محمد عبد الله السمّان
حين دخل اللورد البريطاني اللّنبي بيت المقدس في الحرب العالمية الأولى، قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ربما كان يعني "العسكرية" لتظل الحرب النفسية والسياسية تعمل على الدوام؛ فهو واثق من أن العالم الإسلامي سيظل مهيض الجناح.
والجنرال الفرنسي (غورو) الذي ذهب بعد انتهاء موقعة عيساوي بسوريا إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه، وقال: "قم يا صلاح الدين، ها نحن قد وصلنا".
إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 م كشفت أن الحرب الصليبية لم تنته، بعد أن هدد أبرهة العصر الحديث بوش بأنه سيعلنها حرباً صليبية جديدة، وقد وفى بما هدد، فاحتل أفغانستان المسلمة ودمرها، ثم احتل العراق المسلم ودمره بمسوّغات صدق كذبها، وما زال الاحتلال ينفق مليارات من الدولارات شهرياً، وعلى الرغم من معارضة كثرة من الشعب الأمريكي، وبخاصة أسر القتلى الذين تصل توابيتهم في الظلام.
وما هو جدير بالذكر: أن الاستشراق والتنصير لون من ألوان الحرب الصليبية يتمتعان بأوفر قسط من رواسب الحرب الصليبية، وبعض دول الغرب الصليبي يعتمد جزءاً من الميزانية العامة للإنفاق على مهمة التنصير في العالم الإسلامي، وفي حماية أمريكا بمالها من نفوذ وأوروبا، بل إن مراكز التنصير من خلال مؤسساته: الجامعات والمعاهد والمدارس، تتمتع بحصانة وامتيازات لا حصر لها. بينما لا تتمتع به المؤسسات الوطنية التي أصبحت تحت هيمنة أجهزة الأمن السرية.
كان الهجوم على الإسلام فيما مضى يكاد يكون قاصراً على النشر، لكن بعد هذا التطور الإعلامي ووسائل الاتصال ازداد السّعار في الهجوم على الإسلام ونبي الإسلام، بحر لجّي من الوقاحة، نقابله نحن باستحياء.
ولكن مما يدعو إلى الأسى المرير، هو أن هذا الهجوم ليس قاصراً على الأفراد، بل تجاوزه إلى هيئة لها مكانتها تتبع هيئة الأمم المتحدة، هيئة اليونسكو؛ ففي أحد مجلدّات الحضارة الصادرة عنها، ست عشرة صفحة عن الإسلام، وفي البداية: "الإسلام دين ملفّق من اليهودية والنصرانية والوثنية" أول القصيدة كفر. وقد لفت الأنظار إلى هذه الجريمة الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف المصري الأسبق رحمه الله.
كنت مع الأخ حسين عاشور ـ صاحب "دار المختار الإسلامي"- في لقاء مع الشيخ خلف أمين عام مجمع البحوث الإسلامية يومئذ، قال لي: جئت في الوقت المناسب.. وقص عليّ قصة ما جاء في مجلدات الحضارة. قال: ولقد عرضت الموضوع على كلية الشريعة منذ فترة، ولم تردّ، ويبدو أنها لن تردّ.. وأنت لها لترد عليها في كتاب ما رأيك؟
قلت: على الرحب والسعة، قال أخي الأستاذ حسين: وأنا مستعد لنشر الكتاب للرد على اليونسكو، قال: على بركة الله.
ومما يؤسف له: أنني أهديت الكتاب إلى العديد من الصحف، ولم تشر إليه، حتى مجلة الأزهر، وكتب صديقي الكاتب الإسلامي الأستاذ عبد الرحمن علي البنفلاح في جريدة (أخبار الخليج) في الصفحة الدينية التي يشرف عليها مقالاً ثم قامت هيئة اليونسكو بالرد عليه.. اعتذرت: أنها أحالت ما نُشر عن الإسلام على بعض المتخصصين، واتضح فيما بعد أن الذين كتبوا البحث، لم يُوفّقوا، وأننا سوف نصحح هذا الخطأ في الطبعة القادمة، وكفى.
وفي الطبعة الثانية من كتابي سجّلت ما تم، وبعد صدور الكتاب بأيام معدودة أخبرني جاري في المسكن الدكتور محمد يحيى الأستاذ بكلية آداب القاهرة أن إذاعة إسرائيل أذاعت عن الكتاب وهاجمتني؛ قلت: هذا شرف لم أسعَ إليه!
فمن المؤكد أن جريمة صحف الدنمرك لن تكون الأخيرة!! أجل، لن تكون هذه الجريمة البشعة الأخيرة، وستظل تحديات القوى المعادية للإسلام في عرض مستمر، دون أن تبالي بردود الفعل من العالم الإسلامي الباهتة، ولا ترقى هذه الردود إلى المستوى الرسمي (الحكومات) تكاد تكون قاصرة على بعض الأقلام والألسنة ـ وعلى استحياء.
وفي دول عربية وإسلامية عديدة، لا تسمح بالرد على الهجوم حرصاً على مصالحها. ومصالحها تتصل بالأباطرة.. وهي مصالح مادية وسياسية، ولو على حساب كرامة الدين والوطن والشعب.
إن أي مساس بالصهيونية ولو طفيفاً يقيم دنيا الغرب ولا يقعدها، وقد نجحت الصهيونية في نفوذها على العالم وبخاصة أمريكا والغرب. وأصبح التحرش بهذه الصهيونية معاداة للسامية يجرمه القانون الدولي. إن هناك مهازل مثيرة للسخرية، حسبي أن أذكر مهزلتين:
1- تقدمتُ إلى الرقابة بكتاب لي "محمد الرسول البشر" عام 1958، صدّرته على الغلاف بحديث نبوي صحيح في مسلم وغيره: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".. وأصرّ الرقيب على رفع الحديث، وذكرت ذلك في لقاء مع العالم الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- فأشار عليّ أن أكتب: "لا تطروني ... إنما أنا عبد ... فقولوا: عبد الله ورسوله" وبعد إلحاح وافق الرقيب.
2- في برنامج إذاعي، كان المذيع يجري حواراً مع طلبة الجامعة عن طريق أسئلة للإجابة عنها، سأل طالبة بكلية الآداب اسمها (فاطمة): ماذا تعرفين عن ساعة نحس يوم الجمعة؟ فأجابت: إنها الساعة التي صُلب فيها السيد المسيح. قال المذيع: برافو!! وإذا كان موجّه السؤال جاهلاً جهلاً مطبقاً، فإن الطالبة المسلمة التي أجابت قد نطقت كفراً.. وللمأساة ذيل.
كتبت كلمة موجزة تعقيبا، قلت: ليس في يوم الجمعة ساعة نحس -كما فهم المذيع- فضلّ وأضلّ، بل ساعة من رضا الله كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال: "فيها ساعة لا يوافقها عبد وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه".
أعطيت التعقيب للأستاذ صلاح عزام المحرر بالجمهورية -رحمه الله-، ولما لم يُنشر ذهبت إليه أعتب عليه، فابتسم وأخرج من درج مكتبه الورقة عليها توقيع الرقيب بعدم النشر، ولما سألته قال: إحنا مش ناقصين إثارة فتنة. وضحكت!! وشر البلاء ما يضحك!!
ونعود من حيث بدأنا:
إن ظاهرة الإساءة إلى الإسلام -مردّها- رواسب الحروب الصليبية، هذه الرواسب جعلت الإساءة ممتزجة بالحقد الأسود.. فانتشار ظاهرة الإساءة للإسلام في المجتمعات الغربية وأمريكا، هي رد فعل لفلول التعصب الباقية في هذه الدول التي أدهشها انتشار المد الإسلامي في دول الغرب وأمريكا قبل أحداث 11 سبتمبر، حيث كان الإسلام ينتشر بقوة وعمق، ليصبح في معظم دول أوروبا الديانة الثانية للدولة، وبدأت أغلبية من المثقفين في كوادر علمية كبيرة يقبلون على الإسلام، فأصبحت جحافل التعصب التي تمنع انتشار الإسلام فلولاً وبقايا (ظلت موجودة في مراكز السياسة وصنع القرار هناك لتجد من أحداث 11 سبتمبر ذريعة لمحاربة الإسلام، ثم إن هناك جامعات إسلامية في هذه الدول، تهتم بتدريس الأديان بموضوعية، وبخاصة في الدول الاسكندينافية؛ لأنها تنبهت لما يشكله الدين من قوة إيجابية، ولذلك تحاول قوى التعصب فيها محاربة الإسلام بشراسة وجرأة).
ومما هو جدير بالذكر أن الجريمة لم تقف عند حد نشر الكاريكاتير الوقح في صحيفة (بولاندز بوستن) الدنمركية، بل إن هناك صحفاً أخرى أوروبية نشرت الكاريكاتير تضامناً مع الصحيفة الدانمركية الوقحة، ومنها صحف ألمانية وفرنسية على سبيل المثال، والكفر ملة واحدة..
والعجيب: أن الغرب الصليبي يمارس أبشع صور التعصب العفن، ويتهم الإسلام بالتعصّب، ليعدّ الهجوم على الإسلام سماحة والدفاع عن العدوان تعصباً، وينطبق على الغرب مقولة: "رمتني بدائها وانسلّت"!
المصدر: الإسلام اليوم
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم