اقتباس
وعدنا إلى مساجدنا شاكرين شاعرين بنعمة ربنا -سبحانه-، ولكن بقي أمرنا يؤرقنا؛ وهو ذلك التباعد بيننا وبين إخواننا في صفوف الصلاة، ونأسى أننا لا نستطيع أن نطبق أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل...
غالبًا لا يدرك الإنسان قيمة النعمة إلا إذا حُرِم منها، لذا قالوا: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"؛ وذلك لأن المرضى لما حُرِموا منها عرفوا قيمتها، ولذا أيضًا كان للعطاء بعد المنع لذة وأي لذة؛ إذ يولِّد المنعُ شوقًا وتلهفًا وولعًا وتشوفًا إلى الممنوع منه، فإذا جاء، جاء على اشتياق ومعرفة فضل ومكانة، ولذلك أيضًا كانت شدة مرارة السلب بعد العطاء؛ فإن العبد إذا ذاق لذة العطاء وتنعم بها تجده إذا رُفع وسُلب يتجرَّع المرارتين؛ مرارة فقدانه، ومرارة الندم أنه لم يحافظ عليه.
ولقد كنا نحيا أعوامًا في نعمة وصحة وعافية وستر، نعتادها وتعتادنا حتى ألفناها وفقدنا الشعور بها كأنها خالدة معصومة من الزوال! وحتى قَلَّ شكرنا لها وصار باللسان دون الجنان... ثم استيقظنا في يوم على أنباء الفاجعة؛ قالوا: احذروا الهواء الذي تتنفسوه فإن فيه مرضًا قاتلًا! وابتعدوا على أحبائكم فإن القرب منهم قد يوردكم المهالك! واقعدوا عن الخروج إلى المساجد فإن الوباء قد أوصد أبوابها!
وصرنا نتمنى ونحن ونشتاق أن نرجع إلى ما كنا قبل جائحة كورونا، وتذكَّرنا ساعتها قيمة العافية وفضل العافية وطمأنينة العافية وبرد العافية، وأدركنا لماذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدع بهذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي"(رواه أبو داود).
واشتد علينا الكرب وزاد، وعَسُر علينا الخطب وادلهم، وضاقت علينا الدنيا بما رحبت، وانطلقت الأفئدة مع الألسنة تصدع بالتوبة والرجوع والندم على ما فرطنا في جنب الله، وأخلصت القلوب في الدعاء والرجاء أن يرفع الله عنا البلاء... وقد وجدنا الله -عز وجل- قريبًا سميعًا كريمًا مجيبًا، ورأينا موعوده -سبحانه وتعالى- يتحقق: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح: 5-6]، ورأينا المساجد تُفتح بعد غلقها، والقيود تُخفف بعد أن ضقنا بها، والمصابين يتعافون وتقل أعدادهم...
وعدنا إلى مساجدنا شاكرين شاعرين بنعمة ربنا -سبحانه-، ولكن بقي أمر يؤرقنا؛ وهو ذلك التباعد بيننا وبين إخواننا في صفوف الصلاة، ونأسى أننا لا نستطيع أن نطبق أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان"(رواه أبو داود)، ونأسى لأن أحدنا يعجز أن يلزق قدمه بقدم أخيه كما كان يصنع الصحابة الذين قال عنهم أنس بن مالك -رضي الله عنهم أجمعين- "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه"(رواه البخاري)، كذلك حزَّ في نفوس أئمة المساجد أنهم لا يستطيعون أن يأمروا المصلين بألا يدَعوا بينهم فرجات للشياطين، بل على العكس يأمرونهم بأن يدعوا بينهم المسافات خوفًا من الوباء!
وما زلنا كذلك حتى اكتمل من الله الفرج، وتمت من الله النعمة، وسعدت آذاننا وهي تسمع أئمتنا في الصلاة يقولون بصوت كأنه قد جاء من السماء: "استووا، سووا صفوفكم وسدوا الخلل"، وشعرنا ببرد العافية يعود فيحيطنا ويحتضننا بعد أن فقدناه وافتقدناه، وانشرحت الصدور التي طالما تطلعت إلى كرم ربها وجوده -سبحانه وتعالى-.
***
وها نحن الآن قد تحققت أمنيتنا التي خلناها لن تتحقق، وعدنا نتراص في صفوف الصلاة كما كنا نفعل قبل فيروس كورونا، واستطعنا أن نطيع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"(متفق عليه).
وصرنا الآن ندرك أن في تسوية الصفوف في الصلاة حِكَمًا وعبرًا وفوائد كثيرة، فمنها:
أن تسوية المسلمين لصفوفهم في صلاتهم تورثهم وحدة الصف في حياتهم كلها، فيصيرون يدًا واحدة وكلمة واحدة ويعيشون لغاية واحدة، فيجتمعون ولا يتفرقون، وعلى الخير يتعاونون...
والعكس بالعكس؛ فإن عدم الاستواء في الصف يخلف عند المسلمين تفرق الكلمة وذهاب الهيبة، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام، حتى كاد يكبر فرأى رجلًا باديًا صدره من الصف، فقال: "عباد الله لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم"(متفق عليه).
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتعاهد أمر تسوية الصفوف بنفسه ويشرف عليها، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري"(متفق عليه).
وقد وعى أنس -رضي الله عنه- الأمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه لما قدم المدينة قيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف"(رواه البخاري).
ومنها: نيل الأجر العظيم: فالله يرحم من وصل صفًا والملائكة تدعوا له؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة"(رواه ابن ماجه)، والله -عز وجل- يصل من وصل صفوف المسلمين، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله"(رواه أبو داود).
ومنها: التدريب على الجهاد في سبيل الله: فقد قال الله -عز وجل- عما يحبه في المجاهدين في سبيله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)[الصف: 4].
***
وفرحًا بهذه النعمة من الله عقدنا هذه المختارة، ورجاءً لاكتمال النعمة ودوامها جمعنا هذه الخطب، وطلبًا لزيادة البيان والتبيان والفقه والتوضيح كتبنا هذه الكلمات راجين المولى -عز وجل- أن يتم علينا العافية ويديمها ويهبنا شكرها إنه سميع قريب مجيب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم