الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمين... وبعد:
كما نعلم أنَّ كلَّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون، وأنَّ على العبد أن يُقلع عن المعصيةِ، والله - سبحانه - يتوب على مَن تاب، وهو أرحم الراحمين.
وجميعًا نعلم أنَّ المعاصي تُزيل النعم، ولكن العجيب في مسلمي القرن الواحد والعشرين أنَّهم يعتقدون أنهم بلا خطيئة!!
وأنت إنْ قال لك أخوك إنَّه لا يُخطئ، اعلم أنه أكبر كاذب في طول البِلاد وعرْضها، ثم ما معنى أنِّي مسلِم؟
معنى ذلك أنَّني أسلمتُ أمري كله لله؛ أي: حياتي كلها لله، عبادتي كلها لله؛ كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163].
إذًا لا بدَّ مِن الإقلاع عن المعاصي، واعلم أخي القارئ أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الرجل ليحرم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه))؛ ابن ماجه في الفِتن.
وإليك هذه الصور مِن المعاصي التي نقع فيها، ويحل بسببها غضبُ الله تعالى علينا، وتمنع إجابة الدعاء النبَوي، الذي فيه العلاجُ لِمَا في الصدور والقلوب مِن همٍّ وغمٍّ، والله المستعان.
- فهذا مسلم عانتْ أُسرته في تنشئته على حبِّ الله ورسوله، واحترام النفس، وقول الحق، يدرس مِن صغره حتى دخوله الجامعة، وما أدراك ما الجامعة؟! فإذا برفقاء السوء ومناهِج الفلسفة والنظريات الإلحاديَّة، والأفكار الجنونية تَقلِب الثوابتَ التي نشأ عليها رأسًا على عقب، فيَكْفُر ويُلحِد، ويُنكر وجودَ الله ويجادِل في الذات الإلهية، ويعيش في فراغ رهيب، بين عقْله الذي لا يَقبل إلا الحقائق الملموسة والبراهين الساطِعة، وبيْن قلبه وفِطرته السويَّة التي نشأ عليها، ولا يَدري ماذا يفعل؟
أيتبع فِطرته، ويتوب من معصية، ومِن الذنب الذي لا يغفره الله قبلَ فوات الأوان؟ أم يستمرُّ على إلحادِه وجحوده، ويطيع شياطين الإنس والجن، فيهلِك مع مَن هلَك غير مأسوفٍ عليه؟ وكم مثل هذا الشاب الحائرِ يبحث عن الإجابة التي تُعيد له السكينةَ وراحةَ البال التي افتقدها!
- وهذا زوْج لا يرَى في زوجته إلا الخصال السيئة، فهي لا تفهمه، ولا تستطيع أن ترضيَه وتتكلَّم عندما يحتاج إلى الهدوء، وتسكت عندما يحتاج إليها للحديث، وتَفْرح إذا أصابتْه الهموم والغموم، وتحزن أنْ ظهَر عليه الفرح والسرور، حتى أصبح الرجلُ يقول: لو عاد بي الزمانُ إلى الخلْف ما تزوجتُها ولا ارتبطت بها، يا ليتني لم أرَها ولم أعرفْها ولم أخطبْها، ويرى كل مَن ساعدوه وعاونوه على الزَّواج منها مشاركين في جريمة تعذيبه وتنكيده، وربَّما كانت الزوجة لها نفس الرأي، ونفس المشاعر والأحاسيس، فهو ساخطٌ عليها، وهي ساخطة عليه!
والسؤال: أين المودَّة والسكينة التي هي الغاية من الزواج؟ ولماذا هذا النفور والغمُّ والهمُّ الذي جعل كلاًّ من الزوجين يتربَّص أحدُهما بالآخَر، وصارتْ حياتهما معًا كالنار تأكُل بعضها البعضَ إنْ لم تجدْ ما تأكله.
لماذا صارتِ الحياة الزوجيَّة فعلاً وردَّ فعل مع إهمال حقوق كل منهما.
أليست هذه معصيةٌ لله يجب الإقلاعُ عنها؛ حتى يستجيبَ الله - تعالى - لكلٍّ من الزوجين، هل يستجيب الله لهذا الزوج أو هذه الزَّوجة عندَ قولهما: ((اللهمَّ إني أعوذُ بك مِن الهم والحزن، وأعوذ بك مِن العجز والكسل، وأعوذ بك مِن الجُبن والبُخْل، وأعوذ بك مِن غَلَبة الدِّين وقهْر الرِّجال))، هذا محالٌ لو كانوا يعقلون!
إنَّها مصيبةٌ أصابتْ بيوت المسلمين، فلا مودَّة ولا رحمة ولا سكينة، إلا لمَن هداهم الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- وهذا غنيٌّ أعطاه الله مِن المال الكثيرَ يعيش في سَعة مِن العيش، يأكُل ويشرب ويرتدي ما يشاء مِن مَلْبَس، يرى السَّعادة على زوجته وأولاده يتلقَّى أفضلَ عِلاج، عنده سيارة وشقَّة تمليك، وغير ذلك مِن زِينة الحياة الدنيا، ومع كلِّ هذه النِّعم فهو بخيل لا يُخرِج حقَّ الله في ماله، أليس في ماله حقٌّ معلوم للسائل والمحروم؟! والعجيب رغم هذا كلِّه فهو يفتقد إلى السعادة الحقيقيَّة، يفتقد إلى راحةِ البال، ويُهرول وراءَ المال، وهو ظلٌّ زائِل، تاركًا لحقوق الله عليه، فلا وقتَ عنده للصلاة، ولا وقتَ عندَه للحج، ولا لصِلة الرحم، ولا لمزاحمة العلماء بالمناكب، وغير ذلك من الذي يجمع له خيرَ الدنيا والآخرة.
ثم ماذا ينفعه المال ولو كان عندَه مِثل مال قارون، عندما يُصبح وحيدًا في قَبْره لا أنيسَ ولا وجليس، تَرَكه أهلُه وجيرانه وأحبابه يبحثون عمَّا ترَك مِن مال وعقار من حلال كان أو مِن حرام، فهو حقٌّ لهم، وإثمه عليه وحده.
ولقدْ كان سيِّدنا عمر - رضي الله تعالى عنه - يستعيذ مِن ثلاثة: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك مِن زوجةٍ تُشيِّبني قبل المشيب، ومِن ولد يصير عليَّ سيدًا، ومِن مال أُحاسب أنا عليه في قَبْري، ويتمتَّع به وَرَثتي من بعدي، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أليس ما فعَلَه هذا الغنيُّ الغافل وما زال غيرُه يفعله معصيةً لله يجب الإقلاع عنها؛ ليجدَ السعادة الحقيقيَّة في الدنيا والآخرة؟!
- وهذا رجلٌ ابتلاه الله بالمرَض الذي أقْعده عنِ العمل وافتقر حالُه، ويعيش في ضَنْك، ويُعاني من ضِيق الرزق، وصار أولادُه محرومين من أبسطِ الطيبات، فنظر إلى حاله وحال الغنيِّ، فكِرَه الحياة وكَرِه الناس، ولم يقنعْ بما أعطاه الله، ولم يحمد وصار يرتكب ما حرَّم الله، يرتشي، ويسرِق، وصار ساخطًا على قدْره غير راضٍ بقضاء الله، ويمد يَدَيْهِ إلى الحرام، ثم هو بعدَ ذلك لا يستحي أن يرفَعها إلى السَّمَاءِ ويقول: ((يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، وَمَشْرَبُه حَرامٌ، وَمَلْبَسُه حَرامٌ، وغُذِيَ بِالحَرامِ، فَأَنَّى يُسْتَجابُ له؟!)).
أليست هذه معصيةً لله تعالى، يَحُلُّ بسببها عليه غضبُه ومقتُه؟! فكيف يستجيب له بعدَ ذلك؟ بل كيف يطمع في كرمِه، وقد بارزه بالمعاصي؟ هيهات، هيهات!
- وهذا مريضٌ ابتلاه الله بالمرَض، وأصبح زبونًا دائمًا للأطبَّاء، لا يجد ثمنَ الدواء، باع كلَّ ما يملك ولم يصبرْ على بلائه، رغمَ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالَ: ((ما يُصيبُ المُسْلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وصَبٍ، ولا همٍّ ولا حُزْنٍ، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَة يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللَّهُ بِها مِن خَطَاياه))؛ البخاري في المرَض.
وأين هو مِن صبر أيُّوب - عليه السلام - والذي عافاه الله بعدَ زمَن طويل، ووصَفَه بقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]؟
- وهكذا معشرَ المسلمين، ما يُقال عن هؤلاء يُقال عن عقوقِ الوالدين وترْك الصلاة، وقطْع الأرحام، وأذى الجار، وغير ذلك مِن المعاصي والذنوب التي نَرتكبها في حقِّ الله تعالى، ثم بعدَ ذلك نطمع في رحمتِه وكرمه، وأن يُذهِب عنَّا همومَنا وغمومَنا، ويفكَّ عنا دُيوننا، ويبارك لنا في أموالنا ويَهدينا إلى الحقِّ بإذنه، ويرزقنا خيرَ الدنيا والآخِرة، وهذا لا يكون أبدًا إلا بعدَ الإقلاع عن المعاصي، وأن يُصلِح كلُّ واحد منَّا ما بينه وبيْن الله، وما بينه وبيْن زوجِه، وما بينه وبين جارِه عندئذٍ يستجيب الله - عزَّ وجلَّ - عندَما يرْفع الإنسان يديه بهذا الدعاء النبويِّ الذي فيه العلاجُ مِن الهموم والغموم؛ ((اللهمَّ إني أعوذُ بكَ مِن الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك من غَلَبةِ الدَّين وقهْر الرِّجال)).
معشر المسلمين، أين الرِّضا والقَنَاعة بنِعم الله علينا؟
لماذا الكثير منَّا ساخط على حاله، لا يُرضيه شيء أبدًا، ويطمع في المزيدِ، وكفَى بهذا من آثار مدمِّرة على حياةِ المرء بسببِ المعاصي؟!
وإنَّ كثيرًا من الناس عندما يصيبه بلاءٌ لا يصبر، ويتمرَّد على قضاء الله، والله - سبحانه وتعالى - يقول: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وعلينا أن نتجنَّب أكْلَ الحرام؛ حتى تكون دعوتنا مستجابة.
واعْلموا أنه ليس لنا إلا الرِّضا والقَناعة والصبر؛ لأنَّ ذلك هو الدليل على صِدق إيماننا، وقوَّة يقيننا، وتوكلنا على الله تعالى، وهو أرحم الراحمين.
- وإن كان يظنُّ الواحد أنَّ كل ما يحدُث لك مصيبة تستحقُّ منه كلَّ هذا الجزَع والخوف، والهم والغم، فهو مخطئ؛ لأنَّ كل المصائب تهون إلا المصيبة في الدِّين، فإنَّ ترْك الصلاة والصوم والحج، والخروج عن حدود الله تعالى، فيه خسران الدنيا والآخِرة معًا، وما دام المسلم مؤمنًا أنَّه لن يصيبَه إلا ما كَتَبه الله له، فلماذا إذًا الخوف مِن المجهول؟!
عليه الأخْذُ بالأسبابِ التي تُعينه على تحسينِ حاله، والرضا بما قدره الله له، والافتقار واللجوء إليه، وهذا وحْدَه يُزيل أثر المعاصي، ويُريح القلب مِن الهموم والغموم.
معشر المسلمين، إنَّ البحث عن السعادة الحقيقيَّة تستحق منَّا العَناء مع الفَهْم الحقيقي لها، وليس كل ما يسعد المرء مِن زينة الحياة الدنيا هو حقيقة السعادة، كلاَّ، وإنَّما هي سعادة زائِفة فانية.
واعلموا أنَّ السعادة وراحة البال لا تكون في المال فقَط، وإنَّما لا بدَّ مِن راحة القلْب والضمير، وهما لا يكونانِ إلا بطاعةِ الله تعالى.
- وإنْ وسوس لك الشيطان بعدم الرِّضا والقناعة، فإنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوصيك أن تنظرَ إلى مَن هو أسفل منك؛ حتى لا يغرك الشيطان بالله الغَرور، وترضى بما آتاك الله مِن رزق، وإنْ كان قليلاً؛ لأنَّها نعمةٌ يتمَنَّاها غيرُك ممن هو أسفل منك.
وليتذكَّر قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالَ: ((إذا نَظَرَ أَحَدُكم إلى مَن فضِّلَ عليه في المَالِ والخَلْقِ، فلْيَنْظُرْ إلى مَن هو أسْفَلَ منه ممَّنْ فُضِّلَ عليه))؛ مسلم في الزهد والرقائق.
واعلمْ أيُّها الفقير، أنَّك في الدُّنيا بمنزلة المسجونِ عنِ الوصول إلى شهوْته، فكما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدنيا سجنُ المؤمِن وجَنَّة الكافِر))؛ مسلم.
والفقر ليس عيبًا؛ لقولِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فواللهِ لا الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلِككم كما أهلكتهم))؛ البخاري في الجزية.
- وعن أنس بن مالكٍ قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُؤتَى بأنعمِ أهل الدنيا مِن أهل النار يومَ القيامة، فيُصبغ في النار صبغة، ثم يُقال: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ويُؤتَى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا مِن أهل الجنة، فيُصبَغ صبغةً في الجنة فيُقال له: يا ابنَ آدمَ، هل رأيتَ بؤسًا قط؟ هل مرَّ بكَ شدَّة قط؟ فيقول: لا واللهِ يا ربِّ، ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيتُ شِدَّة قط))؛ مسلم في صفة القيامة.
- وها هو عبدالرحمن بن عوْف - رضي الله عنه - أُتي يَوْمًا بطعامِه، فقال: قُتِل مصعب بن عمير وكان خيرًا مني، فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بُردة، وقُتِل حمزة أو رجلٌ آخر خيرٌ منِّي، فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بُردة، لقد خشيت أن يكونَ قدْ عُجِّلتْ لنا طيِّباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعَل يبكي))؛ البخاري في الجنائز.
وعلى الإنسان فقط أن يلتمس البداية الصحيحة، وقطعًا سوف يصل لمأربه مِن شوق للطاعة، وزُهْد في المعصية.
واللهُ مِن وراء القصْد، وهو يهدي السبيل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم