معالم في التربية النبوية (2) الثناء والتعزيز

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-21 - 1443/06/18 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ماهية التربية بالثناء والتعزيز. 2/أهمية التربية بالثناء والتعزيز. 3/نماذج حية للتربية بالثناء. 4/بصائر وضوابط في الثناء والتعزيز.

اقتباس

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا مَا، فَأَثْنَى النَّاسُ عَلَيْهِ بِهِ وَمَدَحُوهُ دَفَعَهُ ذَلِكَ الثَّنَاءُ -بِلَا شَكٍّ- إِلَى الْمُدَاوَمَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ هَدِيَّةٌ أَوْ حَصَلَ بِسَبَبِهِ عَلَى مِنْحَةٍ مَا، كَانَ أَبْلَغَ فِي تَشْجِيعِهِ، وَهَذَا هُوَ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا مَا، فَأَثْنَى النَّاسُ عَلَيْهِ بِهِ وَمَدَحُوهُ دَفَعَهُ ذَلِكَ الثَّنَاءُ -بِلَا شَكٍّ- إِلَى الْمُدَاوَمَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ هَدِيَّةٌ أَوْ حَصَلَ بِسَبَبِهِ عَلَى مِنْحَةٍ مَا، كَانَ أَبْلَغَ فِي تَشْجِيعِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْزِيزُ، وَأَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى الثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزِ هُوَ الطِّفْلُ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الثَّنَاءَ هُوَ الْمَدْحُ وَذِكْرُ الشَّيْءِ بِالْأَوْصَافِ الطَّيِّبَةِ، وَنَقْصِدُ بِالتَّرْبِيَةِ بِالثَّنَاءِ: مَدْحَ الطِّفْلِ بِأَجْمَلِ الْكَلِمَاتِ إِذَا قَامَ بِفِعْلِ الصَّوَابِ أَوْ بِتَجَنُّبِ الْخَطَأِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْهُ.

 

وَقَدْ وَرَدَتِ النُّصُوصُ تَنْهَى عَنْ مَدْحِ الْمَرْءِ فِي وَجْهِهِ، وَجَاءَتْ أُخْرَى بِمَدْحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَصْحَابِهِ، "قَالَ الْعُلَمَاءَ: وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهَا أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجَازَفَةِ فِي الْمَدْحِ، وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَوْصَافِ، أَوْ عَلَى مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ مِنْ إِعْجَابٍ وَنَحْوِهِ إِذَا سَمِعَ الْمَدْحَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِكَمَالِ تَقْوَاهُ وَرُسُوخِ عَقْلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَلَا نَهْيَ فِي مَدْحِهِ فِي وَجْهِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُجَازَفَةٌ، بَلْ إِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةٌ؛ كَنَشْطِهِ لِلْخَيْرِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ أَوِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ أَوِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ كَانَ مُسْتَحَبًّا"(شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ).

 

وَأَمَّا التَّعْزِيزُ فَهُوَ التَّأْيِيدُ وَالتَّشْجِيعُ وَالتَّدْعِيمُ وَالْمُكَافَأَةُ، وَنَقْصِدُ بِالتَّرْبِيَةِ بِالتَّعْزِيزِ: مُكَافَأَةَ الْوَلَدِ الْمُصِيبِ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ مِنَ الطُّرُقِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُكَافَأَةُ حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَتَأْيِيدَهُ عَلَى انْتِهَاجِهِ السُّلُوكَ الصَّحِيحَ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ، وَدَعْمِهِ فِي تَرْكِ كُلِّ قَبِيحٍ؛ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ تَكْرَارِهِ لَهُ.

 

فَالتَّعْزِيزُ أَعَمُّ مِنَ الثَّنَاءِ، وَمَا الثَّنَاءُ إِلَّا نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنَ التَّعْزِيزِ الْمَعْنَوِيِّ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِلثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزِ أَهَمِّيَّةً بَالِغَةً فِي تَقْوِيمِ السُّلُوكِ، فَيَكْفِي الثَّنَاءُ أَهَمِّيَّةً أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَيَذْكُرُ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَيْفَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَقَالَ عَنْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مَرْيَمَ: 51]، وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ)[مَرْيَمَ: 54]، وَعَنْ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 44]، وَأَثْنَى عَلَى نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، وَ(بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128].

 

بَلْ لَقَدْ أَمَرَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّعْزِيزِ وَالثَّنَاءِ؛ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ: "وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ)، وَحِينَ قَالَ: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى).

 

وَلَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ يَحْمَدُونَ النَّاسَ عَلَى جَمِيلِ صَنِيعِهِمْ، فَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ فَلَمْ يَنْهَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ مَدَحَ، بَلْ عَابَ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ قَائِلًا: "مَنْ لَا يَشْكُرِ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

وَلِلثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزِ دَوْرٌ مُهِمٌّ فِي التَّرْبِيَةِ، فَقَدْ كَانَ سَبَبًا فِي مُدَاوَمَةِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ؛ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ"، فَقَالَ نَافِعٌ: "فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَشَجَّعَ الثَّنَاءُ وَالتَّعْزِيزُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْحَدِيثِ وَمِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)؛ فَكَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ رِوَايَةً لِلْحَدِيثِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَالثَّنَاءُ وَالتَّعْزِيزُ لَيْسَ أُسْلُوبًا مُسْتَوْرَدًا مِنْ عِنْدِ الشَّرْقِ أَوِ الْغَرْبِ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ قُرْآنِيَّةٌ نَبَوِيَّةٌ خَالِصَةٌ، فَهَا هُوَ الْقُرْآنُ يُرَبِّي أَتْبَاعَهُ عَلَى جَمِيلِ الْخِصَالِ؛ حِينَ يُثْنِي عَلَى فَاعِلِيهَا: قَالَ -تَعَالَى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا...)[الْفُرْقَانِ: 63-64]، وَحِينَ عَدَّدَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ...)[الْمُؤْمِنُونَ: 1-2]، وَأَثْنَى عَلَى مُقِيمِي اللَّيْلِ: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذَّارِيَاتِ: 17-18].

 

وَهَذَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُثْنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ مُعَزِّزًا لَهُ وَمُرَشِّحًا إِيَّاهُ كَقُدْوَةٍ يَحْتَذِيهَا غَيْرُهُ: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[اللَّيْلِ: 17-18].

 

وَعَنْ ثَنَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَعْزِيزِهِ لِلصَّحَابَةِ حَدِّثْ وَلَا حَرَجَ، فَهُوَ الْقَائِلُ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).

 

أَمَّا هَذَا التَّعْزِيزُ النَّبَوِيُّ الْفَرِيدُ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَمْ نَقِفْ أَنَّ غَيْرَهُ فَازَ بِمِثْلِهِ: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَأَثْنَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قَائِلًا: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَكَانَتْ مَرْجِعَ الصَّحَابَةِ وَمُعَلِّمَتَهُمْ.

 

أَمَّا هَذَا التَّعْزِيزُ لِخَدِيجَةَ فَهُوَ تَعْزِيزٌ رَبَّانِيٌّ سَمَاوِيٌّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَلِأَنَّ الْأَنْصَارَ آوَوْا وَنَصَرُوا فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الثَّنَاءَ وَالتَّعْزِيزَ لِيُدَاوِمُوا عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَلِيَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِمْ، فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُمْ: "الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَجَاءَ التَّعْزِيزُ النَّبَوِيُّ هَذِهِ الْمَرَّةَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِالثَّنَاءِ تَصْحَبُهُ رَبْتُهُ عَلَى صَدْرِهِ؛ فَقَدْ سَأَلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟" فَلَمَّا عَلِمَهَا، ضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: "وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَيُثْنِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَبِي مُوسَى لِتَحْسِينِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ لِيُدَاوِمَ عَلَيْهِ، وَلِيُشَجِّعَ الْجَمِيعَ عَلَى تَحْسِينِ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ، قَائِلًا لَهُ: "لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: مَعَ مَا لِلثَّنَاءِ وَالتَّعْزِيزِ مِنْ فَائِدَةٍ تَرْبَوِيَّةٍ جَلِيلَةٍ، إِلَّا أَنَّ لَهُ ضَوَابِطَ لَابُدَّ مِنَ اتِّبَاعِهَا كَيْ يُؤْتِيَ ثَمَرَتَهُ وَلَا يَحِيدَ عَنْ غَايَتِهِ، وَمِنْهَا:

أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ: كَتَشْجِيعِ الطِّفْلِ عَلَى سُلُوكٍ طَيِّبٍ، أَوْ تَجَنُّبِ مَا لَا يَلِيقُ، أَوْ حَثِّ الْآخَرِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، أَمَّا الثَّنَاءُ الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ بِلَا سَبَبٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَئُولُ بِهِمْ إِلَى الْغُرُورِ وَالْبَطَرِ، وَهُنَا يَكُونُ مَحَلُّ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا مَدَحَ رَجُلٌ صَاحِبَهُ: "وَيْلَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِنْهَا: عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الطِّفْلِ: وَأَنْ يَكُونَ مَدْحُهُ بِصِدْقٍ؛ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهِ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَوْقِفِ السَّابِقِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَلْيُكُنِ الثَّنَاءُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَقَطْ، وَذَلِكَ كَيْ لَا نُعَوِّدَ الْوَلَدَ التَّحَلِّيَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.

 

وَمِنْهَا: تَنْوِيعُ الْمُعَزِّزَاتِ بَيْنَ الْمَادِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَالدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ: فَلَا يَتَعَلَّقُ قَلْبُ الْوَلَدِ بِالدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، بَلْ يُذَكِّرُهُ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَبِالْجَنَّةِ، وَصَدَقَ اللَّهُ: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الْقَصَصِ: 60].

 

وَمِنْهَا: الْعَدْلُ فِي التَّعْزِيزِ بِالْمُكَافَأَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ: فَإِذَا فَعَلَ الْوَلَدَانِ نَفْسَ الْعَمَلِ الطَّيِّبِ اسْتَحَقَّا نَفْسَ الْمُكَافَأَةِ دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَمَا أَنْجَحَ الثَّنَاءَ وَالتَّعْزِيزَ مِنْ وَسِيلَةٍ تَرْبَوِيَّةٍ إِنْ رُوعِيَتْ ضَوَابِطُهَا؛ وَحِينَهَا سَتُنَمِّي دَاخِلَهُمْ كُلَّ فَضِيلَةٍ، وَتُمِيتُ كُلَّ رَذِيلَةٍ، وَتَأْخُذُ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى وَاحَةِ الْمَعَالِي وَالْأَخْلَاقِ وَالْكَمَالَاتِ.

 

فَاللَّهُمَّ لَكَ الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ الْحَسَنُ... أَصْلِحْ لَنَا أَوْلَادَنَا وَنَشِّئْهُمْ نَشْأَةً تَرْضَاهَا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

معالم في التربية النبوية (2) الثناء والتعزيز.pdf

معالم في التربية النبوية (2) الثناء والتعزيز.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات