اقتباس
وإن كانت دودة القز تُنتِج حريرًا ناعمًا، والنحلة تُخرِج عسلًا شهيًا، والمغزل ينتج خيطًا وقماشًا، ومصنع الملابس يصنع ملابس، فإن معترك التربية يُنتِج بَشَرًا؛ نعم ينتج إنسانًا مميزًا مكرَّمًا.. لذلك كانت التربية في غاية الأهمية، وهي أول وأولى ما يطالَب به الأبوان والمعلمون والمربون...
جميع البشر يولدون طاهرين مطهَّرين على فطرة النقاء والصفاء والبراءة، وعاء فارغ ليس فيه شيء فهو على استعداد لأنْ يُملأ بخير أو بشَر... قطعة من طين ساذج تنتظر من يشكِّلها على أي شكل؛ جميلًا كان أم قبيحًا... فمِن سعْد الطفل المولود أن يجد من يملأ قلبه وعقله بالإيمان والخير، ومن تعاسته وشقائه أن يتلقفه من يملأ قلبه وعقله بالجحود والشر.
وهذا هو ما عناه نبينا -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه"(متفق عليه)، وصنيعهما ذلك يسمى: "تربية"، فهي لذلك في غاية الأهمية؛ إذ أن من نتائجها جنة أو نار، ومن آثارها إسلام أو كفر، ومن ثمراتها إنسان صالح يعمَّر ويُصلح ويدعو إلى الفضائل، أو كائن طالح يعيث في الأرض إضلالًا وإفسادًا وجهلًا وتخريبًا!
وإن كانت دودة القز تُنتِج حريرًا ناعمًا، والنحلة تُخرِج عسلًا شهيًا، والمغزل ينتج خيطًا وقماشًا، ومصنع الملابس يصنع ملابس، فإن معترك التربية يُنتِج بَشَرًا؛ نعم ينتج إنسانًا مميزًا مكرَّمًا.. لذلك كانت التربية في غاية الأهمية، وهي أول وأولى ما يطالَب به الأبوان والمعلمون والمربون.
***
لكن فرقًا كبيرًا شاسعًا بين تربية دودة القز وتربية النحل وغيرهما من الحشرات والطيور والحيوانات وبين تربية البشر؛ فإن الحيوانات لا تحتاج في تربيتها إلا إلى الطعام والشراب والدواء فقط، وهي حاجات بناء الجسد وتكوينه، لكن تربية البشر ليست تربية أجساد وأبدان فقط؛ بل هي أيضًا تربية أرواح ونفوس ومشاعر وأحاسيس وأخلاق وسلوك، تربية البشر هي أيضًا تعليم وتوجيه وتثقيف، وتعريف بالخالق -عز وجل- وبالرسل والملائكة واليوم الآخر، فهي وقاية من النار ودلالة على الجنة...
لذلك تجد ديننا يلزمنا بحسن التربية والتعليم والتأديب مرارًا وتكرارًا، فنسمع القرآن الكريم يقول: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132]، ويقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التحريم: 6]، يقول ابن كثير مفسرًا: "أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملًا فتأكلهم النار يوم القيامة"(تفسير ابن كثير)، ثم نَقل ابن كثير عن ابن عباس أنه قال: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أي: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار."
ونَقل أيضًا عن قتادة أنه قال: "يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله، ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية، قدعتهم عنها [كففتهم عنها] وزجرتهم عنها"(تفسير ابن كثير).
والتربية الصحيحة للطفل تبدأ قبل وجود ذلك الطفل؛ بحسن اختيار أمه وأبيه، ثم بإعطاء المولود حقوقه وحسن تنشئته وتقويمه وتأديبه وتعليمه ومراعاة أحواله... فهي تربية بدنية وتربية إيمانية وتربية أخلاقية وتربية عقلية وفكرية ونفسية وعاطفية وروحية وتربية اجتماعية وتربية جنسية...
***
فيا أيها الساعون إلى عودة مجد الأمة وسؤددها وريادتها وصدارتها نناديكم بأعلى صوت:
إن الطريق يبدأ من هنا؛ طريق عزة الأمة وريادتها وصدارتها على سائر الأمة يبدأ من تربية أطفال الأمة وشبابها على صحيح الدين؛ على عقيدة السلف الصالح: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة...
وصناعة الأبطال علم ** قد دراه أولو الصلاح
من لم يلقن أصله *** من أهله فقد النجاح
لا يصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
من خان "حي على الصلاة" *** يخون "حي على الفلاح"
لا يستوي في منطق *** الإيمان سكران وصاح
من همه التقوى وآخر *** همه كأس وراح
شعب بغير عقيدة *** ورق تذريه الرياح
أما من يُدخلون أولادهم المدارس الأجنبية؛ فإنهم يهتمون بدنياهم وينسون دينهم، يتعلمون اللغات الأجنبية ويهملون لغة القرآن ... فهؤلاء يجنون على أولادهم ثم على أنفسهم وأمتهم.
وأما من يدَّعون تربية أولادهم، وهم عنهم مشغولون، فإنهم في ادعائهم كاذبون؛ لأنهم في الواقع لا يربون، إلا كما تربي البهيمة عجلها؛ تطعمه وتسقيه ولا شيء إلا ذلك، فكأنه لا أب له ولا أم، وصدق من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هَمِّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم لمن تلقى له أمًا *** تخلت أو أبًا مشغولا
ومن يعلمون أولادهم الباليه والرقص والموسيقى ويَدْعونها تحضرًا ومدنية، فهؤلاء قد ضلوا السبيل؛ أعرضوا عن طريق ربهم وجعلوا القرآن والسنة خلف ظهورهم، وسلكوا سبل الغواية والعماية!
وأسوء من هؤلاء من يُلحقون أولادهم بالمدارس التبشيرية، فيسلمونهم بأيدهم إلى من يشككهم في دينهم ويُفسد عليهم دنياهم وآخرتهم.
***
ولابد أن نعي وندرك و"ننتبه إلى أن الأخلاق السيئة في الغالب توافق شهوات النفس وهواها، لذلك يتخلق بها الطفل بأدنى مؤثر وبأضعف سبب، أما الأخلاق الحسنة فهي تهذيب للنفس وكفها عن شهواتها التي تفسدها وتفوّت عليها مصالحها؛ فالأخلاق الحسنة هي السير في الطريق المعاكس لهوى النفس، فهي عملية بناء تحتاج إلى جهد واجتهاد.
والتربية الصحيحة هي أن نثبِّت الأخلاق الحسنة في نفس الطفل تثبيتًا قويًا يُمكِّنها من مغالبة الشهوات الفاسدة، ويجعل النفس لا تشعر براحتها إلا مع الأشياء التي تُصلحها، وتمقت كل ما يعارض هذه الأخلاق الحسنة"(من موقع الإسلام سؤال وجواب بتصرف قليل).
وبعد أن نبذل الوسع ونستفرغ الطاقة في إصلاح أولادنا وتربيتهم فلا بد أن نعلم ونعترف ونقر ونؤمن ونعتقد أن الله - عز وجل- هو الذي يربي، وهو الذي يهدي وحده لا شريك له؛ فإن القلوب بين يديه: "ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وصدق الله -سبحانه-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[القصص: 56]، وانظر إلى نبي الله نوح -عليه السلام- كيف حاول مع ولده جاهدًا، فما استطاع أن يهديه، وهو ما قصَّر في تربيته وتأديبه!
وموضوع التربية موضوع متعدد الجوانب كثير المنطلقات؛ فكلٌ يربي ولده على ما يريد؛ يُمسِّكه بالإيمان أو يدله على طرق الخسران... والأولاد في النهاية في صحيفة من رباهم وفي ميزانهم، فإما أن يكونوا في كفة حسناتهم وإما أن يكونوا في كفة سيئاتهم.
ونتناول في ملفنا هذا كثيرًا من جوانب التربية، بدءًا من مفهومها وأنواعها وأقسامها ومجالاتها... مرورًا بمناهجها وطرائقها... تعريجًا على التربية الإسلامية ووسائلها... مع عرض نماذج للمربين النبهاء ونتائج مناهج التربية المختلفة... وانتهاء بالتنويه على بعض عوائق التربية وعدد من أخطاء المربين... والله الموفِق والمستعان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم