معالم في التربية النبوية (6) التعويد على المسؤولية

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-01-21 - 1443/06/18 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أسس التربية بتحمل المسؤولية. 2/أساليب تعويد الطفل على المسؤولية. 3/الفوائد التربوية من تحمل الطفل المسؤولية. 4/نماذج تربوية من تحمل المسؤولية.

اقتباس

الْأَسَاسُ الرَّابِعُ: الْحَذَرُ مِنَ الْحِمَايَةِ الزَّائِدَةِ لِلطِّفْلِ وَالْخَوْفِ غَيْرِ الْمُبَرَّرِ عَلَيْهِ: بِدَعْوَى ضَعْفِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، مَعَ أَنَّنَا نَحْنُ -فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ- مَنْ عَلَّمْنَاهُ ذَلِكَ؛ بِخَوْفِنَا الْمُبَالَغِ فِيهِ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]. أَمَّا بَعْدُ:

 

مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ: كَثِيرًا مَا يَشْكُو الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ مِنْ عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَوْلَادِهِمْ تَحَمُّلَ أَيِّ مَسْؤُولِيَّةٍ، وَمِنْ تَهَرُّبِهِمْ مِنْ كُلِّ تَبِعَةٍ، وَتَنَصُّلِهِمْ مِنْ أَيِّ مُهِمَّةٍ... وَنَقُولُ بِلَا مُوَارَبَةٍ: نَحْنُ -فِي أَغْلَبِ الْأَحْيَانِ- السَّبَبُ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نُعَوِّدْهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي صِغَرِهِمْ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّاتِ، وَ"مَنْ شَبَّ عَلَى شَيْءٍ شَابَ عَلَيْهِ".

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلتَّرْبِيَةِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ أُسُسًا وَضَوَابِطَ لَابُدَّ مِنَ اتِّبَاعِهَا كَيْ نُرَبِّيَ جِيلًا ثَابِتَ الْإِرَادَةِ، قَوِيَّ الْعَزْمِ، يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأُسُسِ مَا يَلِي:

الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ: لَا تُكَلِّفْهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ؛ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ تَكْلِيفِ الْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ؛ بَلْ أَمَرَ بِإِعَانَتِهِمْ: "وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفَلَذَاتُ أَكْبَادِكَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَحَقُّ.

 

الْأَسَاسُ الثَّانِي: التَّدَرُّجُ فِي تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ: وَكُلُّنَا يُدْرِكُ أَنَّ التَّدَرُّجَ سُنَّةُ الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ تَكْلِيفَاتِهِ وَتَشْرِيعَاتِهِ، فَلْيُكُنْ لِكُلِّ سِنٍّ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْمَهَامِّ؛ فَصَغِيرُ السِّنِّ يُكَلَّفُ بِمَا يُنَاسِبُهُ؛ كَتَرْتِيبِ فِرَاشِهِ أَوْ بِوَضْعِ أَطْبَاقِ الطَّعَامِ عَلَى الْمَائِدَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ... وَمَنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ كَلَّفْنَاهُ أَيْضًا بِمَا هُوَ أَكْبَرُ؛ وَكُلَّمَا كَبُرَ سِنُّهُ أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمَسْؤُولِيَّةِ بِمَا يُنَاسِبُ طَاقَتَهُ وَقُدُرَاتِهِ.

 

الْأَسَاسُ الثَّالِثُ: تَعْلِيمُهُ عِزَّةَ النَّفْسِ وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنِ النَّاسِ: فَيَشِبُّ الْوَلَدُ مِنْ صِغَرِهِ عَزِيزَ النَّفْسِ، يَأْبَى أَنْ يَكُونَ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَصْحَابِهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَهُوَ أَيْضًا مَا عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِنَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا لَهُ: "يَا مُحَمَّدُ، شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ).

 

الْأَسَاسُ الرَّابِعُ: الْحَذَرُ مِنَ الْحِمَايَةِ الزَّائِدَةِ لِلطِّفْلِ وَالْخَوْفِ غَيْرِ الْمُبَرَّرِ عَلَيْهِ: بِدَعْوَى ضَعْفِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، مَعَ أَنَّنَا نَحْنُ -فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ- مَنْ عَلَّمْنَاهُ ذَلِكَ؛ بِخَوْفِنَا الْمُبَالَغِ فِيهِ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ... فَنَحْنُ لَمْ نَدَعْ لَهُ الْفُرْصَةَ لِيَتَعَلَّمَ تَحَمُّلَ الْمَسْؤُولِيَّاتِ، فَكَيْفَ بَعْدَ ذَلِكَ نَلُومُهُ؟!... فَلْنَسْتَوْدِعِ اللَّهَ حِفْظَهُ، كَمَا فَعَلَ يَعْقُوبُ: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يُوسُفَ: 64]، وَلْيَكُنْ شِعَارُنَا: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[التَّوْبَةِ: 51].

 

أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: وَقَدْ يَسْأَلُ سَائِلٌ: كَيْفَ نُرَبِّي أَوْلَادَنَا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: إِنَّ الْوَسَائِلَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا يَلِي:

أَوَّلًا: إِشْعَارُهُ أَنَّهُ خُلِقَ لِيَعْمَلَ وَلِيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ: وَأَنَّ لَهُ هَدَفًا يَسْعَى إِلَيْهِ، وَإِشْعَارُهُ بِقِيمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ تَحْتَاجُ مَجْهُودَهُ وَاجْتِهَادَهُ، وَأَنَّنَا جَمِيعًا نَنْتَظِرُ إِنْجَازَهُ... فَهَذَا قُدْوَتُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا فَيَقُولُ: "إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى صَلَاةٍ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

ثَانِيًا: إِنْزَالُهُ مَنَازِلَ الرِّجَالِ؛ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ؛ فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[النَّصْرِ: 1]؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا، وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: "هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النَّصْرِ: 3]، فَقَالَ عُمَرُ: "مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

ثَالِثًا: ائْتِمَانُهُ عَلَى الْأَسْرَارِ: فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتَمِنُ غُلَامًا صَغِيرًا عَلَى أَسْرَارِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْغُلَامُ قَدْرَ الْمَسْؤُولِيَّةِ، فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرًّا، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَكَتَمَهُ حَتَّى عَنْ أُمِّهِ؛ "أُمِّ سُلَيْمٍ".

 

رَابِعًا: إِشْرَاكُهُ فِي الْمَهَامِّ الْعَظِيمَةِ حَسَبَ طَاقَتِهِ؛ فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: "جَاءَ بِي أَبِي يَوْمِ أُحُدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ جَاءَ بِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفَرَضَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ)، فَقَدْ قَدَّمَهُ أَبُوهُ لِتَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَقَبِلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُ يُطِيقُهَا.

 

خَامِسًا: تَقْدِيرُهُ وَاحْتِرَامُهُ: فَهَذَا قُدْوَةُ الْعَالَمِينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطْلُبُ الْإِذْنَ مِنْ غُلَامٍ صَغِيرٍ، فَقَدْ أُتِيَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟"، فَقَالَ الْغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَدِهِ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَا رَيْبَ أَنْ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبْرَ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَإِذَا تَرَبَّى الْأَوْلَادُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ وَجَدْنَا ثَمَرَةَ ذَلِكَ وَاضِحَةً بَيِّنَةً؛ وَأَوَّلُ تِلْكَ الثِّمَارِ:

قُوَّةُ الشَّخْصِيَّةِ؛ فَإِنَّ تَحَمُّلَ الْمَسْؤُولِيَّاتِ يُعَلِّمُ الْقُوَّةَ وَالثَّبَاتَ، وَيَجْتَثُّ مِنَ الْقَلْبِ الرَّهْبَةَ وَالْجُبْنَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ "عَلَى صِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ فَتَفَرَّقُوا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَلَمْ يَبْرَحِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ: "مَا لَكَ لَمْ تَبْرَحْ؟"، فَقَالَ: "مَا الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً فَأُوَسِّعُهَا لَكَ، وَلَا لِي ذَنْبٌ فَأَخَافُ!"، وَلَا عَجَبَ وَلَا غَرَابَةَ؛ فَأُمُّهُ أَسْمَاءُ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، الَّتِي كَانَتْ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ غَيْرَ آبِهَةٍ بِاللَّيْلِ وَالْجِبَالِ وَالْأَمَاكِنِ الْمُوحِشَةِ، حَامِلَةً الطَّعَامَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِيهَا يَوْمَ الْهِجْرَةِ، وَأَبُوهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفًا فِي الْإِسْلَامِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا قَدْ رَبَّيَاهُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّاتِ وَالتَّبِعَاتِ حَتَّى صَارَ "رَجُلًا" فِي سِنِّ طُفُولَتِهِ.

 

ثَانِيًا: فَتْحُ الْمَجَالِ لِعَقْلِهِ لِيُخْرِجَ طَاقَاتِهِ: فَهَا هُوَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطْرَحُ سُؤَالًا عَلَى الصَّحَابَةِ يَسْتَخْرِجُ بِهِ طَاقَاتِ عُقُولِهِمْ، فَلَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ إِلَّا طِفْلٌ صَغِيرٌ، وَقَدْ حَاوَلَ وَالِدُهُ تَشْجِيعَهُ عَلَى الْبَوْحِ بِنِتَاجِ عَقْلِهِ وَعَدَمِ كِتْمَانِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مِثْلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟"، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هِيَ النَّخْلَةُ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: "لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَلَمْ يَقُلْ لَهُ عُمَرُ: أَحْسَنْتَ إِذْ لَمْ تَتَكَلَّمْ فِي حَضْرَةِ الْكِبَارِ فَتُحْرِجَهُمْ -مَثَلًا-، بَلْ تَمَنَّى لَوْ قَالَهَا، فَتُرَى لَوْ تَعَرَّضَ ابْنُ عُمَرَ لِمِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ ثَانِيَةً أَلَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَقْدُمَ وَيَتَقَدَّمَ فَيَقُولَ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْكِبَارُ. فَهَكَذَا يُرَبَّى الْوَلَدُ عَلَى اسْتِخْدَامِ عَقْلِهِ وَاسْتِخْرَاجِ مَوَاهِبِهِ.

 

ثَالِثًا: قُوَّةُ الرَّأْيِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ: فَمَنْ تَحَمَّلَ الْمَسْؤُولِيَّةَ مِنْ صِغَرِهِ امْتَلَكَ مَعَهَا قُوَّةَ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَارِسًا مَرَّ "بِغُلَامٍ فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَيْنَ الْعُمْرَانُ؟ قَالَ: اصْعَدِ الرَّابِيَةَ تُشْرِفْ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدَ فَأَشْرَفَ عَلَى مَقْبَرَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْغُلَامَ لَجَاهِلٌ أَوْ حَكِيمٌ، فَرَجَعَ فَقَالَ: سَأَلْتُكَ عَنِ الْعُمْرَانِ فَدَلَلْتَنِي عَلَى مَقْبَرَةٍ، فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الدُّنْيَا يَنْتَقِلُونَ إِلَى تِلْكَ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا انْتَقَلَ إِلَى هَذِهِ، وَلَوْ سَأَلْتَنِي عَمَّا يُوَارِيكَ وَدَابَّتَكَ لَدَلَلْتُكَ عَلَيْهِ"، وَمِثْلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا مِنْ فَمٍ مُتَقَلِّبٍ فِي الْمَسْؤُولِيَّاتِ.

 

وَدَخَلَ الرَّشِيدُ دَارَ وَزِيرِهِ فَقَالَ لِوَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ: "أَيُّهُمَا أَحْسَنُ: دَارُنَا أَوْ دَارُكُمْ؟"، قَالَ: دَارُنَا، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: "لِأَنَّكَ فِيهَا".

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ حَفَلَ تَارِيخُنَا وَتُرَاثُنَا بِنَمَاذِجَ عَظِيمَةٍ لِأُنَاسٍ تَرَبَّوْا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْئُولِيَّةِ حَتَّى صَارُوا رِجَالًا احْتَلُّوا الصَّدَارَةَ فِي صَفَحَاتِهِ؛ فَالْغُلَامُ الَّذِي رَبَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الرُّجُولَةِ وَتَحَمُّلِ الْمَسْئُولِيَّةِ، قَدْ صَارَ مُؤَهَّلًا وَهُوَ فِي الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ مُتَحَمِّلًا مَسْؤُولِيَّةَ قِيَادَةِ جَيْشٍ فِيهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ؛ إِنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ.

 

وَيُكَلِّفُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا مَسْؤُولِيَّةَ الْقَضَاءِ وَمَا زَالَ حَدِيثَ السِّنِّ، يَرْوِي عَلِيٌّ فَيَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ، وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ، وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ..."(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، فَمَا شَكَّ فِي قَضَاءٍ قَضَاهُ.

 

وَقَدْ رَوَيْنَا كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَمِّلُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَسْؤُولِيَّةَ كِتْمَانِ أَسْرَارِهِ، فَمَاتَ أَنَسٌ وَمَا أَفْشَاهَا.

 

فَعَوِّدُوا أَوْلَادَكُمْ تَحَمُّلَ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَعَزِّزُوا ثِقَتَكُمْ بِهِمْ، وَثِقَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ؛ لِيَخْرُجُوا رِجَالًا أَشِدَّاءَ أَقْوِيَاءَ.

 

اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي أَوْلَادِنَا وَاجْعَلْهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

معالم في التربية النبوية (6) التعويد على المسؤولية.doc

معالم في التربية النبوية (6) التعويد على المسؤولية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات