أساليب تربوية (1) التربية بالدعاء

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-07 - 1443/06/04 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حاجتنا إلى الدعاء في تربية نفوسنا وتزكيتها 2/أثر الدعاء في تربية الأبناء 3/حث الأبناء على المحافظة على الأدعية والأذكار اليومية 4/نماذج من دعاء الأنبياء والصالحين لذرياتهم وأتباعهم 5/مخالفة يقع فيها بعض الآباء والمربين.

اقتباس

وَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ لَمْ تَعُدْ تَوْجِيهًا عَابِرًا، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّةٌ مَنْهَجِيَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، تَتَطَلَّبُ جُهُودًا كَبِيرَةً وَوَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةً، وَالدُّعَاءُ هُوَ أَحَدُ هَذِهِ الْوَسَائِلِ، وَالَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُرَبِّينَ أَنْ يَجْعَلُوهَا سُلُوكًا لَهُمْ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ وَالنَّشْءِ وَالَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الْأُسَرُ وَالْمُجْتَمَعَاتُ وَالْأَوْطَانُ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَرْبِيَتُهَا طَرِيقُ الْفَلَاحِ وَعُنْوَانُ النَّجَاحِ، قَالَ -تَعَالَى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشَّمْسِ: 9-10]، وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ، الدُّعَاءُ وَاسْتِجْلَابُ مَعُونَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ؛ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِالدُّعَاءِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غَافِرٍ: 60].

 

إِنَّنَا بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ لِلدُّعَاءِ فِي تَرْبِيَةِ نُفُوسِنَا وَتَزْكِيَتِهَا فِي خِضَمِّ سَيْلٍ جَارِفٍ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْفِتَنِ وَالْمُغْرِيَاتِ؛ فَكَمْ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ التَّرْبَوِيَّةِ عَجَزَ الْمُرَبُّونَ عَنْ حَلِّهَا فَكَانَ الدُّعَاءُ هُوَ عِلَاجَهَا؛ فَنَدْعُو دَائِمًا: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8].

 

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (الْفَوَائِدِ): "إِذَا كَانَ كُلُّ خَيْرٍ أَصْلُهُ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ بِيَدِ اللَّهِ لَا بِيَدِ الْعَبْدِ، فَمِفْتَاحُهُ الدُّعَاءُ وَالِافْتِقَارُ وَصِدْقُ اللُّجْأِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ إِلَيْهِ، فَمَتَى أَعْطَى الْعَبْدَ هَذَا الْمِفْتَاحَ فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، وَمَتَى أَضَلَّهُ عَنِ الْمِفْتَاحِ بَقِيَ بَابُ الْخَيْرِ مُرْتَجًّا دُونَهُ". اهـ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: الْأَبْنَاءُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَحُسْنُ تَرْبِيَتِهِمْ مَسْؤُولِيَّةُ الْآبَاءِ وَأَمَانَةٌ مُلْقَاةٌ عَلَى عَاتِقِهِمْ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التَّحْرِيمِ: 6].

 

وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِصَلَاحِ الْحَالِ مِنْ وَسَائِلِ التَّرْبِيَةِ، فَدَعَوَاتُ الْوَالِدَيْنِ مُسْتَجَابَةٌ، قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ).

 

إِنَّ الدُّعَاءَ بِالْخَيْرِيَّةِ وَالصَّلَاحِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْأَحْفَادِ وَالصِّغَارِ مَنْهَجٌ نَبَوِيٌّ؛ فَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابِ"، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ".

 

وَهَذَا الْفَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَ يَدْعُو لِوَلَدِهِ عَلِيٍّ وَهُوَ صَغِيرٌ فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي اجْتَهَدْتُ فِي تَأْدِيبِ وَلَدِي عَلِيٍّ فَلَمْ أَسْتَطِعْ، اللَّهُمَّ فَأَدِّبْهُ لِي".

 

وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، يَقُولُ: "إِنِّي لَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي لِوَلَدِي"(الْحِلْيَةُ لِأَبِي نُعَيْمٍ (4/297)).

 

وَتَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ وَتَزْكِيَةُ نُفُوسِهِمْ وَاسْتِقَامَةُ أَحْوَالِهِمْ مَطْلَبٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَسَبَبٌ لِسَعَادَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الْفُرْقَانِ: 74].

 

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِهَا: "يَعْنِي الَّذِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ".

 

وَهَذِهِ التَّرْبِيَةُ لَمْ تَعُدْ تَوْجِيهًا عَابِرًا، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّةٌ مَنْهَجِيَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، تَتَطَلَّبُ جُهُودًا كَبِيرَةً وَوَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةً، وَالدُّعَاءُ هُوَ أَحَدُ هَذِهِ الْوَسَائِلِ، وَالَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُرَبِّينَ أَنْ يَجْعَلُوهَا سُلُوكًا لَهُمْ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ وَالنَّشْءِ وَالَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الْأُسَرُ وَالْمُجْتَمَعَاتُ وَالْأَوْطَانُ وَالْكَثِيرُ مِنَ الْآمَالِ.

 

مَعَاشِرَ الْمُرَبِّينَ: وَمِنَ التَّرْبِيَةِ بِالدُّعَاءِ تَعْلِيمُ الْمُتَرَبِّينَ الدُّعَاءَ لِأَنْفُسِهِمْ وَتَعْوِيدُهُمْ عَلَيْهِ؛ كَأَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَأَذْكَارِ النَّوْمِ، وَبَقِيَّةِ أَذْكَارِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَذَلِكَ يُقَوِّي صِلَتَهُمْ بِرَبِّهِمْ وَيُكْسِبُهُمُ اسْتِقَامَةَ الْحَالِ وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ وَرَاحَةَ الْبَالِ، فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُ أَبْنَاءَ الصَّحَابَةِ وَشَبَابَهُمْ حِفْظَ الْأَذْكَارِ وَالِالْتِزَامَ بِهَا تَزْكِيَةً لِنُفُوسِهِمْ وَصَقْلًا لِأَرْوَاحِهِمْ، فَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مِتَّ. مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَاللَّهُمَّ (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[الْكَهْفِ: 10].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَلِأَهَمِّيَّةِ الدُّعَاءِ وَأَثَرِهِ فِي صَلَاحِ الْأَبْنَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَثِيرًا مِنْ أَدْعِيَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِذُرِّيَّاتِهِمْ؛ فَهَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَرْفَعُ أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَهُ أَبْنَاءً صَالِحِينَ فَقَالَ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصَّافَّاتِ: 100].

 

وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنِ الدُّعَاءِ لِذَرِّيَّتِهِ، بَلْ ظَلَّ يَتَعَهَّدُهُمْ بِالدَّعَوَاتِ الصَّالِحَاتِ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[إِبْرَاهِيمَ: 35]، وَدَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إِبْرَاهِيمَ: 37]، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إِبْرَاهِيمَ: 40].

 

وَهَذَا زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ قَائِلًا: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[آلِ عِمْرَانَ: 38]؛ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَبَشَّرَهُ؛ (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)[مَرْيَمَ: 7[، وَكَانَتْ صِفَاتُ هَذَا الِابْنِ الْبَارِّ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)[مَرْيَمَ: 12-15].. فَكَانَتْ كُلُّ هَذِهِ الْبَرَكَةِ فِي يَحْيَى بِسَبَبِ دُعَاءِ أَبِيهِ لَهُ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: مَهْمَا عَصَفَتْ بِأَبْنَائِنَا الْحَيَاةُ، وَسَاءَتْ بَعْضُ تَصَرُّفَاتِهِمْ يَنْبَغِي عَلَى الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ أَنْ يَدْعُوا لَهُمْ، لَا أَنْ يَدْعُوا عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى لَا يَسُوءَ حَالُهُمْ وَتَفْسُدَ حَيَاتُهُمْ أَكْثَرَ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الدُّعَاءِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، خَشْيَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَالدُّعَاءُ عَلَى الْأَوْلَادِ فِيهِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)[يُونُسَ: 11]، قَالَ: "هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ وَالْعَنْهُ، فَلَوْ يُعَجِّلُ لَهُمُ الِاسْتِجَابَةَ فِي ذَلِكَ، كَمَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِي الْخَيْرِ لَأَهْلَكَهُمْ".

 

فَأَكْثِرُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- لِأَنْفُسِكُمْ وَلِأَوْلَادِكُمْ وَلِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَكُمْ وَذُرِّيَّاتِكُمْ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 

وَصَلُّوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ؛ فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ الْمُسَبِّحَةَ بِقُدْسِهِ، وَأَيَّهَ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

أساليب تربوية (1) التربية بالدعاء.doc

أساليب تربوية (1) التربية بالدعاء.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات