خصائص التربية الإسلامية وفضائلها (3)

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-28 - 1443/06/25 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/خصائص التربية الإسلامية ومزاياها 2/فضائل التربية الإسلامية وثمارها على الفرد والأمة.

اقتباس

وَكُلُّ هَذِهِ الْجَوَانِبِ الَّتِي تَشْمَلُهَا التَّرْبِيَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ جَوَانِبُ مُتَكَامِلَةٌ؛ تَتَضَافَرُ وَلَا تَتَنَافَرُ، وَتَتَآلَفُ وَلَا تَتَخَالَفُ؛ بِحَيْثُ تُكَوِّنُ مَعًا شَخْصِيَّةً سَوِيَّةً غَيْرَ مُشَوَّهَةٍ، كَتِلْكَ الَّتِي تُنْتِجُهَا مَنَاهِجُ التَّرْبِيَةِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: تَتَكَاثَرُ مَنَاهِجُ التَّرْبِيَةِ وَتَتَعَدَّدُ، وَكُلٌّ مِنْهَا يَسْلُكُ وِجْهَةً مُخْتَلِفَةً وَلَهُ غَايَةٌ مُغَايِرَةٌ، وَمَا مِنْ مَنْهَجٍ مِنْهَا إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَآخِذِ وَالْعُيُوبِ، إِلَّا مَنْهَجًا وَاحِدًا لَيْسَ بِهِ مِنْ خَطَأٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا عَوَارٍ؛ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْهَجُ التَّرْبَوِيُّ الْإِسْلَامِيُّ، فَهُوَ الْمَنْهَجُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَخْلُو مِنَ الثُّغُرَاتِ وَالْأَخْطَاءِ وَالنَّقَائِصِ، فَجَلَّ مَنْ أَنْزَلَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَالْمَنْهَجُ التَّرْبَوِيُّ الْإِسْلَامِيُّ لَهُ خَصَائِصُ فَرِيدَةٌ وَمِيزَاتٌ عَدِيدَةٌ تُمَيِّزُهُ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَاهِجِ الْأَرْضِيَّةِ، وَأَبْرَزُ تِلْكَ الْخَصَائِصِ:

أَنَّهُ مَنْهَجٌ رَبَّانِيٌّ سَمَاوِيٌّ؛ مَنْهَجٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ فَوْقِ السَّمَوَاتِ الطِّبَاقِ: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الْوَاقِعَةِ: 80]، فَهُوَ مَنْهَجٌ مَعْصُومٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ مَنْهَجٌ مُلَائِمٌ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، مُلَامِسٌ لِنِقَاطِ ضَعْفِهَا وَقُوَّتِهَا، مُعَالِجٌ لَهَا، وَكَيْفَ لَا؟ وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ وَاضِعُهُ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الْمُلْكِ: 14].

 

وَمَصْدَرُ هَذَا الْمَنْهَجِ الْفَرِيدِ لِلتَّرْبِيَةِ هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الَّذِي نَزَلَ لِيُرَبِّيَ أُمَّةً بِأَكْمَلِهَا، وَيُصْلِحَ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا صِغَارًا وَكِبَارًا، فَيُقِيمَ النُّفُوسَ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيُخَلِّصَهَا مِنْ جَمِيعِ الرَّذَائِلِ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الْإِسْرَاءِ: 9].

 

وَمِنْ خَصَائِصِ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: الشُّمُولِيَّةُ وَالتَّكَامُلُ؛ فَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ جَوَانِبِ الْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ وَالْمُعَامَلَاتِ، كَمَا تَشْمَلُ جَمِيعَ الْجَوَانِبِ الْجَسَدِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، لَا تُغْفِلُ مِنْهَا جَانِبًا، وَقَدْ قَدَّمَ لَنَا الْقُرْآنُ نَمُوذَجًا تَرْبَوِيًّا قَوِيمًا عَلَى لِسَانِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، شَمِلَ جَمِيعَ تِلْكَ الْجَوَانِبِ التَّرْبَوِيَّةِ، فَقَالَ مُؤَدِّبًا وَلَدَهُ: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لُقْمَانَ: 13]، وَهُوَ الْجَانِبُ الْعَقَدِيُّ، ثُمَّ نَمَّى فِيهِ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، تِلْكَ الْمُرَاقَبَةُ الَّتِي تُفِيدُهُ فِي تَعْدِيلِ سُلُوكِهِ قَائِلًا: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لُقْمَانَ: 16]، وَبَعْدَهَا حَثَّهُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْفَرَائِضِ وَالْعِبَادَاتِ فَقَالَ: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)[لُقْمَانَ: 17]، ثُمَّ عَرَّجَ عَلَى الْجَانِبِ السُّلُوكِيِّ الْأَخْلَاقِيِّ قَائِلًا: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لُقْمَانَ: 18-19].

 

وَكُلُّ هَذِهِ الْجَوَانِبِ الَّتِي تَشْمَلُهَا التَّرْبِيَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ جَوَانِبُ مُتَكَامِلَةٌ؛ تَتَضَافَرُ وَلَا تَتَنَافَرُ، وَتَتَآلَفُ وَلَا تَتَخَالَفُ؛ بِحَيْثُ تُكَوِّنُ مَعًا شَخْصِيَّةً سَوِيَّةً غَيْرَ مُشَوَّهَةٍ، كَتِلْكَ الَّتِي تُنْتِجُهَا مَنَاهِجُ التَّرْبِيَةِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ، فَتَجِدُ التَّرْبِيَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تُرَبِّي الرُّوحَ كَمَا تُرَبِّي الْجَسَدَ، وَتَهْتَمُّ بِالْمُعَامَلَاتِ كَمَا تَهْتَمُّ بِالْعِبَادَاتِ، وَتُعْنَى بِالْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ كَمَا تُعْنَى بِالْمَادِّيَّاتِ، وَتُثَمِّنُ الْمَبَادِئَ النَّمُوذَجِيَّةَ الْفَاضِلَةَ، كَمَا تُثَمِّنُ الْأُسُسَ الْوَاقِعِيَّةَ.

 

وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَيْضًا: الْوَسَطِيَّةُ وَالِاعْتِدَالُ؛ فَنِظَامُ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيُّ يَرْفُضُ الْغُلُوَّ وَالْمُبَالَغَةَ فِي جَمِيعِ أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا، فَيَرْفُضُ الْإِفْرَاطَ كَمَا يَرْفُضُ التَّفْرِيطَ، وَلَقَدْ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْ خَصَائِصِهَا: التَّوَازُنُ: فَهِيَ تُوَازِنُ بَيْنَ مُتَطَلَّبَاتِ الرُّوحِ وَالْعَقْلِ وَالْجَسَدِ، فَتُلَبِّي التَّرْبِيَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ احْتِيَاجَاتِ كُلٍّ مِنْهُمَا دُونَ أَنْ يَطْغَى هَذَا عَلَى ذَاكَ، فَلَا تَسْتَنْكِرُ حَاجَاتِ الْجَسَدِ وَشَهَوَاتِهِ، وَتَعْتَبِرُهَا أَدْنَاسًا وَأَرْجَاسًا، وَلَا تُبَالِغُ فِي تَلْبِيَتِهَا حَتَّى تُدَنِّسَ الرُّوحَ وَتَطْمِسَ بَرِيقَهَا، فَهَذَا سَلْمَانُ يَزُورُ أَخَاهُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَيَرَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنْ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَدَقَ سَلْمَانُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَتُوَازِنُ التَّرْبِيَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ كَذَلِكَ بَيْنَ طَلَبِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ؛ (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[الْقَصَصِ: 77]، وَكَمَا يَطْلُبُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَبْنَائِهِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُمْ كَذَلِكَ بِإِعْمَارِهَا وَعَدَمِ تَرْكِهَا خَرَابًا يَبَابًا: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هُودٍ: 61]، أَيْ: طَلَبَ مِنْكُمْ إِعْمَارَهَا.

 

وَكَمَا يَحُثُّهُمُ الْمُرَبِّي الْمُسْلِمُ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ التَّمَتُّعَ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الْأَعْرَافِ: 32].

 

وَمِنْ خَصَائِصِهَا: الْإِيجَابِيَّةُ، فَإِنَّ التَّرْبِيَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ تُنَشِّئُ أَبْنَاءَهَا عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ؛ فَيَخْرُجُ أَفْرَادُهَا بَنَّائِينَ غَيْرَ هَدَّامِينَ، يَفْعَلُونَ الْخَيْرَ الَّذِي يَتَعَدَّى أَثَرُهُ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيُقَرِّرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ الْمُتَعَدِّيَ نَفْعُهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقْتَصِرِ نَفْعُهُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَكِلَاهُمَا عَمَلَانِ مُتَعَدِّيَا النَّفْعِ.

 

وَنِظَامُ التَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيُّ يُرَبِّي أَبْنَاءَهُ عَلَى التَّفْكِيرِ الْإِيجَابِيِّ الْمُثْمِرِ، وَالَّذِي مِنْ نَتَائِجِهِ الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ وَدَحْضُ الْأَفْكَارِ الْيَائِسَةِ الْمُحْبِطَةِ الْمُقْعِدَةِ عَنِ الْعَمَلِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ وَالْأَمَلِ وَالْعَمَلِ: "وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشَّرْحِ: 6].

 

وَمِنْ وَاقِعِيَّةِ الْمَنْهَجِ التَّرْبَوِيِّ فِي الْإِسْلَامِ: مُخَاطَبَتُهُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، فَيَجْلِسُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِجَانِبِ طِفْلٍ لَهُ طَائِرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَيُحَذِّرُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَيَقُولُ: "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَيُؤَكِّدُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَيَقُولُ: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّنَا إِنْ رَبَّيْنَا أَوْلَادَنَا تَرْبِيَةً إِسْلَامِيَّةً عَلَى مَنْهَجِ اللَّهِ -تَعَالَى- سَرَّنَا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَثْمَرَ ثَمَرَاتٍ يَانِعَاتٍ، وَمِنْهَا:

إِقَامَةُ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْأَرْضِ: إِنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّرْبِيَةِ يُخْرِجُ صِنْفًا مُغَايِرًا مِنَ الْأَفْرَادِ، فَإِنْ رَبَّيْنَاهُمْ تَرْبِيَةً إِسْلَامِيَّةً شَبُّوا وَنُفُوسُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِسْلَامِ، فَلَا يَهْدَأُ لَهُمْ بَالٌ حَتَّى يُقِيمُوا شَرِيعَةَ اللَّهِ حَيَّةً نَابِضَةً عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْضِ، لَا يَرْضَوْنَ بِهَا بَدِيلًا، وَتَرَاهُمْ يُنَافِحُونَ عَنْهَا وَيُهَاجِمُونَ كُلَّ مَنْ أَرَادَ تَطْبِيقَ مَنْهَجٍ غَيْرِ مَنْهَجِ اللَّهِ -تَعَالَى- صَارِخِينَ فِي وُجُوهِهِمْ: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْمَائِدَةِ: 50].

 

وَمِنْهَا: نَشْأَةُ جِيلٍ صَالِحٍ يَنْفَعُ نَفْسَهُ وَأُمَّتَهُ: جِيلٍ يَعْرِفُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، مُتَمَسِّكٍ بِهِمَا، مُطَبِّقٍ لِمَا فِيهِمَا، جِيلٍ يُحِبُّ الْبِنَاءَ وَالتَّعْمِيرَ، وَيَبْغَضُ الْهَدْمَ وَالتَّدْمِيرَ، جِيلٍ يَبَرُّ وَالِدَيْهِ وَيَعْرِفُ حَقَّ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ، جِيلٍ يَتَبَنَّى الْوَسَطِيَّةَ وَالِاعْتِدَالَ، وَيَنْبِذُ التَّطَرُّفَ وَالْغُلُوَّ وَالْإِرْهَابَ، مُتَأَسِّيًا بِالْجِيلِ الَّذِي لَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخُ مِثْلَهُ؛ وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الْفَتْحِ: 29].

 

وَمِنْهَا: نَفْعُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا: يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ"، مِنْهُمْ: "وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنْهَا: طَهَارَةُ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْجَرَائِمِ: فَالتَّرْبِيَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَنْبِذُ كُلَّ ذَلِكَ، وَتُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَتُحَقِّرُهُ وَتُقَبِّحُهُ فِي عُيُونِ أَبْنَائِهَا: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)[الْأَنْعَامِ: 151]، فَيُصْبِحُ الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ مُتَطَهِّرًا مُتَنَزِّهًا عَنِ الْآثَامِ وَالذُّنُوبِ وَالْقَبَائِحِ، مُتَسَامِيًا عَلَى كُلِّ خَنًا وَفُجُورٍ.

 

فَاللَّهُمَّ هَبْنَا تَنْشِئَةَ أَوْلَادِنَا عَلَى دِينِكَ وَمَنْهَجِكَ، وَأَحْيِهِمْ حَيَاةً تَرْضَاهَا، وَانْفَعْنَا بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

خصائص التربية الإسلامية وفضائلها (3).pdf

خصائص التربية الإسلامية وفضائلها (3).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات