معالم في التربية النبوية (5) الحوار

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-21 - 1443/06/18 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/دور الحوار الإيجابي في التربية. 2/ضوابط استخدام الحوار في التربية. 3/نماذج لاستخدام الحوار في التربية. 4/عواقب الكبت وغياب التحاور.

اقتباس

هَذَا هُوَ الْحِوَارُ؛ أُسْلُوبٌ مُتَمَيِّزٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُوَ يَفْتَحُ لَكُمْ صُدُورَ أَوْلَادِكُمْ وَيُسَاعِدُكُمْ فِي تَقْوِيمِ شَخْصِيَّاتِهِمْ.. فَافْتَحُوا بَابَ الْحِوَارِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تُغْلِقُوهُ فَتُغْلِقُوا مَعَهُ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّفَاهُمِ وَحُسْنِ التَّرْبِيَةِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ لِأَوْلَادِنَا أَحَاسِيسَ وَمَشَاعِرَ، وَفِي عُقُولِهِمْ تَسَاؤُلَاتٌ وَتَشَوُّفَاتٌ، وَقَدْ تَثُورُ لَدَيْهِمْ شُبُهَاتٌ وَغَوَامِضُ، وَقَدْ تَبْدُرُ مِنْهُمْ أَخْطَاءٌ وَزَلَّاتٌ... وَنَحْنُ فِي حَاجَةٍ أَنْ نُدْرِكَهَا لِنُصْلِحَهَا وَنُجِيبَ عَنْهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ طَرِيقٌ لِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ لِمَعْرِفَةِ مَا يَدُورُ فِي عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ ثُمَّ التَّعَامُلُ مَعَهُمْ عَلَى أَسَاسِ ذَلِكَ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِتَحَاوُرِنَا مَعَ أَوْلَادِنَا دَوْرًا مُهِمًّا فِي حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ وَتَقْوِيمِ سُلُوكِهِمْ وَانْتِفَاعِ الْمُجْتَمَعِ بِهِمْ، فَمِنْ إِيجَابِيَّاتِ التَّحَاوُرِ: خَلْقُ بِيئَةِ تَفَاهُمٍ يُعَبِّرُ فِيهَا الْوَلَدُ عَمَّا يُرِيدُ، وَبِذَلِكَ تَقْوَى شَخْصِيَّتُهُ وَتُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَكُونَ قَائِدًا مُوَفَّقًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِهِ، وَانْظُرْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ كَانَ يُحَاوِرُ أَصْحَابَهُ وَيُجِيبُ عَنْ تَسَاؤُلَاتِهِمْ، فَهَا هِيَ التَّسَاؤُلَاتُ تَثُورُ فِي صَدْرِ عُمَرَ لَمَّا رَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا جَنْدَلٍ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَيَقُولُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟!، قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ، قَالَ: "بَلَى"، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي"، قَالَ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَمِنْهَا: حُسْنُ التَّوَاصُلِ بَيْنَ الْأَجْيَالِ: فَبِدُونِ الْحِوَارِ تَنْقَطِعُ الْعَلَائِقُ وَيَنْفَصِمُ التَّوَاصُلُ بَيْنَهُمْ، وَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصًا عَلَى مُحَاوَرَةِ النَّاشِئَةِ لِيَدُلَّهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ، فَهَا هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ عَلَى تِلْكَ "الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ"، -كَمَا عَبَّرَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ عَنْ نَفْسِهَا-، "فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟" قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟"، قَالَتْ: فَرَسٌ، قَالَ: "وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟"، قَالَتْ: جَنَاحَانِ، قَالَ: "فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟"، قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، فَلَقَدْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْلَمُ أَنَّهَا لُعَبٌ لِعَائِشَةَ، لَكِنَّهُ أَرَادَ مُحَاوَرَتَهَا لِمَدِّ حِبَالِ التَّوَاصُلِ مَعَهَا رَغْمَ صِغَرِ سِنِّهَا.

 

وَمِنْهَا: سُهُولَةُ إِصْلَاحِ الزَّلَّاتِ: فَإِنَّ الْأَخْطَاءَ تَتَفَاقَمُ عِنْدَ أَصْحَابِهَا إِذَا مَا قَلَاهُمُ الْمُصْلِحُونَ وَالْمُرَبُّونَ وَهَجَرُوهُمْ، لَكِنَّهَا تَتَلَاشَى وَتُتَدَارَكُ إِذَا مَا اقْتَحَمَهَا أَهْلُ التَّحَاوُرِ، فَهَا هُوَ حَاطِبٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُخْطِئُ خَطَأً جَسِيمًا، فَيَسْأَلُهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ" قَالَ: مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي.. قَالَ: "صَدَقَ، فَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَلَوْ تُرِكَ حَاطِبٌ وَقُوطِعَ وَصُبَّتْ عَلَيْهِ بِحَارُ اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ فَلَرُبَّمَا كَانَ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ!

 

وَمِنْهَا: الْوُصُولُ إِلَى أَفْضَلِ الْحُلُولِ لِلْمُشْكِلَاتِ: فَعَقْلُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ يَنْتَبِهُ الصَّغِيرُ إِلَى مَا لَا يَنْتَبِهُ لَهُ الْكَبِيرُ، فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ تُعْرَضُ عَلَى الْأَبِ فَيَفْهَمُهَا الِابْنُ: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 78-79].

 

وَمِنْهَا: بَيَانُ الْأَمْرِ وَاتِّضَاحُهُ: فَإِنَّ غَالِبَ غَوَامِضِ الْأُمُورِ لَا يُوَضِّحُهَا شَيْءٌ كَالْمُحَاوَرَةِ، فَهَا هُوَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "وَمُبَاضَعَتُكَ أَهْلَكَ صَدَقَةٌ"، فَيَسْأَلُهُ الصَّحَابَةُ: أَيَقْضِي الرَّجُلُ شَهْوَتَهُ وَتَكُونُ لَهُ صَدَقَةٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟"، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّهُ إِذَا جَعَلَهَا فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فَهِيَ صَدَقَةٌ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ).

 

وَمِنْهَا: إِزَالَةُ اللَّبْسِ: فَلَمَّا جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "مَا أَلْوَانُهَا" قَالَ: حُمُرٌ، قَالَ: "هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ" قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَالَ: "فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِاسْتِخْدَامِ الْحِوَارِ فِي التَّرْبِيَةِ ضَوَابِطَ لَابُدَّ مِنَ الْتِزَامِهَا لِكَيْ تُؤْتِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَوَائِدَ، وَمِنْهَا:

أَنْ يَكُونَ الْحِوَارُ بِأَلْطَفِ الْكَلِمَاتِ وَأَرَقِّ الْعِبَارَاتِ: فَهِيَ قَاعِدَةٌ قُرْآنِيَّةٌ تَقُولُ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[الْبَقَرَةِ: 83]، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الْعَنْكَبُوتِ: 46]، وَقَالَ عَنْ فِرْعَوْنَ: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)[طه: 44]، فَإِنَّ فِلْذَاتِ أَكْبَادِنَا أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَحَقُّ.

 

وَمِنْهَا: حُسْنُ الْإِنْصَاتِ لِلْوَلَدِ: فَمَهْمَا كُنْتَ أَكْثَرَ مِنْهُ دِرَايَةً وَخِبْرَةً، فَإِنَّكَ فِي حَاجَةٍ أَنْ تَتَعَرَّفَ عَلَى مَا يَدُورُ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَمَا يَفْتَعِلُ فِي وِجْدَانِهِ، وَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ مُحَاوَرَتِهِ وَالْإِنْصَاتِ لَهُ، وَهَذَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُنِي بِالْحَدِيثِ قَدْ سَمِعْتُهُ أَنَا قَبْلَ أَنْ تَلِدَهُ أُمُّهُ فَيَحْمِلُنِي حُسْنُ الْأَدَبِ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْهُ".

 

وَيَقُولُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: "إِنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّجُلِ أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، فَأُرِيهِ مِنْ نَفْسِي كَأَنِّي لَا أُحْسِنُ مِنْهُ شَيْئًا".

وَتَرَاهُ يُصْغِي لِلْحَدِيثِ بِسَمْعِهِ *** وَبِقَلْبِهِ، وَلَعَلَّهُ أَدْرَى بِهِ

 

وَمِنْهَا: تَعْلِيمُ الْوَلَدِ التَّأَدُّبَ فِي حِوَارِ وَالِدَيْهِ: فَلَا يَحِقُّ وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُقَارِعَ الْوَلَدُ وَالِدَيْهِ الْكَلِمَةَ بِالْكَلِمَةِ مُقَارَعَةَ النِّدِّ لِلنِّدِّ، بَلْ هُنَاكَ حُدُودٌ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ التَّوَقُّفُ عِنْدَهَا؛ مُرَاعَاةً لِمَكَانِ وَالِدَيْهِ، فَقَدْ رَأَى أَبُو هُرَيْرَةَ فَتًى مَعَهُ أَبُوهُ، فَسَأَلَ الْفَتَى: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أَبِي، قَالَ: "فَلَا تَمْشِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ، وَلَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْعُقُوقِ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنْهَا: قَبُولُ نَتِيجَةِ الْحِوَارِ: فَهَبْ أَنَّ رَجُلًا تَحَاوَرَ مَعَ وَلَدِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْوَلَدِ، فَلَيْسَ لِلْوَالِدِ أَنْ يُعْرِضَ أَوْ يُعَانِدَ، بَلْ لِيَتَوَاضَعْ لِلْحَقِّ وَيَقْبَلْهُ، قُدْوَتُهُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُ غِلْمَانَ الْأَنْصَارِ فِي كُلِّ عَامٍ فَيَلْحَقُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، فَعُرِضْتُ عَامًا، فَأَلْحَقَ غُلَامًا، وَرَدَّنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَلْحَقْتَهُ وَرَدَدْتَنِي وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ! قَالَ: "فَصَارِعْهُ"، فَصَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ، فَأَلْحَقَنِي"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ التُّرَاثَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ غَنِيٌّ بِالنَّمَاذِجِ الْحَيَّةِ لِاسْتِخْدَامِ الْحِوَارِ فِي التَّرْبِيَةِ، فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى قَصَّرَ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ، فَحَاوَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى هَدَاهُ إِلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ، فَقَدْ سَأَلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَيْفَ تَصُومُ؟ " قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: "وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟"، قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: "صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ"، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ"، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا" قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ؛ صَوْمَ دَاوُدَ، صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَيَأْتِيهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَابُّ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌ائْذَنْ ‌لِي ‌بِالزِّنَا. ‌فَأَقْبَلَ ‌الْقَوْمُ ‌عَلَيْهِ ‌فَزَجَرُوهُ، ‌وَقَالُوا: ‌مَهْ ‌مَهْ. فَقَالَ: "ادْنُهْ". فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا فَقَالَ: اجْلِسْ". فَجَلَسَ، قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟" قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ"؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ"، قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ"؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ"، قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ"؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ" قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ"؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ" قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ" قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: يَسْتَنْكِفُ بَعْضُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يُحَاوِرَهُمْ أَوْلَادُهُمْ، لَكِنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ -سُبْحَانَهُ- قَدْ أَذِنَ لِعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ أَنْ يُحَاوِرُوهُ؛ فَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ الْأَطْهَارُ يُرَاجِعُونَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَائِلِينَ: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)[الْبَقَرَةِ: 30]، بَلْ هَذَا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يُجَادِلُ رَبَّهُ؛ (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)[هُودٍ: 74]، فَيُثْنِي رَبُّهُ عَلَيْهِ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)[هُودٍ: 75].

 

بَلْ وَيُحَاوِرُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِبْلِيسَ حِوَارًا نَقَلَهُ إِلَيْنَا الْقُرْآنَ: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ...)[ص: 75-82].

 

وَتَرْكُ التَّحَاوُرِ يُفْضِي إِلَى انْفِصَالِ الْوَلَدِ وِجْدَانِيًّا عَنْ وَالِدَيْهِ: فَإِنَّ عَدَمَ التَّحَاوُرِ مَعَ الْأَوْلَادِ جَفَاءٌ وَغِلْظَةٌ، وَلَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].

 

وَمِنْهَا: ضُمُورُ الرَّحْمَةِ فِي الْقُلُوبِ: فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَطَعُوا الْعَلَائِقَ مَعَ أَوْلَادِهِمْ فَهُمْ لَا يُحَاوِرُونَهُمْ وَلَا يُدَاعِبُونَهُمْ وَلَا يُقَبِّلُونَهُمْ، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَمْلِكُ أَنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ؟"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ).

 

وَإِذَا قَلَّتْ رَحْمَةُ الْوَالِدَيْنِ بِأَوْلَادِهِمْ وَهِيَ فِطْرِيَّةٌ جِبِلِّيَّةٌ، فَمِنَ الْأَحْرَى أَنْ تَتَلَاشَى رَحْمَةُ الْأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ.

 

فَيَا أَيُّهَا الْآبَاءُ: هَذَا هُوَ الْحِوَارُ؛ أُسْلُوبٌ مُتَمَيِّزٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُوَ يَفْتَحُ لَكُمْ صُدُورَ أَوْلَادِكُمْ وَيُسَاعِدُكُمْ فِي تَقْوِيمِ شَخْصِيَّاتِهِمْ.. فَافْتَحُوا بَابَ الْحِوَارِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تُغْلِقُوهُ فَتُغْلِقُوا مَعَهُ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّفَاهُمِ وَحُسْنِ التَّرْبِيَةِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

معالم في التربية النبوية (5) الحوار.doc

معالم في التربية النبوية (5) الحوار.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات