التربية

محمد بن إبراهيم الشعلان

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ سعي المسلم لإقامة أسرة صالحة 2/ أسباب يأس المربين من إحسان تربية الناشئين 3/ كيفية معالجة ذلك اليأس 4/ أمثلة من الواقع باعثةٌ للتفاؤل 5/ تحذير المربين من اليأس

اقتباس

ولستُ بصدد الكلام على ذات التربية وطرقها وأساليبها وثمراتها وفوائدها، فلهذا مجال آخر وخطبة أخرى -إن شاء الله تعالى-، إنما الذي يعنيني في هذه الخطبة -وهو أمر يتعلق بالتربية- اليأس الذي خيم بظلاله على بعض المربين من آباء وأمهات ودعاة ومعلمين.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- فتقواه أمان لكم من عذابه، قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي أصحابه بتقوى الله في السر والعلن، في الحضر وفي السفر، في الجهاد والسلم.

 

يا عبد الله: 

لا تخدعنْكَ مُنى الحياة فإنها *** تلهي وتنسي والمنى تضليلُ

 وتأهَّبَنْ للمــوت قبـل نزولـه *** فالموت حتــمٌ والبقـاء قليــلُ

 

عباد الله: الأسرة الصالحة المستقيمة على أمر الله وأمر رسوله -عليه الصلاة والسلام- مُنى كل مسلم وغايته، ولسان حال كل مسلم ومسلمة، يقول الله -تعالى- على لسان عباد الرحمن: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].

 

ولا يتأتي هذا المنى ولا تحصل هذه الغاية إلا بالعمل الجاد، والسعي الدؤوب، والبذل المتواصل، وعمل الأسباب المشروعة، وطرْق باب المشورة، والاستفادة من تجارب العقلاء وحنكتهم وحكمتهم، ثم الإلحاح في دعاء رب الأرض والسموات أن يصلح الأسرة ويهديها إلى طريق السعادة والفوز والفلاح، ثم التوكل على الله، وتفويض الأمور إليه، وترك النتائج إليه، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وهو الذي يهدي من يشاء فضلاً، ويضل من يشاء عدلاً، فله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

 

ولستُ بصدد الكلام على ذات التربية وطرقها وأساليبها وثمراتها وفوائدها، فلهذا مجال آخر وخطبة أخرى -إن شاء الله تعالى-، إنما الذي يعنيني في هذه الخطبة -وهو أمر يتعلق بالتربية- اليأس الذي خيم بظلاله على بعض المربين من آباء وأمهات ودعاة ومعلمين.

 

إن ذلك اليأس أقعدهم عن القيام بواجب التربية، وأحجمهم عن النزول في ميدان التربية والتوجيه ومواجهة التحديات والعقبات التي تواجههم في طريق التربية والتوجيه، يأس جعلهم ينظرون إلى فلذاتِ الأكباد وعمادِ المستقبل -بعد الله- ورجالِ الغد وقادتِه وأنيابُ السوء والفساد تقطع أجسادهم، وسهام الردى والرذيلة تخترق قلوبهم، ورماح الشر والحقد تقطع أفئدتهم وتجرح كرامتهم، وتدمي مقلة الحياء فيهم، فلا يستطيعون حمايتهم من ذلك، فقد كبل اليأس تفكيرهم، وعطل مادة العاطفة في قلوبهم.

 

حسبهم وهم ينظرون إليهم دموعٌ تتساقط من عيونهم، وهي في الحقيقة أرواحهم سالت من الشفقة والرحمة بهم، كما قيل:

وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روحي تذوب فتقطر

 

فإذا ما سألت أحدهم عن سبب هذا اليأس لقال لك: إنه الواقع المرير الذي نعيشه في هذا الزمان، فتن ظاهرة، وشهوات متنوعة، وفساد كبير، وذئاب بشرية تتحين الفرص للانقضاض على فريستها لتهلكها، ودعاة سوء لا يكلون ولا يملون، فأنت تربي من هنا و[هم يُفسِدون] من هناك، فالنفس تتعب، والجهد ضائع، والله -عز وجل- قال في كتابه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص:56]، فأتركهم لله -عز وجل- ولا أملك إلا الدعاء.

 

هذا -عباد الله- هو سبب اليأس عندهم، فنقول لهم:

 

أولا: هذا من تلبيس إبليس ووسوسته، حتى يترك الإنسان التربية والتوجيه ويميل إلى الدعة والسكون وترك الحبل على الغارب، فالواجب على المسلم ألا يستسلم لإبليس ووسوسته، بل يدفع وسوسته بالتعوذ بالله منه، والاستعانة بالله عليه، وأن يعلم أن الشيطان عدو مبين للمسلم.

 

ثانيا: ليعلم هؤلاء أن الله -عز وجل- أثبت لعباده هداية الدلالة والإرشاد والتوضيح والبيان، فقال -جل وعلا-: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]، فالمسلم يقوم بالتربية في كل وقت وفي كل زمان على قدر جهده واستطاعته، ويترك النتائج على الله -سبحانه وتعالى-.

 

أنت أيها الزارع، هل تمنعك كثرة الأمراض التي تصيب المزروعات من القيام بالزراعة وبذل الأسباب التي تحمي زرعك من الأمراض؟ لا يمنعك ذلك، بل تقوم بالزراعة ثم تتوكل على الله وتكل أمر البذر إلى الله -سبحانه وتعالى-، فكذلك التربية لأولادك الذين هم أهم بذرك وغرسك.

 

ثالثا: هل عندكم علم أن تربيتكم لأولادكم لن تنفع ولن تجدي مع هذا الواقع الأليم الذي تعيشه المجتمعات؟ ليس عندكم علم بذلك؛ بل إننا نرى أسراً صالحة مستقيمة طائعة خيرة، لم يؤثر عليها هذا الواقع الذي أصابكم باليأس، بل لا نبالغ إن قلنا إن هذه الأسر الصالحة،كان لها دور في صلاح بعض الأسر والأفراد وهدايتهم.

 

والغالب -عباد الله- أن المسلم إذا صدق مع الله في التربية والتوجيه، وأحسن القصد، واجتهد فيهما، فإن الله -عز وجل- يبلغه مراده، ويحقق له مناه، ويجعل له من ضيقه مخرجاً، ومن همه فرجاً: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:2-3]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].

 

وإليكم ثلاثة أمثلة على هذا، في هذا العصر الحديث:

 

المثال الأول: لما تفكك الاتحاد السوفيتي وصار دويلاتٍ مستقلةً وغير مستقلة، قام بعض المسلمين بزيارة لبعض هذه الدويلات، ونقل لنا أنه وجد مسلمين متمسكين بالإسلام على أحسن حال، النساء متحجبات، والرجال عليهم مظاهر الصلاح والاستقامة، فمَن كان يتصور أن تنشأ أسر مسلمة تحت حكم الإلحاد والمحاربة لدين الإسلام؟.

 

المثال الثاني: اجتمع المسلمون من عرب وعجم في مكان معايدة في عيد الأضحى المبارك، في دولة غربية، فكان من بين الحضور أمريكي أسمر معه نساؤه، فلم يكن في الحضور امرأة متحجبة سوى نساء هذا الرجل الأمريكي المسلم.

 

مثال ثالث: رأي بعضهم في إحدى ولايات أمريكا امرأة متحجبة تماماً لم يظهر منها شيء فاعتقد أنها امرأة عربية مسلمة، ففوجئ بأنها امرأة أمريكية مسلمة.

 

مع أن الواقع الذي تعيشه تلك الأسر وهؤلاء النساء أمرّ كثيراً من الواقع الذي يعيشه المسلمون في بلادهم، لكن؛ مع الصدق مع الله والتوكل عليه يحصل الخير والهدى، قال -جل وعلا-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:5-10].

 

ومع هذا نريد أن ننبه على أمر قد يخفي على بعضنا، وهو أن المسلم قد يجتهد في التربية ويبذل الأسباب فيها، فلا يحصل له مراده، ولا يحسن نتاجه، فيقال لهذا: أنت قد فعلت الأسباب، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل، لكنك ستكون مطمئن البال، مرتاح الضمير؛ لأنك قمت بواجبك، وفعلت ما أمرت به، وتعلم أن ذلك ابتلاء من الله، ومع هذا لا تيأس ولا تقنط، تكرر التربية والتوجيه، فلعل الله -عز وجل- أن يبدل سوءك حسناً، ويجعل عاقبتك خيراً.

 

فيا عباد الله: لنحذر اليأس والقنوط، ولنجتهد في التربية والتوجيه ونحسن القصد فيهما، فأمنية أعداء الله أن نتخلى عن تربية أبنائنا، لتتولى وسائل إعلامهم الهابط التربية والتوجيه.

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات