كبرى تتمرد على الوقت الذي تحصره كتابة سياسية أو تحليل آلي، إنها بقعة مباركة من أرض الله وديار المسلمين تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء، وتتصل بجذورها وضمائر أجيالها .. إنْ قصَّر مسئول أو تقاعس جيل فإن القضية أكبر من ذلك وأكبر، إنه نداء متصل من أجل إنصاف القضية وإقرار العدل على الأرض والشعب والقضية .. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:138-141].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إن ربي قريب مجيب.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الإخوة: رغم مظاهر القساوة والعتاوة التي توحي بها مشاهد الحاضر المهزوم، والمستقبل الغامض المأزوم، ورغم تكدُّس معالم الفشل في كثيرٍ من الأنحاء، وفي ظل الانحراف الفكري المنهزم .. رغم كل هذا فإن المسلم المتعلق بربه، المؤمن بوعيده ووعده، والمتبصر بالسنن ونواميس الكون، يرى من وراء ذلك كله فتحاً قريباً، وليس هذا تحدثاً من سياسة قاصرة، ولا من منطق وهمٍ زائل، ولا هو من معطيات واقع مرير، ولكنها روح الأمل الدافع، والفأل الدافق الذي تغرسه في أهل الإسلام حقائق الوحي، وهداية النبوة المحمدية الخاتمة، وشواهد التاريخ .. فلن تضيع بإذن الله قدسنا، ولا فلسطيننا، ولن تضيع قضايانا، ولن تضيع قضايا وراءها مسلمون مؤمنون.

إن القرآن الكريم والسنة المطهرة والتاريخ المحفوظ، يحدثوننا وينبئوننا أن أمة الإسلام أمةٌ متجددة وعودة، كالغيث لا يدرى الخير في أولِّه أو في آخره، إنها أمة غير منقطعة بل متصلة مستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى" فلا تضعف في جانب إلا وتقوى في جانب، ولا تنهزم في ناحية إلا وتنتصر في أخرى، واستقراء التاريخ يؤيد ذلك؛ من خلافة الراشدة، ثم دولة أموية وعباسية، وبعدها دول، من بعدها دول والهجوم على ديار الإسلام، ويقيض الله له من يرده على أعقابه من التتار والصليبيين، وظهر الغزنويون في الهند وأفغانستان، واستعصت القسطنطينية على الأمويين، ولكنها فتحت للعثمانيين بعدما يزيد على سبعة قرون، فتحققت بشارة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحينما خرج المسلمون من الأندلس كان الإسلام قد توغل في أقطار أفريقيا، وشرق أوروبا، وفي جنوب شرق آسيا، وفي جزر أندونيسيا.

عباد الله: هذا هو التاريخ، وهذه دروسه، وتلك هي سنن الله في الغابرين والحاضرين، فأبشروا وأملوا، وبدينكم فاستمسكوا، وربكم غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ثم صلوا وسلموا على نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عزَّ قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الملة وجميع أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم، واجمعهم على الحق يا رب العالمين!

اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم واجعل الدائرة على أعدائهم، يا قوي يا عزيز!

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
 

 

 

 

المرفقات

1141

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات