اقتباس
كل هذا وغيره يفعله المسلم وهو موقن بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"(البخاري)، وعند مسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله -عز وجل-"، فإننا نوقن أن الدواء لكل الأمراض والأوبئة موجود ومتاح في الأرض، ولكن المشكلة أننا لا نعلمه، كما جاء في حديث ابن حبان: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه"..
إن المسلم الحق يستقبل أقدار الله كلها بالرضا والتسليم، حتى المؤلم منها؛ فإنه يخضع لله فيه، ويرضى به، ويرى أنه خير له، وأن فيه الحكمة البالغة وإن كان عقله لا يرقى أن يدرك تلك الحكمة في وقت البلاء والمصيبة؛ ذلك أن المسلم يؤمن أن الله لا يقضي إلا الخير، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهؤلاء هم الذين مدحهم الله -تعالى- حين قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155-157].
***
ومع هذا الإيمان العميق والتسليم المطلق لقضاء الله وقدره والرضا التام بالأقدار المؤلمة المزلزلة الممحصة، فإن المسلم لا يألو جهدًا ولا يدخر وسعًا في الأخذ بكل سبب مباح لرفع البلاء عن نفسه وعن مجتمعه، فإن الأخذ بالأسباب لا ينافي الرضا بقضاء الله -عز وجل-، بل قد يكون ترك الأخذ بالأسباب في بعض الأحيان حرامًا منهيًا عنه. وعند انتشار الأوبئة والأمراض يكون الأخذ بالأسباب باتباع سبل الوقاية الصارمة كي لا يستشري الوباء ويستفحل الطاعون، ويكون ذلك بالبحث عن الدواء الناجع إن لم يكن ثَمَّ دواء معروف، ويكون باتباع تعاليم الإسلام في العزل والحجر الصحي والتي سنشير إليها بإذن الله... كل هذا وغيره يفعله المسلم وهو موقن بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"(البخاري)، وعند مسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله -عز وجل-"، فإننا نوقن أن الدواء لكل الأمراض والأوبئة موجود ومتاح في الأرض، ولكن المشكلة أننا لا نعلمه، كما جاء في حديث ابن حبان: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه".
***
ومن جملة الأسباب التي يأخذ بها المسلم لرفع البلاءات والمصائب والأمراض والأوبئة أن يتعاون مع أهل الذكر في ذلك من متخصصين وخبراء وعلماء وأطباء، الذين يقدمون الطب والدواء، وأن يصدر الناس عن أمرهم في ذلك، ويطبقوا وصاياهم، ويلتزموا بتعليماتهم، فإن انتشار الوباء يكون -بعد أمر الله وإرادته- بالإهمال في سبل الوقاية وعدم أخذ احتياطات مكافحة العدوى، أو من الاختلاط بالأشخاص المرضى وعدم وضعهم في حجر صحي، أو من التقصير في البحث عن الأدوية الناجحة وتوفيرها للناس...
***
ولقد سبق الإسلام العالم كله في وضع الوسائل المناسبة للتصدي لانتشار كل وباء وطاعون ومرض؛ فقد فرض على أتباعه منذ أكثر من أربعة عشر قرن من الزمان ما يُعرف اليوم بـ"الحجر الصحي" أو "العزل الصحي"، فهذا سعد بن أبي وقاص يسأل أسامة بن زيد، فيقول: ماذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه"(متفق عليه).
وقد تسبب هذا الحديث في رجوع الفاروق عمر ومعه أجلاء الصحابة من على أبواب الشام -بعد أن تكبدوا إليها عناء السفر- وعودتهم إلى المدينة المنورة دون أن يدخلوا الشام وقد قصدوها، فعن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشأم، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبًا في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فحمد الله عمر ثم انصرف(متفق عليه).
وهذا الحجر الصحي الذي سبق إليه الإسلام لم يقصره على أمراض وأوبئة البشر فقط، بل الإسلام يفرض الحجر الصحي على الأوبئة التي تصيب الحيوانات هي الأخرى، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يورد الممرض على المصح"(رواه أحمد وابن ماجه، بسند صحيح)، أي: لا يدخل صاحب الإبل المريضة المصابة بالوباء بإبله على إبل غيره السليمة المعافاة، ومثل الإبل سائر الحيوانات، يقول ابن حجر العسقلاني: "لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه"(فتح الباري، لابن حجر).
***
وهذه الأوبئة إذا نزلت نزلت على الجميع؛ الكافر والمؤمن، العاصي والطائع، فهي تصيب الجميع بلا تفرقة، وإنما يكون الفرق في العاقبة والنتيجة؛ تمامًا كما تنزل الصاعقة أو العذاب على قوم صالحين في قوم طالحين، فتصيبهم جميعًا لكن يكون لكل مصيره المختلف، فهذه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، تروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم" قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم"(متفق عليه، واللفظ للبخاري).
وعن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض"، قلت: يا رسول الله، وإن كان فيهم صالحون؟ قال: "نعم وإن كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون لرحمة الله"(رواه الطبراني في الأوسط، بسند صحيح).
فشتان شتان بين هذا وذاك، فرق عظيم وبون شاسع واختلاف بعيد أبعد مما بين السماء والأرض بين مصير ومآل الصالح والطالح في الدنيا وفي الآخرة؛ فالمؤمن يستقبل قضاء الله وقدره بالرضا لأنه قضاء مولاه، وهو يوقن أن الأجل مكتوب لا يُعجِّله داء ولا يؤخره دواء، فلا فرق عنده بأي سبب جاء، فإنه ما أتى إلا في موعده الذي حدده الله لا قبله ولا بعده: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، والأمر كما قاله ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت؛ وإنما فر من لم يأت أجله، وأقام من حضر أجله"(شرح النووي على صحيح مسلم)، فالمؤمن يوقن أن الأوبئة مجرد أسباب للموت المحتوم لا تقدمه عن موعده... هذه الأولى.
أما الثانية: فإن الأمراض والأوبئة كفارة لذنوب المسلم: فعن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"(متفق عليه).
والثالثة: إن مات به فهو شهادة له: فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطاعون شهادة لكل مسلم"(متفق عليه)... وعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فأخبرني: "أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد"(رواه البخاري). فهو خير للمسلم على كل حال، وهذا مما عجب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له"(رواه مسلم).
وأما الكافر فهي عليه المصيبة التي ليس بعدها مصيبة، وهي له الصاعقة والطامة والفاجعة والكارثة؛ فإن هذه الأوبئة والأمراض تقطعه عن جنته التي لا جنة له سواها؛ نعم، ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"(رواه مسلم)، فالدنيا كل همه ومبلغ علمه ونهاية طموحاته وقمة تطلعاته وسقف آماله وذروة أمنياته، فإذا ضاعت منه ضاعت حياته وآخرته... والكافر جازع على القضاء ناقم على من قضى به؛ فلا شيء يصبِّره ولا موعود حسن ينتظره، لا يلجأ إلى ركن شديد ولا يأوي إلى إله حق... (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)[النور: 40].
***
وأخيرًا: فدعونا نقرر أنه لا فرح في الموت ولا شماتة في المرض، فهي أقدار الله يجريها وفق حكمته على من يشاء من عباده، فإذا أصابت ظالمًا قلنا: ربما هي عليه عقوبة من الله بسبب بغيه وتجبره، وإذا أصابت مسلمًا قلنا: ربما كانت لرفع درجاته أو تكفير سيئاته أو إيقاظًا له من غفلة أو إزعاجًا له من سكرة ورقدة أو تنبيهًا له على خطأ يرتكبه... فهي للمسلم على كل حال خير -كما قررنا-... أما أن يشمت مسلم بأخيه المسلم لأن الله قدَّر عليه ابتلاءً فذاك الذي لا يحل ولا يجوز ولا هو من أخلاق المسلمين!! أما أن يتشفى مسلم من أخيه المسلم إذا نزل به وباء أو بلاء فذاك ضد وعكس ومناقض ما أمر به الإسلام ونبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى"(متفق عليه)، وكرر: "المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى، رأسه اشتكى كله"(رواه مسلم)، وأكد: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"(متفق عليه)...
فعجبًا لمن يدعي الإسلام وهو يصنع ضد هذا كله؛ فبدلًا من أن يعاونه إذا به يخذله! وبدلًا من أن يتألم لألمه إذا به يفرح فيه! وبدلًا من أن يسعى في تفريج كربه إذا به يزيده كربًا على كربه ويكون هو جزءًا من همه وحزنه!
ونتساءل مستنكرين: ألا يخاف من يظهر الشماتة والتشفي في إخوانه الموحدين أن يبتلى بمثل بلائهم أو أشد؟! فإن الأيام دول، وصروف الدهر تتنقل وتفجع، وسنن الله -تعالى- لا تحابي أحدًا، وقد روي عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تظهر الشماتة لأخيك؛ فيرحمه الله ويبتليك"(الترمذي وحسنه)...
وقد حكى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل فعل أقل من ذلك، فانظر كيف كانت نهايته، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كان في بني إسرائيل رجلان، كان أحدهما مجتهدًا في العبادة، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، فكانا متآخيين، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول: يا هذا، أقصر، فيقول: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا؟ " قال: إلى أن رآه يومًا على ذنب استعظمه، فقال له: ويحك، أقصر، قال: "خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا"، قال: "فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا"... فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، واجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنت بي عالمًا؟! أكنت على ما في يدي قادرًا؟! اذهبوا به إلى النار"(أحمد، وابن حبان، بسند صحيح).
فاللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وردنا إلى ديننا ردًا جميلًا... كما نسألك -يا جبار السموات والأرض- أن تجعل هذا الداء وبالًا وشرًا مستطيرًا مستأصلًا لمن بغى على إخواننا المسلمين وظلمهم، وأن تجعله انتقامًا وموتًا زؤامًا على كل ظالم باغ متكبر... وأن تجعله كفارة وشهادة لمن أصابه ذلك من المسلمين... وقد جمعنا ها هنا خطبًا متميزة توضح الأمر وتؤصله وتفصله وتزيده بيانًا، فإليك..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم