معركة القادسية

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-22 - 1436/04/02
عناصر الخطبة
1/العناية بأبطال الإسلام وأهمية معركة القادسية 2/اختيار سعد بن أبي وقاص لقيادة جموع المسلمين إلى القادسية 3/وفود المسلمين إلى ملك الفرس \"كسرى\" 4/بطولة طليحة بن خويلد الأسدي 5/دعوة رستم إلى الإسلام 6/وصف مختصر لمعركة القادسية وبعض بطولات المسلمين فيها 7/قصة توبة أبي محجن الثقفي والدروس المستفادة منها

اقتباس

أيها المسلمون: معركة القادسية من المعارك الحاسمة في تاريخ العالم، فهي التي انفتحت على آثارها أبواب العراق وما وراء العراق من بلاد فارس، وهي التي من عندها استطرد نصر المسلمين، فاستطرد معه السقوط الساساني من الناحيتين الحربية والسياسية، والسقوط المجوسي من...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

القادسية وما أدراكم ما القادسية معركة من معارك الإسلام الخالدة، تاريخ وأحداث، قصص ومواقف، يعجز عن تسطيرها القلم، وعن وصفها اللسان، وعن التعبير عنها خطيب، لكنه الإسلام الخالد، الذي يصنع من الرجال غير الرجال، ومن الأحداث والأخبار ما يشبه الأساطير والمعجزات، ولا تزال الأمة بخير ما دامت ترتبط بتاريخها ورجالاتها، لكن عندما تتنكر الأمم لصانعي تاريخها، فإنها تنحدر من العلياء إلى الحطيط، وتبدأ تتخبط هنا وهناك.

 

وإن أمة تستحي أن تفخر بتاريخها لهي أمة لا تستحق الحياة.

 

وستبقى الأمة بخير ما بقي الفرد فيها يعرف عن خالد وسعد أكثر مما يعرف عن لاعبي الأندية، ويعرف عن محمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم وعقبة بن عامر أكثر مما يعرف عن فلان وفلان ممن يروج لهم وسائل الإعلام.

 

أيها المسلمون: معركة القادسية من المعارك الحاسمة في تاريخ العالم، فهي التي انفتحت على آثارها أبواب العراق وما وراء العراق من بلاد فارس، وهي التي من عندها استطرد نصر المسلمين، فاستطرد معه السقوط الساساني من الناحيتين الحربية والسياسية، والسقوط المجوسي من الناحية الدينية العقائدية.

 

في القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسراً لم ينجبر بعدها أبداً، وبعدها انساح دين الإسلام في العالم شرقاً وغرباً.

 

فلنعش -أيها الأحبة- لحظات مع أحداث هذه المعركة العجيبة، ولنقف مع بعض فوائدها وفرائدها.

 

كان للفرس دولة عظيمة قوية اتخذت من المدائن عاصمة لها، وأطلق عليها العرب اسم دولة الأكاسرة.

 

وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجِسر، والتي قتل فيها خلق من المسلمين، ونقض أهل الذمة في العراق عهودهم، وبدأ الفرس في لمّ شملهم تحت قيادة يزدجرد، وبدأوا بالتحرك على حدود الدولة الإسلامية، قرر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخروج بنفسه غازياً للفرس في العراق، وأعلن ما يسمى في عصرنا بالنفير العام، فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي وشرف وبسطة، ولا خطيباً ولا شاعراً إلا أرسله إلى العراق، وقال: "والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب".

 

فلما كان على بعد ثلاثة أميال من المدينة، استشار عمر كبار الصحابة معه، وكان رأيهم أن يرجع هو إلى المدينة، ويبعث أحداً مكانه، فقال: أشيروا عَليّ برجل؟ فقالوا: إليك الأسد في براثنه، سعد بن أبي وقاص فأحضره عمر وأقرّه على جيش العراق، وقال له: "يا سعد لا يغرنك من الله إن قيل خالُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكنه يمحو السيء بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلزمه فالزمه".

 

سار سعد -رضي الله عنه- بالجيش، وتتابعت الإمدادات، حتى صار معه ثلاثون ألفاً من المجاهدين المؤمنين، فنظم الجيش، وكلّف يزدجرد قائده رستم بقيادة الجيش، فحاول رستم الاعتذار عدة مرات، لكن أصرّ عليه يزدجرد، فأرسل سعد وفداً لمقابلة يزدجرد، وكانت هذه عادةٌ قبل المعارك، وكان في الوفد النعمان بن مقرّن، والمغيرة بن شعبة، فأحضر يزدجرد قائده لاستقبال هذا الوفد الفريد من نوعه، فدخلوا عليه، وحضر الترجمان، فسألهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزو بلادنا؟

 

فتكلم النعمان بن مقرّن، وقال: "... أتينا ندعوكم إلى ديننا، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه؛ الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم خلّفنا فيكم كتاب الله، ونرجع عنكم، وإن بذلتم الجزية قبلنا وإلا قاتلناكم".

 

فتلكم يزدجرد بعدما أثاره هذا الكلام، وقال: "إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى منكم، ولولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ارجعوا إلى صاحبكم، وأعلموه أني مرسل إليه رستم، حتى يدفنه ويدفنكم في خندق القادسية".

 

رجع الوفد ويزدجرد منـزعجٌ من حديثهم، وقال لرستم: "ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء".

 

وما عَلِم هذا الضال أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- غيّر النفوس، وقلبها إلى حكماء وعلماء، وجعل منهم أسوداً، الرجل بألف رجل.

 

سار رستم بجيش يبلغ تعداده 120 ألفاً، ومعه سبعون من الفيلة.

 

من البطولات العجيبة التي حصلت قبل المعركة: أن دخل طليحة الأسدي معسكر رستم لوحده فصار يجوسه ويتوسم ما فيه، لكي يعرف مقدار قوة جيش العدو، فشعروا به، فخرج يحطّم عليهم أعمدة خيامهم، وأخذ أمامه فرساً، فركبوا في طلبه، فلحق به فارس منهم فقتله طليحة، ثم لحق به آخر فقتله أيضاً، فلحق به ثالث، فكرّ عليه طليحة وأسره، ودخل به على سعد، فطلب الأمان، فأمّنه سعد وأتي بالترجمان، فقال الفارسي: لقد باشرت الحروب منذ أنا غلام، وسمعت بالأبطال، ولم أرمثل هذا! يدخل المعسكر بمفرده، والجند آلاف، ثم طلبناه فما أدركناه، فقتل الأول، وهو عندنا بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره، ثم أدركته، ولا أظنّ أني خلفت من بعدي من يعدلني، فرأيت الموت واستؤسرت، ثم أسلم هذا الأسير، وحسن إسلامه.

 

أرسل بعدها رستم إلى سعد: أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، فأرسل إليهم ربعي بن عامر، فحبسه الحراس على جسر نهر الفرات خشيةً منه، وبعد مشاورات سمحوا له، وقد جلس رستم على سرير من ذهب خالص، وبُسط أمامه النمارق والوسائد، فأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة، فنـزل وربط فرسه بوسادتين شقهما، وأدخل الحبل فيهما، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: لم آتكم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم إلا كما أريد وإلاّ رجعت، فأخبروا رستم، فقال: ائذنوا له، فأقبل ربعي يتوكأ على رمحه، ويزج النمارق والبسط، فلم يدع نمرقاً، ولا بساطاً إلا أفسده، فلما دنا من رستم جلس على الأرض، وركز رمحه، وقال: إنّا لا نستحب القعود على زينتكم.

 

فسأله الترجمان: ما جاء بكم؟

 

فقال ربعي كلماته الخالدة التي سطرها التاريخ منذ ذلك الزمان، وحتى وقتنا هذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأجيال المسلمين يرددون كلمات ربعي، حيث قال: "الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر".

 

فقال رستم: "قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟".

 

فقال ربعي: "وإن مما سنّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.

 

رجع ربعي إلى جيش المسلمين، وترك القوم في حيرة مما قاله لهم، وأوقع في نفوسهم من الخوف والهلع قبل المعركة.

 

وفي اليوم التالي أرسل رستم إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل "ربعي" لنتفاوض معه مرةً أخرى، فبعث إليهم حذيفة بن مُحصن، أقبل حذيفة، ولم ينـزل عن فرسه، فقال رستم: انزل، قال حذيفة: لا أفعل، فقال له: ما جاء بك ولم يجئ الأول؟ قال له: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، فقال: ما جاء بكم؟ سؤالهم المعهود! فأجابه بمثل جواب ربعي، فقال رستم: "المواعدة إلى يوم ما".

 

قال حذيفة: نعم، ثلاثاً من أمس.

 

وفي اليوم الثالث طلب رستم رجلاً آخر، فبعث سعد إليه المغيرة بن شعبة، فأقبل وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس مع رستم على سريره ووسادته، فوثبوا عليه فأنزلوه ومعكوه، فقال كلمات أفسدت حياة الفرس إلى الأبد، قال بهدوء واطمئنان: "كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معاشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسي، اليوم علمت أن أمركم مضمحل، وأنكم مغلوبون".

 

فنخر رستم نخرةً، واستشاط غضباً، ثم أقسم بالشمس لا يرتفع الصبح غداً حتى أقتلكم أجمعين.

 

فانصرف المغيرة، تاركاً وراءه رستم ومن حوله، يغلون غضباً، وفي دوامة من التفكير.

 

فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا إلينا فأمر سعد جيشه أن يقفوا مواقفهم، وعبر الفرس النهر، وجلس رستم على سريره، وعبّأ في قلب الجيش 18 فيلاً.

 

وأما سعد، فقد نظم الجيش، واستخلف عليهم خالد بن عرفطة؛ لأنه أصيبرضي الله عنهبمرض عرق النسا، فكان لا يتمكن من الجلوس، ولكنه بقي يشرف على القتال من مكانه.

 

فأمر الجيش أن الزموا مكانكم، حتى تُصلّوا الظهر، فإذا صليتم، فإني مكبر تكبيرة، فكبروا واستعدوا، فإن سمعتم الثانية، فكبروا والبسوا عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة، فكبروا وليُنشّط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً، حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.

 

فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات، فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فتبادلوا الطعن والضرب، فخرج فارسيٌّ يريد المبارزة، فقام له عمرو بن معد يكرب أحد فرسان اليمن، فبارزه فاعتنقه ثم جلد به الأرض، فذبحه كما تذبح البهيمة، فرماه آخر بقوس من بعيد، فعرفه عمرو فحمل عليه فاحتمله ووضعه بين يديه، حتى دنا به من المسلمين، فكسر عنقه، ثم وضع السيف على حلقه، فذبحه ثم ألقاه، وقال: "هكذا فاصنعوا بهم أيها المسلمون".

 

ومما أزعج المسلمون الفيلة التي جاء بها رستم؛ لأن الخيول كانت تحجم عنها وتحيد، فاقترح عاصم بن عمرو أن يرموا ركبان الفيلة بالنبل، فشد عليهم الرماة، فما بقي فيل إلا قُتل صاحبه، واقتتل الناس ذلك اليوم حتى غروب الشمس.

 

وفي اليوم الثاني أصبح المسلمون، وإذا بنواصي الخيل قادمة من الشام، وقد فتحت دمشق، وفي مقدمته القعقاع بن عمرو، فما عمل القعقاع، وهو يعلم عدد جيش المسلمين، وضخامة جيش الفرس، قطّع الجيش عشراً عشراً، وكانوا ألف فارس، وجعلهم متباعدين يثيرون الأرض، حتى يصلوا ويلحقوا بالجيش، فبقيت العشرات تتوارد أرض القادسية، حتى المساء.

 

فظن الفرس أن مائة ألف قد وصلوا من الشام، فألقى القعقاع، في قلوبهم الرعب والهلع، فلا تدري من أين جاء هؤلاء الفرسان بفنون الحرب وخططها، وهم حديثو عهد بالحروب، ومن خطط القعقاع أيضاً أنه ألبس الإبل البراقع، فجعلت خيل الفرس تفر منها تحسبها فيلة، فلقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة، فتنشّط المسلمون وتقاتل الفريقان ذلك اليوم، حتى منتصف الليل.

 

ومن القصص العجيبة التي حصلت في ذلك اليوم، قصة الخنساء وأبنائها الأربعة، جمعت أبنائها في أول الليل، وقالت لهم: "إنكم أسلمتم مختارين وتعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجلّلت ناراً على أوراقها، فتيمّموا وطيسها، وجالدوا رئيسها".

 

فخرج أبنائها الأربعة، فقاتلوا ببسالة، حتى قتلوا جميعاً، فلما بلغها الخبر، قالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

 

أيها المسلمون: قد يتعجب البعض من انتصار المسلمين في القادسية وغيرها من المعارك، وعدد العدو أضعاف أضعاف المسلمين، فلمَ العجب وفي نساء المسلمين من أمثال الخنساء فكيف بالرجال؟.

 

ذكر ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية قصة امرأة همّام بن الحارث النخعي، قالت: شهدنا القادسية مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فُرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي، ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنولّيهم ذلك -تعني استلابهم- لئلا يكشفن عورات الرجال.

 

إنها المرأة المسلمة، لبنة من لبنات المجتمع المسلم تشارك في مجالها، وتحافظ على حيائها وعفافها.

 

أين هذه الصورة من بعض نساء اليوم ممن يلهثن وراء عروض الأزياء، وبيوتات الموضة، متأثرات بموجات التغريب والعلمنة؟

 

إن المرأة المسلمة لها دورها، ويمكنها أن تقدم لنفسها، وأن تخدم دينها، وأن تشارك أمتها في شدتها ورخائها، وحريّ بنا نحن أن نوجه هذه المرأة، وأن نحسن استغلال طاقاتها، وإلاّ ضاعت أوقاتها بين مكالمات فارغة، ومشاهدات ساقطة، وقراءات هابطة، وتجول وتسكع بين أروقة المجمعات التجارية، وسيدفع ثمن ذلك الجميع؟.

 

وكيف لا ينتصر المسلمون، وفيهم رجل عجوز أعمى، مثل ابن أمّ مكتوم -رضي الله عنه وأرضاه-؟

 

قال أنس -رضي الله عنه-: "رأيت يوم القادسية عبد الله بن أمّ مكتوم، وعليه درعٌ يجرّ أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أُكثّر سواد المسلمين بنفسي، وقال: ادفعوا إليّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، فأقيموني بين الصفين".

 

واستشهدرضي الله عنه وأرضاهيوم القادسية، ودفن هناك ليعطّر تلكم البقعة بدمه الطاهر.

 

إنها الهمم العالية، والبذل العجيب في سبيل هذا الدين رجالاً ونساءً.

 

أيها المسلمون: أصبح القوم لليوم الثالث على التوالي وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وبات القعقاع ولم ينم تلك الليلة، واستمر القتال حتى الصباح، وكان صليل الحديد فيها كصوت سوق الحدادين، ولم ينم سعد تلك الليلة أيضاً، وأقبل يدعو الله أن ينصر جنده، فأصبح الناس لليوم الرابع، والقتال مستمر، فأصبح القعقاع بن عمرو، ورأى أنها قد طالت، فجمع حوله جماعة من الرؤساء وشجعهم، وكانرضي الله عنههو محور المعركة الفاصلة، فقال لهم: "إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة".

 

فقصدوا رستم، وخالطوا جيش العدو، فوصل القعقاع إلى سرير رستم، وقتلوا من دونه، فهرب رستم، ونزل في الماء، فرآه هلال بن علّفة، فلحق به، ورمى بنفسه عليه، وتناوله من رجليه، فأخرجه من الماء، ثم ضرب جبينه بالسيف، حتى قتله ثم ألقاه بين أرجل البغال، ثم صعد طرف السرير، وقال: قتلت رستم ورب الكعبة، فكبر الجميع وهو يطوفون به، يرون رأس رستم، فلما رأى الفرس ذلك المنظر، وبعد قتالٍ استمر يومين كاملين دون توقف، انهزموا، فتبعهم المسلمون برماحهم وسيوفهم، وهم يقتلون فيهم.

 

بقي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مشغول الفكر والقلب بأمر القادسية، وكان يخرج كل يوم خارج المدينة، لعل أحداً يأتي من طرف سعد بالخبر يزف إليه البشرى بالنصر، ولكنه يرجع إلى أهله دون أن يرى أحداً.

 

وفي اليوم الذي ورد فيه البشير، لقيه عمر وهو يسرع على ناقته، فسأله عمر: من أين؟ قال: من قبل سعد، فقال عمر: يا عبد الله حدثني، قال: هزم الله العدو، كل هذا، والبشير مسرع على ناقته، وعمر -رضي الله عنه- يجري وراءه، والرجل لا يعرف أنه عمر، حتى دخل المدينة، فإذا بالناس يُسلّمون على عمر، فقال الرجل: فهلاّ أخبرتني -رحمك الله- أنك أمير المؤمنين؟ وعمر يقول: لا عليك يا أخي، فنادى: الصلاة جامعة، وزف بشرى النصر إلى الناس، وقرأ عليهم كتاب سعد بالفتح.

 

بقي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بعد النصر شهرين، ثم توجه إلى المدائن ودخلها، واتخذ من إيوان كسرى مصلى ودخله، وهو يقرأ قول الله -تعالى-: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ)[الدخان: 25-28].

 

وصلى فيه صلاة الفتح ثمان ركعات، وبعث بتاج كسرى وثيابه المنسوجة بالذهب، وحليّه وسيفه وجواهره إلى عمر، ليرى ذلك المسلمون، وليوزعها على الأمة، فقال عمر: "إن قوماً أرسلوا هذا لذو أمانة" فقال علي -رضي الله عنه-: "إنك عففت، فعفّت رعيتك".

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

ومن قصص القادسية، والتي تستحق أن نقف عندها: قصة أبو محجن، كانرضي الله عنه قد اتهم بشرب الخمر، وقصته: أنه خرج مع المجاهدين في معركة القادسية، وقد حبسه سعد في المعركة، ومنعه من القتال من أجل المسكر، فلما اشتد القتال، وكان أبو محجن قد حبس وقُيّد في القصر، فأتى سلمى بنت خَصفة امرأة سعد، فقال لها: هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنّي وتعيرينني البلقاء -وهو فرس سعد- فلله عليّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في قيدي، وإن أُصبت فما أكثر من أفلت، فقالت: ما أنا وذاك، فقال حزيناً على نفسه، والأبطال في حلبة القادسية، وهو مقيّد:

 

كفى حُزناً أن تُرد الخيل بالقنا *** وأُترك مشدوداً عليّ وثاقيا

إذا قُمت عنّاني الحديد وغُلقت *** مصاريع دوني قد تصمّ المناديا

وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوة *** فقد تركوني واحداً لا أخا لِيا

وقد شق جسمي أنني كلَّ شارفٍ *** أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا

فلله درّي يوم أُتركَ موثقاً *** ويذهل عنّي أُسرتي ورجاليا

حبست عن الحرب العوان وقد بدت *** أعمال غيري يوم ذاك العواليا

ولله عهد لا أخيس بعهده *** لئن فُرّجت أن لا أزور الحوانيا

 

فسمعت سلمى منه، وهو يردد هذه الأبيات، فقالت: إني استخرت الله، ورضيت بعهدك، فأطلقته.

 

فاقتاد الفرس، وأخرجها من باب القصر، فركبها، ثم دب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة، كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين.

 

ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة، فكبر على ميمنة القوم، يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، فلما انتصف الليل تحاجز الناس، وتراجع المسلمون.

 

وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، فوضع عن نفسه ودابته، وأعاد رجليه في قيوده.

 

فجاء سعد، فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم؟

 

فجعل يخبرها، ويقول: لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن في القيود، لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، فقالت: والله إنه لأبي محجن، كان من أمره كذا وكذا. فقصت عليه قصته. فدعا به، فحلّ قيوده، وقال: لا نجلدك على الخمر أبداً، قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبداً.

 

أيها المسلمون: من الذي لا يخطئ؟ ومن الذي لا يزل؟

 

كل بني آدم خطاء، لكن الخطيئة في الإسلام ليست وصمة عار تبقى ملاصقة للمرء لا فكاك عنها، فخير الخطائين التوابون، فالخطيئة تعالج بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها وأتبع السيئة الحسنة تمحها: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".

 

قال الله -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ )[هود: 114].

 

إن المخطئون والمذنبون ليسوا عناصر فاسدة في المجتمع المسلم لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولو أن كل من أخطأ أو أذنب استبعد من كل شيء، لتعطّلت كثير من المصالح والأنشطة.

 

ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد؟

 

هكذا يجب أن نتعامل مع صاحب المعصية، فليس في الإسلام أن فلان من الناس قد كتب عليه الشقاوة أبد الدهر، بل ربما هذه السيئة التي وقع فيها الشخص ترفعه إلى أحسن مما كان قبلها بسبب الندم على فعلها، وكثرة الاستغفار منها، ومحاولة التعويض عنها، فهل يعي المربون هذا؟ وهل من تفكير في إيجاد أماكن تناسب أصحاب الخطايا يمكن من خلالها أن يقدموا شيئاً لدينهم، وأن ينفعوا أنفسهم، وغيرهم؟

 

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا ...

 

 

المرفقات

القادسية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات