أساليب تربوية (3) التربية بالأحداث

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-07 - 1443/06/04 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أهمية التربية بالأحداث وخصائصها 2/التربية بالأحداث في القرآن الكريم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم 3/ثمار التربية بالأحداث وآثارها على الأبناء 4/رسائل للآباء والمربين متعلقة بالتربية بالأحداث.

اقتباس

التَّرْبِيَةُ بِالْأَحْدَاثِ لَهَا ثِمَارٌ طَيِّبَةٌ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ، فَإِلَى جَانِبِ أَنَّهَا تُعْطِيهِمْ صُوَرًا مُكْتَمِلَةً عَنِ الْخُلُقِ أَوِ السُّلُوكِ الْمُرَادِ بَيَانُهُ فَهِيَ كَذَلِكَ تُقَرِّبُ الْمَفَاهِيمَ، وَتَبْنِي حِوَارًا بَيْنَ الْمُرَبِّي وَالْمُتَرَبِّي، وَبَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، تُثْمِرُ الشَّخْصِيَّةَ الْمُتَّزِنَةَ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: الْحَيَاةُ لَا تَكَادُ تَخْلُو مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ الْيَوْمِيَّةِ، بَلْ وَحَتَّى عَلَى مَدَارِ السَّاعَةِ، فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَقَدَرُهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَالْمُسْلِمُ الرَّشِيدُ هُوَ مَنْ يَغْتَنِمُ هَذِهِ الْأَحْدَاثَ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهَا لِتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَرْبِيَةِ أَهْلِهِ وَأَبْنَائِهِ وَطُلَّابِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ، ذَلِكَ أَنَّ أُسْلُوبَ التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ مِنْ أَعْظَمِ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ أَثَرًا وَأَكْثَرِهَا وَقْعًا فِي النُّفُوسِ؛ لِمَا لِهَذَا الْأُسْلُوبِ مِنْ خَصَائِصَ تُحَوِّلُ الْمَفَاهِيمَ إِلَى حَرَكَةٍ وَرُؤْيَةٍ وَسُلُوكٍ.

 

وَكَذَلِكَ أَنَّهَا تَرْبُطُ النَّفْسَ بِالْعَمَلِ لَا بِالنَّتِيجَةِ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ أُسْلُوبَ التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ يُثْمِرُ اسْتِخْلَاصَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ؛ وَمِنْ ثَمَّ يُقَلِّلُ مِنَ الْجُهْدِ الَّذِي يُبْذَلُ فِي الْعَمَلِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ وَيُؤْتِي ثِمَارَهُ الْيَانِعَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبْنَاءَنَا فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِثْمَارِ هَذَا الْأُسْلُوبِ التَّرْبَوِيِّ فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّتِهِمْ وَصَقْلِ مَعَارِفِهِمْ وَتَوْجِيهِ سُلُوكِيَّاتِهِمْ وَضَبْطِ تَصَرُّفَاتِهِمْ.

 

إِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَسْتَفِيدُ مِنَ الْأَحْدَاثِ فِي تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ وَتَرْبِيَةِ غَيْرِهِ، لَا يَعِي تَجَارِبَهُ الْخَاصَّةَ، وَلَا يَتَعَلَّمُ مِنْهَا كَيْفَ يَتَجَنَّبُ الْمَزَالِقَ، وَيَتَّقِي الْخُصُومَ، إِنَّهُ إِنْسَانٌ مُقَيَّدُ النَّظَرِ، ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي ذَهَبَ مِنْ عُمْرِهَا هَذِهِ الْقُرُونُ، وَخَرَجَتْ بِثَرْوَةٍ طَائِلَةٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْجِسَامِ، يَجِبُ أَنْ تَضَعَ أَمَامَ عَيْنَيْهَا الدُّرُوسَ الَّتِي تَلَقَّتْهَا خِلَالَ هَذِهِ الْآمَادِ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِي ذَاتِ الْحُفَرِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا مِنْ قَبْلُ، أَوْ تُلْدَغَ مِنَ الْجُحْرِ الْقَدِيمِ نَفْسِهِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ لِيُرَبِّيَ أُمَّةً، وَيُنْشِئَ مُجْتَمَعًا، وَيُقِيمَ نِظَامًا، وَالتَّرْبِيَةُ تَحْتَاجُ إِلَى زَمَنٍ حَتَّى تُؤَثِّرَ فِي الْمُتَرَبِّي، وَإِلَى حَرَكَةٍ تُتَرْجِمُ التَّأَثُّرَ وَالِانْفِعَالَ إِلَى وَاقِعٍ، وَالنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ تَحْتَاجُ إِلَى أَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالَّتِي اسْتَخْدَمَ الْقُرْآنُ الْكَثِيرَ مِنْهَا وَجَعَلَهَا مَنْهَجًا لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَكَانَ لِأُسْلُوبِ التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ نَصِيبٌ كَبِيرٌ فِي هَذِهِ التَّرْبِيَةِ، بَلْ كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ حَسْبَ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْدَاثِ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَثَّرَ فِي تَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 106].

 

قَالَ السَّعْدِيُّ: -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "(عَلَى مُكْثٍ)؛ عَلَى مَهْلٍ، لِيَتَدَبَّرُوهُ وَيَتَفَكَّرُوا فِي مَعَانِيهِ وَيَسْتَخْرِجُوا عُلُومَهُ، (وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)؛ شَيْئًا فَشَيْئًا مُفَرَّقًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً".

 

وَكَانَتْ تَرْبِيَةُ الْقُرْآنِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْأَحْدَاثِ مَنْهَجًا بَدَأَ مَعَ بِدَايَةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ لِهَذَا الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)[الرُّومِ: 1-4]، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَكَّةَ وَالْمُسْلِمُونَ يَتَعَرَّضُونَ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالِاضْطِهَادِ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ قُدْرَةَ اللَّهِ وَسِعَةَ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لَهُ -سُبْحَانَهُ- وَأَنَّ النَّصْرَ حَلِيفُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.

 

وَمَنْ يَنْظُرْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَيَتَدَبَّرْ آيَاتِهِ يَتَّضِحْ لَهُ أُسْلُوبُ التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ جَلِيًّا، فِي كَثِيرٍ مِنْ سُوَرِهِ، وَلَعَلَّ مَا حَدَثَ يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ وَأَثْنَاءَهَا وَبَعْدَهَا لَدَلِيلٌ وَاضِحٌ وَبَيِّنٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)[الْأَنْفَالِ: 7-8].

 

وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عِنْدَمَا دَخَلَ الْغُرُورُ وَالْعُجْبُ فِي نُفُوسِ ضِعَافِ الْإِيمَانِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ النَّصْرَ حَلِيفُهُمْ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ؛ فَجَاءَ الْقُرْآنُ وَالْحَدَثُ أَمَامَ أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ لِيُرَبِّيَهُمْ وَيُصَحِّحَ تَصَوُّرَاتِهِمْ أَنَّ النَّصْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)[التَّوْبَةِ: 25].

 

وَهَكَذَا كَانَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَسَبَ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ كَالطَّلَاقِ، وَالزَّوَاجِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْإِرْثِ، وَالْهِبَةِ، وَعَلَاقَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ بَعْضِهِمْ وَمَعَ غَيْرِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَضَايَا الْحَيَاةِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَهَكَذَا اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْلُوبَ التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ مَنْهَجًا نَبَوِيًّا سَارَ عَلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ جَوَانِبِ التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّةِ مَعَ أَصْحَابِهِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحَلَّبَ ثَدْيَاهَا تَسْعَى، إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا لَهَا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا".

 

وَانْظُرُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- كَيْفَ اغْتَنَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْمَوْقِفَ وَهَذَا الْحَدَثَ لِيُبَيِّنَ رَحْمَةَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فَتَقْوَى صِلَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ، وَيَنْشُرَ الْأَمَلَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي نُفُوسِهِمْ.

 

وَيَوْمَ أَنْ وَقَعَتْ حَادِثَةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً لِيَقُولَ الْقَائِلُونَ: إِنَّهَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ سَائِدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ انْكِسَافَ الشَّمْسِ أَوِ الْقَمَرِ يَقَعُ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ، فَانْتَهَزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ لِيُصَحِّحَ الْمَفَاهِيمَ، وَيُعَالِجَ الْخُرَافَةَ، وَيُقَرِّرَ الْحَقِيقَةَ الْعِلْمِيَّةَ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتِهِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَعِنْدَمَا جَاءَ ذَلِكَ الشَّابُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَأْذِنُهُ فِي الزِّنَى، وَكَادَ الصَّحَابَةُ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُ قَرَّبَهُ مِنْهُ وَطَرَحَ عَلَيْهِ أَسْئِلَةً تَهْدِمُ بِالْحِوَارِ الْفَعَّالِ رَغْبَتَهُ الْآثِمَةَ وَشَهْوَتَهُ الْعَارِمَةَ، فَقَالَ: "أَتَرْضَاهُ لِأُمِّكَ؟" قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَرْضَوْنَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ" أَتَرْضَاهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ... وَمَا زَالَ بِهِ يَذْكُرُ أَقَارِبَهُ مِنْ عَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَدَعَا لَهُ بِالْهِدَايَةِ، فَخَرَجَ الشَّابُّ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ أَحَبُّ إِلَى قَلْبِي مِنَ الزِّنَى، وَالْآنَ لَا شَيْءَ أَبْغَضُ إِلَى قَلْبِي مِنَ الزِّنَى.

 

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي؛ لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".

 

وَالْمُسْتَقْرِئُ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالسِّيرَةِ الْعَطِرَةِ يَجِدُ أَنَّهَا تَفِيضُ بِالْكَثِيرِ مِنَ الْمَوَاقِفِ وَالْأَحْدَاثِ الَّتِي كَانَ يَجْعَلُ مِنْهَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَرْسًا بَلِيغًا، وَمَوْعِظَةً مُؤَثِّرَةً سَاهَمَتْ كَثِيرًا فِي تَقْوِيمِ السُّلُوكِ وَتَوْجِيهِ الِانْفِعَالَاتِ وَغَرْسِ الْقِيَمِ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: التَّرْبِيَةُ بِالْأَحْدَاثِ لَهَا ثِمَارٌ طَيِّبَةٌ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ، فَإِلَى جَانِبِ أَنَّهَا تُعْطِيهِمْ صُوَرًا مُكْتَمِلَةً عَنِ الْخُلُقِ أَوِ السُّلُوكِ الْمُرَادِ بَيَانُهُ فَهِيَ كَذَلِكَ تُقَرِّبُ الْمَفَاهِيمَ، وَتَبْنِي حِوَارًا بَيْنَ الْمُرَبِّي وَالْمُتَرَبِّي، وَبَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، تُثْمِرُ الشَّخْصِيَّةَ الْمُتَّزِنَةَ.

 

وَالتَّرْبِيَةُ بِالْأَحْدَاثِ تُشْرِكُ جَمِيعَ جَوَارِحِ الْإِنْسَانِ وَعَوَاطِفَهُ وَانْفِعَالَاتِهِ؛ فَيَكُونُ التَّأْثِيرُ أَنْفَعَ لِلنَّفْسِ وَيَكُونُ الِانْتِبَاهُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِهِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

مِنَ الْجَوَانِحِ فِي الْأَعْمَاقِ سُكْنَاهَا *** وَكَيْفَ تُنْسَى؟ وَمَنْ فِي النَّاسِ يَنْسَاهَا

فَالْأُذْنُ صَاغِيَةٌ، وَالْعَيْنُ دَامِعَةٌ *** وَالرُّوحُ خَاشِعَةٌ، وَالْقَلْبُ يَهْوَاهَا

 

وَمِنْ ثِمَارِ التَّرْبِيَةِ بِالْأَحْدَاثِ عَدَمُ تَسَرُّبِ الْمَلَلِ إِلَى النُّفُوسِ مِنَ النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ بِسَبَبِ تَجَدُّدِ الْأَحْدَاثِ وَتَنَوُّعِهَا، فَكَيْفَ إِذَا مَا أُحْسِنَ اسْتِغْلَالُهَا فِي وَقْتِهَا الْمُنَاسِبِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى". فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحِرْصَ الشَّدِيدَ عَلَى الْمَالِ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، اسْتَغَلَّ هَذَا الْحَدَثَ بِإِعْطَائِهِ نَصِيحَةً يُرَبِّيهِ فِيهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ النَّصِيحَةُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ غَايَةَ التَّأْثِيرِ.

 

أَيُّهَا الْآبَاءُ/ أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: أَحْدَاثُ الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، وَمَوَاقِفُهَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَمَسْؤُولِيَّاتُنَا فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَظِيمَةٌ، وَاسْتِغْلَالُ كُلِّ أُسْلُوبٍ وَطَرِيقٍ نَافِعٍ فِي وَقْتِهِ وَمُنَاسَبَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَهُنَاكَ الْأَحْدَاثُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الدِّينِيَّةُ وَالْوَطَنِيَّةُ، وَهُنَاكَ أَحْدَاثٌ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ وَالشَّارِعِ وَالْحَدِيقَةِ وَمَعَ الْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَفِي الْوَظِيفَةِ، فَاسْتَغَلُّوهَا فِي تَوْجِيهِ السُّلُوكِ وَغَرْسِ الْقِيَمِ، وَوَجِّهُوا أَبْنَاءَكُمْ إِلَى فَضَائِلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَعَلِّمُوهُمْ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُسْلِمِينَ، اغْرِسُوا فِي نُفُوسِهِمْ عُلُوَّ الْهِمَمِ، وَالتَّنَافُسَ عَلَى الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، زَكُّوهُمْ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ وَتَقْدِيمِ النَّفْعِ لِلْآخَرِينَ وَحَذِّرُوهُمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْبُخْلِ وَالشُّحِّ.

حَرِّضْ بَنِيكَ عَلَى الْآدَابِ فِي الصِّغَرِ *** كَيْمَا تَقَرَّ بِهِمْ عَيْنَاكَ فِي الْكِبَرِ

وَإِنَّمَا مَثَلُ الْآدَابِ تَجْمَعُهَا *** فِي عُنْفُوَانِ الصِّبَا كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ

 

اغْتَنِمُوا الْأَحْدَاثَ فِي تَوْجِيهِهِمْ إِلَى عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَهْدَافٌ عَظِيمَةٌ، وَغَايَاتٌ سَامِيَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِيَكُونُوا نَافِعِينَ لِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

أساليب تربوية (3) التربية بالأحداث.doc

أساليب تربوية (3) التربية بالأحداث.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات