اقتباس
إن اجتناب الذنوب هي قضية الإنسان الكبرى بعد توحيده لله -عز وجل-، فكل آفة وبلاء، وكل مرض ووباء، وكل عذاب وشقاء، وكل فساد في البر والبحر والهواء، لا بد أنه بسبب معاصي البشر...
ذل هي، عذاب هي، هوان على الله هي، سقوط من عين الإله هي... هي بوار وخسران، وضياع وحرمان، وتعسير مصالح وخذلان... هي شقاء في الدنيا ونار في الآخرة... هي جحود للنعم ونكران لها واستخدام لها في إغضاب المنعم بها... إنها: المعصية. إذا رأيت شابًا انتكس وارتكس بعد تقى وصلاح فابحث عن الذنوب، فقد قرر العارفون أن الذنوب هي أصل كل انتكاسة... وإذا لاحظت نعمة زالت بعد إسباغ فاعلم أنها بسبب الذنوب: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الأنفال: 53]...
وإذا راقبت أخوين متحابين وقد تفرقا وتقاطعا وتصارما فلا بد أن وراء ذلك الذنوب، فعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما تواد اثنان في الله -جل وعز- أو في الإسلام، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما"(رواه البخاري في الأدب المفرد)... وإذا عاصرت سقوط دولة وانهيارها بعد ارتفاع وثبوت فلا تشك أن الذنوب هي التي نخرت في جذورها وأصولها: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40]...
وإذا كان يوم القيامة ورأيت الجموع تساق إلى جهنم، وجهنم تكاد تتميز غيظًا وحنقًا عليهم، وهي تنادي: هل من مزيد! فاعلم أنهم ما سيقوا إليها إلا بسبب ذنوبهم، فإنك لا تزال تسمع القرآن يقول: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)[الأنعام: 6]، ويقول: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)[الأنفال: 52]...
وإذا رأيت أهل بلد في نعمة ورخاء وعافية من كل بلاء، ثم فجأة تبدل حالهم وتغيَّر شأنهم، فاعلم أنها المعاصي والذنوب: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]... وأنت أنت، إن كان قلبك بريئًا طاهرًا، محلقًا حول عرش الرحمن، مرفرفًا بين ضلوعك فرَحًا بالطاعة واشتياقًا إليها، ثم رأيت الظلام بدأ يتسلل إليه، ورأيته متكاسلًا عن الطاعات زاهدًا فيها، ورأيت طائره الذي كان يرفرف بين جنبيك قد كُسر جناحاه، فابحث -ولا بد- عن ذنوب ومعاصٍ قارفتها، ورحم الله من قال:
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
كل ذلك، والله -تعالى- لا يؤاخذنا بجميع ذنوبنا، بل ببعضها دون بعض: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]، فلو آخذنا لأهلكنا جميعًا بدون استثناء: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)[فاطر: 45].
أيها المسلمون: إن اجتناب الذنوب هي قضية الإنسان الكبرى بعد توحيده لله -عز وجل-، فكل آفة وبلاء، وكل مرض ووباء، وكل عذاب وشقاء، وكل فساد في البر والبحر والهواء، لا بد أنه بسبب معاصي البشر: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41].
ولقد ضرب لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثال بخمس أنواع من الذنوب تُحْدِث خمس مصائب على وجه الأرض، فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم"(ابن ماجه) ورحم الله من قال: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة".
وتجأر النفوس المذنبة -وكلنا مذنبون-، وتصرخ الأفئدة المتعطشة إلى النور: أما لهذه الذنوب من دواء وعلاج؟ ويطمئنها القرآن الكريم فيقول: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان: 70]... ثم يزيدها طمأنينة: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
إن دواء المعاصي هو التوبة، وعلاج الذنوب هو الاستغفار، وشفاء الخطايا هو الإنابة والرجوع والإكثار من الأعمال الصالحات... فالتوبة بشروطها المعروفة، وذل القلب بذنبه لربه، والاجتهاد في جمع الحسنات، ليس فقط تكفير للخطايا والذنوب، بل -بفضل الله- سبب في تحويلها إلى حسنات وقربات...
فالآن أبشر أيها العاصي -وأنا منهم-، إن الله من أجل ما يعلم من ضعفك ووقوعك في الخطأ قد سمى نفسه الغفور والتواب والرحمن والرحيم والعفو والكريم... واستمع إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم"(رواه مسلم)، وفي مستدرك الحاكم: "لو أنكم لا تخطئون لأتى الله بقوم يخطئون يغفر لهم".
فمن أجل أنفسنا، ثم من أجلك، عقدنا هذا الملف العلمي الشامل، حول هذه القضية الخطيرة؛ قضية المعصية، وجعلناه على خمسة محاور، فاستعرضنا .. في المحور الأول ماهية المعصية، وأخذنا جولة -ما كانت بالشيقة- بين درجات المعاصي وأنواعها، وبين ذنوب العصاة... ثم في المحور الثاني حاولنا أن نجيب على سؤال ملح يقول: لماذا نعصي؟ فغصنا في دواعي المعصية وأسبابها وما يجر إليها ويقرِّب منها... أما المحور الثالث فكان شديدًا وقعه على نفوسنا؛ حيث استعرضنا فيه من آثار المعاصي وعقوباتها وما تُحْدِثه المعصية من فساد وبوار وشقاء وهلاك... وكان المحور الرابع عن الدواء والعلاج، فجاء كالفرج بعد الكرب والشدة... ثم جمعنا في المحور الخامس بعض الكتب والمراجع والإحالات التي تشمل جوانب الموضوع كله. فالله نسأل أن ينفع بهذا الملف العلمي جامعيه وناشريه ومطالعيه والقائمين عليه، والمسلمين أجمعين، وأن يتوب علينا وعلى أهل الأرض من الذنوب والمعاصي؛ إنه هو الغفور الرحيم.
التعليقات