عناصر الخطبة
1/ تأملات في أسباب وأحداث معركة القادسية 2/ حقد الروافض على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب 3/ الإشادة بعاصفة الحزم والحث على مؤازرتها.اقتباس
إِنَّ دُخُولَ بِلادِ فَارِسَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ مِنْ الْمُفْتَرَضِ أَنْ تَتَضَاعَفَ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ طَالَمَا أَنَّهُمْ مُنْتَسِبونَ لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّ فِئَةً مِنْهُمْ يُعْلِنُونَ الإِسْلامَ، وَهُوَ مِنْهُمْ بَرَاءٌ، وَلَا يَرْوُنَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَكْفَرَ مِنْ عُمَر، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!! الَّذِي أَدْخَلَ الإِسْلامَ إِلَى بِلادِهِمْ، وَلَا يَكْرَهُونَ بَشَرًا كَكُرْهِهِمْ لَعُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَمَا قَتَلَ عُمَر، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، إلَّا هُمْ، بَلْ وَيَحْتَفِلُونَ بِيَوْمِ مَقْتَلِهِ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، وَيُقِيمُونَ مَسِيرَاتٍ ضَخْمَةٍ فِي بدَايَةِ شَهْرِ اللهِ الْمُحْرَّمٍ سَبًّا وَشَتْمًا لَعُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَرْضَاهُ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي كَوْنِ مَسِيرَاتِهِمْ فِي مُحَرَّمٍ؛ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ الْجُيُوشَ لِفَتْحِ بِلَادِ الْفُرْسِ فِي بِدَايَةِ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ، وَإِنْ كَانَ الفَتْحُ لَمْ يَتْمَّ إِلَّا فِي مُنْتَصَفِ شَهْرِ شَعْبَانَ.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الحمدُ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ، قَامَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بِحَثِّ النَّاسِ عَلَى جِهَادِ الْفُرْسِ، بَعَدَ انْتِظَامِ شَمْلِهِمْ، وَنَقْضِهِمْ عُهُودَهُمْ، وَنَبْذِهِمُ الْمَوَاثِيقَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَآذَوُا الْمُسْلِمِينَ وَأَخْرَجُوا الْعُمَّالَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَعَقَدَ مَجْلِسًا لِاسْتِشَارَةِ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، كَمَا اِسْتَشَارَهُمْ فِي خُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ قَائِدًا للْجَيْشِ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنِّي أَخْشَى إِنْ كُسِرْتَ أَنْ يَضْعُفَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ". فَاسْتَصْوَبَ النَّاسُ رَأْيَ ابْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ عُمَرُ: فَمَنْ تَرَى أَنْ نَجْعَلَ قَائِدًا للْجَيْشِ؟ فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُهُ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْأَسَدُ فِي بَرَاثِنِهِ، سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَاسْتَجَادَ عُمَرُ قَوْلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدٍ؛ فَأَمَّرَهُ عَلَى قِيَادَةِ الْجَيْشِ، وَأَوْصَاهُ بِوَصَايَا عَظِيمَةٍ.
وَسَارَ سَعْدٌ - وَمَعَه قُرَابَةُ السِّتَّةِ آلَافٍ- إِلَى الْعِرَاقِ عَنْ طَرِيقِ نَجْدٍ، وَاِنْضَمَّ إِلَيْهِ -وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ لِغَزْوِ الْفُرْسِ- سَبْعَةُ آلافٍ مِنْ بِلادِ نَجْدٍ، وَكَانَ فِي اِنْتِظارِهِ الْمَثْنَى بنُ حارِثَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، وَمَعَه اثنا عَشَرَ أَلفًا، وَلَكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- شَاءَ أَنْ يُقْبِضَ الْمُثَنَّى، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ؛ فَقَدْ أَسْلَمَ الْمُثَنَّى رُوحَهُ إِلَى بَارِئِهَا؛ فَاِنْطَفَأَ سِرَاجٌ مُضِيءٌ، وَعَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الْجِهَادِ.
وَلَا تَزَالُ الْوَصَايَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِسَعِدٍ تَتَوَالَى؛ فَعَمَرُ بِالْمَدِينَةِ، وَقَلْبُهُ مَعَهُمْ، وَمِنْ وَصَايَاَهُ: "فَإِنَّ ذُنُوبَ الْجَيْشِ أَخَوْفُ عَلَيهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ؛ وَإِنَّمَا يُنْصَرُ الْمُسْلِمُونَ بِمَعْصِيَةِ عَدُوِّهِمْ لله، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لَنَا بِهِمْ قُوَّةٌ؛ لَأَنَّ عِدَدَنَا لَيْسَ كَعَدَدِهِمْ، وَلَا عُدَّتَنَا كَعُدَّتِهِمْ، فَإذَا اِسْتَوَيْنَا فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَ لَهُمْ الْفَضْلُ عَلَينَا فِي الْقُوَّةِ وَإلَّا نُنْصَرْ عَلَيهِمْ بِفَضْلِنَا لَمْ نَغْلِبْهُمْ بِقُوَّتِنَا، إِنَّ عَلَيكُمْ فِي سَيْرِكُمْ حَفَظَةَ مِنَ اللهِ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، فَاِسْتَحْيَوْا مِنْهُمْ، وَاِسْأَلُوا اللهَ الْعَونَ عَلَى أَنَفْسِكُمْ، كَمَا تَسْأَلُونَهُ النَّصْرَ عَلَى عَدُوِّكُمْ".
وَكَانَ يَخْرُجُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ الْقَادِمِينِ مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ، يَتَلَمَّسُ أَخَبَارَ الْجَيْشِ، وَكَانَ سَعْدٌ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْوَصَايَا، وَيَسِيرُ وَفْقَ أَوَامِرِ قَائِدِهِ.
لَقَدْ رَسْمَ لَهُ عَمَرُ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، الْخُطَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّحَرُّكِ لِلْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَتِ التَّقَارِيرُ تُرْسَلُ لِعُمرَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، كُلَّ يَوْمٍ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، وَحَثَّهُ عُمَرُ أَنْ يُرْسِلَ وَفْدًا لِمُنَاظَرَةِ مَلِكِ الْفُرْسِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى اللهِ؛ فَاِخْتَارَ سَعْدٌ رِجَالًا مِنْ خَيْرَةٍ الرِّجَالِ، وَأَمَّرَ عَلَيهِمْ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، وَاِلْتَقَى هَذَا الْوَفْدُ بـــــ "يَزْدَجِرْدَ" مَلِكِ الْفُرْسِ، فَقَالَ "يَزْدَجِرْدَ" لَهُمْ: مَا الَّذِي أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ أَظْنَنْتُمْ أَنَّا لَمَّا تَشَاغَلْنَا بِأَنْفُسِنَا اجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا؟
فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ: "إِنَّ اللَّهَ رَحِمَنَا؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُنَا بِهِ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ، وَوَعَدَنَا عَلَى إِجَابَتِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.إِلَى أَنْ قَالَ: فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى دِينِنَا، وَهُوَ دِينُ الإِسْلَامِ حَسَّنَ الْحَسَنَ، وَقَبَّحَ الْقَبِيحَ كُلَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى دِينِنَا خَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ- عَلَى أَنْ تَحْكُمُوا بِأَحْكَامِهِ- وَنَرْجِعَ عنكم، وَشَأْنَكُمْ وَبِلَادَكُمْ"، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ الْعَظِيمِ.
فَقَالَ مَلِكُ الْفُرْسِ: "إِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمَّةً كَانَتْ أَشْقَى، وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلَا أَسْوَأَ ذَاتِ بَيْنٍ مِنْكُمْ"، ثُمَّ بَدَأَ يُغْرِيهِمُ بِالدُّنْيَا - لِظَنِّهِ أَنَّهُمْ مِثْلُهُ- فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ مَا أَتَى بِكُمً الْجَهْدُ؛ فَرَضْنَا لَكُمْ قُوتًا إِلَى خِصْبِكُمْ وَأَكْرَمْنَا وُجُوهَكُمْ وَكَسَوْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلِكًا يَرْفُقُ بِكُمْ.
فرد عليه الْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَبَيَّنَ لَهُ رَحْمَةَ اللهِ بِالأُمَّةِ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ إِنْ شِئْتَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَالسَّيْفُ، أَوْ تُسْلِمُ فَتُنْجِي نَفْسَكَ.
فَقَالَ مَلِكُ الْفُرْسِ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ! ثُمَّ أَرَادَ إِذْلَالَاهُمْ فَأَمَرَ بِحِمْلٍ ثَقِيلٍ مِنْ تُرَابٍ، فَقَالَ: احْمِلُوهُ عَلَى أَشْرَافِ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ سُوقُوهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَدَائِنِ، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيٌّ: أَنَا أَشْرَفُهُمْ، أَنَا سَيِّدُ هَؤُلَاءِ، فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَخَرَجَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا. وَأَخَذَ عَاصِمٌ التُّرَابَ لِسَعْدٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَقَالَ لَهُ: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانَا اللَّهُ أَقَالِيدَ مُلْكِهِمْ.
فَاِسْتَبْشَرَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ مَعْنَوِيَّاتِ بَعْضٍ، وَيَسْتَحِثُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. ثُمَّ خَرَجَ (رُسْتُمُ) قَائِدُ الْفُرْسِ بِجَيْشٍ مَهِيبٍ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، يَزِيدُ عَلَى مَائَةِ أَلْفٍ، وَمَعَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِيلًا مُدَرَّبًا عَلَى الْقِتَالِ، وَقَبْلَ الْمَعْرَكَةِ طَلَبَ رُسْتُمُ أَنْ يُرْسِلُوا لَهُ رَجُلًا يُكَلِّمُهُ، فَأَرْسَلَ لَهُ رِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَوَجَدَ الْمُتَغَطْرِسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَحَوْلَهُ الْوَسَائِطُ، وَالنَّمَارِقُ الْمُحَلَّاهُ بِالذَّهَبِ؛ فَأَبَى رِبْعِيُّ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَقَالَ لِرُسْتُمَ: "لَقَدْ ابْتَعَثْنَا اللَّهُ لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ".
وَمَا زَالَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ سَعْدٍ وَرُسْتُمَ، وَكَانَ آخِرُهُمْ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ تَكَلَّمَ رُسْتُمُ بِكَلَامٍ حَقَّرَ فِيهِ شَأْنَ الْعَرَبِ، وَعَظَّمَ فِيهِ أَمْرَ الْفُرْسِ. فَلَمْ يَنْتَفِعِ الْفُرْسُ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمَادَوا فِي غَيِّهِمْ؛ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. وَاِسْتَعَدَّ الْفَرِيقَانِ لِلْمَعْرَكَةِ، وَخَطَبَ سَعْدٌ فِي النَّاسِ وَتَلَا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].
وَتُلِيَتْ عَلَى الْجَيْشِ سُورَةُ الْأَنْفَالِ؛ فَاِنْشَرَحَتْ قُلُوبُ النَّاسِ وَعُيُونُهُمْ، وَنَزَلَتِ السَّكِينَةُ عَلَيْهِ، وَصَلَّى النَّاسُ الظُّهْرَ، وَأَمَرَهُمْ سَعْدٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. وَكَانَ سَعْدُ مَرِيضًا بِعِدَّةِ أَمْرَاضٍ، لَا يَسْتَطِيعُ الرُّكُوبَ وَلَا الْجُلُوسَ؛ بِسَبَبِ الْقُرُوحِ، والدَّمَامِلِ الَّتِي غَطَّتْ ظَهْرَهُ كُلَّهُ؛ فَكَانَ مُكِبًّا عَلَى صَدْرِهِ، مِنْ شِدَّةِ مَرَضِهِ، وَيُشْرِفُ عَلَى الْمَيْدَانِ فِي القادسيَّةِ، قَادسِيَّةِ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ، وِبِدَأَ وُجُوهُ النَّاسِ يُشَجِّعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَسَجَّلَ أَبْطَالُ الْمُسْلِمِينَ بُطُولَاتٍ نَادِرَةٍ، سَطَّرَهَا التَّارِيخُ بِأَحْرُفٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الْمَعْرَكَةِ قَدِمَتْ طَلِيعَةُ جَيْشِ الشَّامِ بِقِيَادَةِ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ عَمَدَ الْقَعْقَاعُ إِلَى حِيلَةٍ حَيْثُ قَسَّمَ جَيْشَهُ إِلَى مَائَةِ قِسَمٍ، كُلُّ قِسْمٍ مُكَوَّنٌ مِنْ عَشَرَةٍ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقْدِمُوا تِبَاعًا حَتَّى يُوحُوا لِلْعَدُوِّ بِكَثْرَتِهِمْ، فَهُمْ أَلْفٌ وَظَنَّهُمُ الْعَدُوُّ ثَلاثِينَ أَلْفًا، وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ الصَّدِّيقِ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَصَوْتُ القَعْقَاعِ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ"، وَبَلَغَ مِنْ دَهَاءِ الْقَعْقَاعِ فِي مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، أَنْ أَمَرَ بِتَهْيِئَةِ الإِبِلِ فِي مَظْهَرٍ مُخِيفٍ يُنَفِّرُ الْخُيُولَ؛ فَأَلْبَسُوهَا وَجَلَّلُوهَا وَوَضَعُوا لَهَا الْبَراقِعَ، وَهَجَمُوا بِهَا عَلَى خُيُولِ الْفَرَسِ.
وَفِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ اِسْتَطَاعَ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ أَنْ يَفْتَحُوا ثَغْرَةَ عَمِيقَةً فِي قَلْبِ الْجَيْشِ الْفَارِسِيِّ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى سَرِيرِ رُسْتُمَ؛ فَهَرَبَ رُسْتُمُ، فَلَحِقَهُ هِلَالُ بْنُ عُلَّفَةَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ نَحْوَ نَهْرِ الْعَتِيقِ؛ لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ، فَأَمْسَكَهُ هِلاَلٌ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بِرْجْلِهِ وَسَحْبَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ، ثُمَّ صَعَدَ السَّرِيرَ وَنَادَى: قَتَلْتُ رُسْتُمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قَتَلْتُ رُسْتُمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ حَثَّ الْقَوْمَ أَنْ يَأْتُوا إِلَيهِ؛ فَاِنْهَزَمَ الْجَيْشُ الْفَارِسِيُّ، وَحَاوَلُوا الْفِرَارَ، وَكَانَ عَدَدُ الْمُنْهَزِمِينَ ثَلاثَيْنَ أَلْفًا.
وَاِنْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ - بِتَوْفِيقِ اللهِ -تَعَالَى- بِنَصْرٍ عَظِيمٍ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسَلِمِينَ، وَقَضَوْا عَلَى دَوْلَةِ الفُرْسِ الْمَجُوسِيَّةِ؛ فَاِسْتَنَارَتِ الْعِرَاقُ، وَمَا حَوْلَهَا بِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ.
وَأَرْسَلَ سَعْدٌ يُبَشِّرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بِكِتَابٍ يَحْمِلُهُ سَعْدُ بْنُ عُميْلَةَ، وَجَاءَ فِي الْكِتَابِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ نَصَرَنَا عَلَى أَرْضِ فَارِسَ بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ، وَزِلْزالٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ بُعْدَّةٍ لَمْ يَرَ الرَّائُونَ مِثْلَ زُهَائِهَا، فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ اللهُ بِذَلِكَ بَلْ سَلَبَهُمْ، وَنقلَهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْبَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الأَنْهَارِ، وَفِي الْفِجَاجِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رِجَالٌ، عَدَّدَهُمْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَرِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا نَعْلَمُهُمْ، وَاللهُ بِهِمْ عَالِمٌ، كَانُوا يَدوونَ بِالْقُرآنِ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ، وَهُمْ آسَادُ النَّاسِ، لَا تُشْبِهُهُمُ الأُسُودُ.
وَلَمَّا أُتِيَ عُمَرُ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، بِخَبَرِ الْفَتْحِ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَرَأَ عَلَيهُمْ الْفَتْحَ، وَقَالَ لَهُمْ كَلاَمًا عَظِيمًا، وَمِمَّا قَالَ: "إِنِّي وَاللهِ، مَا أَنَا بِمَلِكٍ فَأَسْتَعْبِدُكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ عُرِضَ عَلَيَّ الأَمَانَةُ".
وَمِنْ عَجَائِبِ مَعْرَكَةِ الْقَادِسِيَّةِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ قُتِلَ؛ فَتَنَافَسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الأذَانِ؛ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ، فَيَا لِعِظَمِ هَذَا التَّنَافُسِ عَلَى ذَلِكُمْ الْعَمَلِ الْعَظِيمِ.
وَكَانَ عُمَرُ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، مِنْ شَدَّةِ حُبِّهِ لِدُخُولِ أَهِلِ فَارِسَ الإِسْلَامَ؛ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ نَاحِيَةَ الْعِرَاقِ كُلَّ يَوْمٍ؛ يَتَنَسَّمُ الْخَبَرَ، حَتَّى لَقِي رَاكِبًا؛ فَبَشَّرَهُ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِ سَعْدٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
إِنَّ دُخُولَ بِلادِ فَارِسَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ مِنْ الْمُفْتَرَضِ أَنْ تَتَضَاعَفَ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ طَالَمَا أَنَّهُمْ مُنْتَسِبونَ لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّ فِئَةً مِنْهُمْ يُعْلِنُونَ الإِسْلامَ، وَهُوَ مِنْهُمْ بَرَاءٌ، وَلَا يَرْوُنَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَكْفَرَ مِنْ عُمَر، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!! الَّذِي أَدْخَلَ الإِسْلامَ إِلَى بِلادِهِمْ، وَلَا يَكْرَهُونَ بَشَرًا كَكُرْهِهِمْ لَعُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَمَا قَتَلَ عُمَر، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، إلَّا هُمْ، بَلْ وَيَحْتَفِلُونَ بِيَوْمِ مَقْتَلِهِ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، وَيُقِيمُونَ مَسِيرَاتٍ ضَخْمَةٍ فِي بدَايَةِ شَهْرِ اللهِ الْمُحْرَّمٍ سَبًّا وَشَتْمًا لَعُمَرَ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَرْضَاهُ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي كَوْنِ مَسِيرَاتِهِمْ فِي مُحَرَّمٍ؛ أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ الْجُيُوشَ لِفَتْحِ بِلَادِ الْفُرْسِ فِي بِدَايَةِ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ، وَإِنْ كَانَ الفَتْحُ لَمْ يَتْمَّ إِلَّا فِي مُنْتَصَفِ شَهْرِ شَعْبَانَ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَبْنَاءَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، يُحِبُّونَ الْقَادَةَ الَّذِينَ كَانُوا سَبَبًا فِي إِدْخَالِ الإِسْلَامِ إِلَى بِلَادِهِمْ، بِعَكْسِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، يُكِفِّرُونَ مَنْ أَدْخَلَ الِإسْلَامَ فِي بِلَادِهِم وَيَلْعَنُونَهُ، بَلْ وَلَا يَصِفُونَهُ إِلَّا بِالصَّنَمِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ رِفْعَتِهِ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَعُمَرُ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هُوَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي، وَمِنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ، -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِلَى رَسُولِهِ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
لَمَّا قَضَى صِدِّيقُ أَحمَدَ نَحْبَهُ *** دَفَعَ الخِلافَةَ لِلإِمامِ الثَّانِــــــي
أَعْنِي بِهِ الْفَارُوقَ فَرَّقَ عُنْوَةً *** بِالسَّيفِ بَينَ الكُفْرِ وَالإِيمَانِ
هُوَ أظهَرَ الإِسْلَامَ بَعْدَ خَفائِهِ *** وَمَحَا الظَّلَامَ وَبَاحَ بِالْكِتْمانِ
عِبَادَ اللهِ، لَقَدِ اِسْتَوَلَى الْفُرْسُ عَلَى بِلَادِ إِيرَانَ، وَسَيْطَرُوا عَلَى الْعِرَاقِ، وَتَوَغَّلُوا فِي سُورِيَّةَ، وَيُرِيدُونَ اِحْتِلَالَ الْيَمَنَ، وَالْبَحْرَيْنِ؛ لَا حَقَّقَ اللهُ لَهُمْ أَمَلًا.
إِنَّ مَعَرَكَتَنَا مَعَ الْفُرِسِ؛ لِتَطْهِيرِ الْيَمَنِ مِنْ شَرِّهِمْ، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ كُفْرِهِمْ، وَإِنْقَاذِهَا مِنْ اِحْتِلَالِهِمْ - بَحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ - لَا يَكُونُ إِلَّا بِصِدْقِ الْعَزْمِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ، بِالنَّصْرِ، وَالظَّفَرِ لِقُوَّاتِنَا وَمَنْ مَعَهُمْ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أمَّا بَعْدُ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ فِئَةً مِنَ النَّاسِ كَأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَعْنِيهِمْ؛ مَعَ أَنَّنَا فِي أَيَّامِ حَرْبٍ وَجِهَادٍ؛ فَلَا دُعَاءَ مِنْهُمْ للْمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، وَالْمُجاهِدِينَ فِي الأَجْوَاءِ، الَّذِينَ بَاتُوا يَحْرُسُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ لِلْفُرْسِ، كَمَا لَنَا، فِي غَالِبِ الدُّوَلِ أَتْبَاعًا، وَيُوجَدُ لِبِلَادِنَا، وَكَافَّةِ دُوَل التَّحَالُفِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ أَعْدَاءٌ، يَنْشُرُونَ بَعْضَ اللقَاءَاتِ، الَّتِي تُجْرِيهَا بَعْضُ الْقَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ، وَيَبُثُّ مِنْ خِلاَلِهَا أَحَدُ الأَطْرَافِ شُبَهًا حَوْلَ قُوَّاتِ التَّحَالِفِ؛ يُحَرِّفُهَا عَنْ أَهْدَافِهَا؛ فَيَنْشُرُهَا الجَاهِلُ، أَوْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، أَو الذِي لَا يَعْرِفُ تَبِعَاتِهَا بَيْنَ النَّاسِ.
ثُمَّ يُعَقِّبُ فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرْضَى هَذِهِ الْبِلَادُ - وَهِيَ ضِمْنُ قُوَّاتِ التَّحَالُفِ - أَنْ تُبَثَّ هَذِهِ اللِّقَاءَاتُ عَبْرَ فَضَائِيَّاتِهَا؟! وَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ أَطْيَافًا، تَصْعُبُ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهِمْ، بَلْ وَالْعَجِيبُ أَنْ يُقِيمَ أَفْرَادٌ، لَا يَتَجَاوَزُونَ الْعَشَرَاتِ مُظَاهَرَةً، لَا تَتَجَاوَزُ بِضْعَ دَقَائِقَ، عُمِلَتْ فِي حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَمْنِ بِلَادِهَا، فَيَقُولُ بَعْضُ الْمُرْجِفِينَ وَالشَّامِتِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ: كَيْفَ تَرْضَى دَوْلَةُ كَذَا - وَهِيَ مَعَنَا - بِإِقَامَتِهَا فِي بِلَادِهَا؟!
وَأَهْمَلُوا أَنَّهَا أُخْمِدَتْ فِي حِينِهَا، وَبِصَنِيعِهِمْ هَذَا خَدَمُوا الْأَعْدَاءَ، مِنْ خِلَالِ تَوسِيعِ دَائِرَةِ نَشْرِهَا، وَالتَّهْوِيلِ مِنْ شَأْنِهَا، فَمَا الْفَائِدَةُ مِنْ نَشْرِهَا؟ وَمَا الثَّمَرَةُ الْمَرْجُوَّةُ مِنْ إِشَاعَتِهَا بَيْنَ النَّاسِ؟ لَيْسَ لَهَذَا مِنْ هَدَفٍ؛ إِلَّا تَفْرِيقُ الصَّفِّ، وَلَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ -تَعَالَى-!
وَبَعْضُهُمْ يَجْتَزِئُ مَقَاطِعَ لِبَعْضِ السَّاسَةِ، يَقُومُ بِفَبْرَكَتِهَا، وَتَحْرِيفِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا؛ لِيُعْلِنَ مِنْ خِلَالِهَا أَنَّ تِلْكَ الدَّوْلَةَ ضِدَّنَا، وَمَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي نَشْرِهَا تَقْوِيَةً لِلْأَعْدَاءِ، وَلَا يَقُومُ بِهَذِهِ الْفَبْرَكَةِ الْإِعْلَامِيَّةِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ إِلَّا الرَّافِضَةُ الصَّفَوِيَّةُ، أَوْ مَنْ وَقَعُوا فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، أَوْ مَنْ لَهُمْ صِرَاعَاتٌ فِي تِلْكَ الدُّوَلِ، يَقُومُونَ مِنْ خِلَالِهَا بِتَصْفِيَةِ الْحِسَابَاتِ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا وَقْتُ تَصْفِيَةِ الْحِسَابَاتِ، وَلَا الصِّرَاعَات لِمَنْ كَانَ قَلْبُهُ وَهَمُّهُ - إِنْ كَانَ صَادِقًا- الإِسْلَامُ.
بَلْ وَبَعْضُهُمْ يَنْشُرُ مَقَاطِعَ لِدُعَاةِ الرَّافِضَةِ، فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَقَولُ: كَيْفَ نَدْعَمُهَا وَفِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ؛ يَكْرَهُونَنَا وَيَحْقِدُونَ عَلَيْنَا؟ فَهَلْ يُرِيدُ بِنَشْرِ هَذِهِ الْمَقَاطِعِ التِي تَدْعُو لتَمْزِيقِ الصَّفِّ، أَنْ يَزِيدَ مِنْ أَعْدَاءِ بِلَادِنَا؟ وَمَا عَلِمَ أَنَّ غَالِبَ سُكَّانِ تِلْكَ الْبِلَادِ قُلُوبُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ مَعَنَا، وَهُمْ عَلَى اِسْتِعْدَادٍ أَنْ يَفْدُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ.
فَهَلْ يريدون زَرْعَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَيَبْدَأُ أَفْرَادٌ وَجَمَاعَاتٌ فِي نِقْلِ مِثْلِ هَذِهِ الأَرَاجِيفِ؛ الَّتِي لَا تُقْبَلُ فِي حَالِ السِّلْمِ، فَكَيْفَ فِي حَالِ الْحَرْبِ؟ وواللهِ إِنَّهَا لَا تَخْدِمُ إِلَّا أَعْدَاءَ بِلَادِنَا، وَبِأَفْعَالِنَا هّذِهِ نُقَدِّمُ خِدْمَةً عَظِيمَةً لأَصْحَابِ تِلْكَ الْمَقَاطِعِ، فَلَقَدْ نَشَرْنَا شُبَهَهُمْ، وَأَحْقَادَهُمْ، عَلَى أَوْسَعِ نِطَاقٍ.
وَالْبَعْضُ مِنَ النَّاسِ يُحَذِّرُ مِنْ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَحِلَّاتِ الَّتِي يُدِيرُهَا إِخْوَانُنَا وَأَشِقَّاؤُنَا الْيَمَنِيِّونَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمْ حُوثِيُّونَ، بَلْ وَيَنْشُرُونَ مَقَاطِعَ كَاذِبَةً، وَأَخْبَارًا مُلَفَّقَةً، وَإِفْكًا مُبِينًا عَنْ وُجُودِ تَسَمُّمٍ، أَوْ غِشٍّ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. مَعَ أَنَّهُمْ مُؤَيِّدُونَ لَنَا، وَنِسْبَةُ الْحُوثِيِّينَ فِي بِلَادِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى نِسْبَةِ الْوَاحِدِ بِالْمَائَةِ مِنْ سُكَّانِهِمْ، وَهُمْ إِخْوَانُنَا، يُصَلُّونَ فِي مَسَاجِدِنَا، مُنْذُ عَرَفْنَاهُمْ، لَا نَعْرِفُ مِنْهُمْ إِلَّا الْحُبَّ، وَالوِئَامَ، بَلْ وَلَمْ نَشْعُرْ يَوْمًا أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خَلَافًا فِي الْمُعْتَقَدِ.
وَلَقَدْ أَثْنَى اللهُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِقُوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]؛ فَلْنَتَّقِ اللهَ فِي أَنْفُسِنَا وَبِلَادِنَا، وَلْنَحْذَرْ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ؛ فَمَا اِنْطَلَقَتْ عَاصِفَةُ الْحَزْمِ؛ إِلَّا لِتَحْرِيرِهِمْ مِنَ الْمُعْتَدِينَ، وَتَخْلِيصِهمْ مِنَ الْبَاغِينَ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَأْسَى مِنْ بَعْضِ الْمُغَرِّدِينَ، والمتوترين - وإن شئت فقل: المشوشرين المتوترين- الَّذِينَ قَدْ تَكُونُ نَوَايَا بعضهم سَلِيمَةً، وَلَكِنَّ أَفْعَالَهُمْ قَبِيحَةٌ، فِإِنْ كُنَّا نَحْتَاجُ لِوِحْدَةِ الصَّفِّ، وَاِتِّحَادِ الْكَلِمَةِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِنَا؛ فَاِحْتِيَاجُنَا إِلَيهِ فِي هَذِا الْوَقْتِ أَعْظَمُ؛ فَإِنَّنَا فِي أَيَّامِ حَرْبٍ، وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَعُوا مَعْنَى الْحَرْبِ؛ فَلَا يَجْتَهِدُوا مِنْ عُقُولِهِمْ، وَلَا يَقَعُوا فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ بِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَنْصُرَ بِلَادَنَا وَقُوَّاتِنَا، وَقُوَّاتِ التَّحَالُفِ، وَأَنْ يُعِيدَ لِلْيَمَنِ الْأَمْنَ، وَالْاِستِقْرَارِ، وَأَنْ يَحْمِيَهَا مِنْ مَكْرِ الْمَاكِرِينَ الْأَشْرَارِ، وَأَنْ يُوَفِّقَ وَلِيَّ أَمْرِنَا لْمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَنْ يَأْخُذَ بِنَاصِيَتِهِ للبِرِّ وَالتَّقْوَى.
الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
"اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ".
اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم