د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فمما ابتليت به مجتمعات المسلمين في هذه الأزمان كثرة المعاصي والذنوب، وانتشار المنكرات على اختلاف أنواعها.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وهذه المعاصي لها أضرار على القلوب، كضرر السموم على الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه المعاصي والذنوب، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء فطرده ولعنه وأبدله بالرحمة لعنًا، وبالإيمان كفرًا؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله؟ إنها المعاصي والذنوب![1].
قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، وهذه الذنوب منها كبائر ومنها صغائر،وقد دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ﴾ [النجم: 32]، أي صغائر الذنوب، روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود: أنه سأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "أي الذنب أعظم عند الله؟، قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟، قال: أن تزاني بحليلة جارك"[2].
ومن الناس من يتساهل في الذنوب والمعاصي، ويقول: ما دمت أؤدِّي أركان الإسلام وفرائضه فالذنوب أمرها سهل، والله غفور رحيم، وهذا الكلام ليس بصحيح، فإن الله غفور رحيم، وشديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره، قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 98].
وقال تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49- 50].
وقال تعالى محذرًا من معصية نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وقال سبحانه: ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم و محقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه"[3].
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في عيونكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات"[4]؛ قال أبو عبد الله البخاري: يعني بذلك المهلكات.
ومعصية واحدة كانت سببًا لهزيمة الصحابة في معركة أحد، عندما أمرهم النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ألا ينزلوا من الجبل، فعصوه ونزلوا، فقتِلَ سبعون، كما جاء في الصحيح[5].
ومعصية واحدة كانت سببًا في دخول امرأة النار، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض"[6].
بل إن العبد ليتساهل بالكلمة التي تخرج من فمه، ولا يلقي لها بالًا، تكون سببًا لدخوله النار، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوى بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"[7].
ومعصية واحدة أخرجت آدم من الجنة، قال الشاعر:
تصل الذنوب إلى الذنوب *** وترتجي درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما *** منها إلى الدنيا بذنب واحد
قال الأوزاعي: " لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت ".
ومن عقوبات المعاصي - وهي كثيرة، ذكرها ابن القيم في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" فمنها:-
أولًا: أنها تورث الذل لصاحبها، فإن العز كل العز بطاعة الله، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ [الأعراف: 152].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وجعل الذل والصغار على من خالف أمري"[8].
وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: "اللهم أعزنا بالطاعة، ولا تذلنا بالمعصية"، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"[9].
وفي دعاء القنوت: "إنه لا يذل من واليت"[10] ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العز بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه وله من الذل بحسب معصيته"[11]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "يا معشر الأنصار! ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟، قالوا: صدق الله ورسوله[12].
قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
ثانيًا: أنها تورث الوحشة بين العبد وربه، وبين العبد وبين الناس، ولو اجتمعت للعبد لذات الدنيا كلها لم تذهب تلك الوحشة، قال عبد الله بن عباس: "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق"[13].
ويشهد لكلام ابن عباس قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ﴾ [طه: 124- 125].
وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].
ومن عقوباتها:
أنها إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، و إن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14][14].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص ٣٧- ٣٨) بتصرف.
[2] صحيح البخاري برقم (٤٤٧٧)، وصحيح مسلم برقم (٨٦).
[3] سبق تخريجه.
[4] برقم (٦٤٩٢).
[5] البخاري برقم (٣٩٨٦).
[6] البخاري برقم (٣٣١٨)، ومسلم برقم (٢٢٤٢).
[7] البخاري برقم (٦٤٧٧)، ومسلم برقم (٢٩٨٨) واللفظ له.
[8] سبق تخريجه.
[9] الجواب الكافي (ص ٥٣).
[10] سنن الترمذي برقم (٤٦٤)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/144) برقم (٤١١).
[11] الداء والدواء (ص ٢٧٧).
[12] مسند الإمام أحمد (١٨/105) برقم (١١٥٤٧) وقال محققوه: إسناده صحيح وأصله في الصحيحين.
[13] الجواب الكافي (ص ٤٩).
[14] برقم (٣٣٣٤)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم