ضياء صفوان عبداللطيف عبدالعزيز
خلق الله عز وجل الإنسان مجبولًا على النقص والعيب، فمن جبلَّة الإنسان الفطرية أنه خطَّاء صاحب ذنوب ومعاصٍ، وهذا أمر متفق عليه عند كل العقلاء، فلم يعهد العقل أن إنسانًا عاش منزهًا عن حالة النقص؛ كالخطأ، والسهو، والنسيان، وغيرها من النواقص؛ وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه))[1]، ومن نظر في هذه المسألة تحصَّل عنده تفرد الله سبحانه وتعالى بالكمال المطلق دون خلقه.
فلما كان الإنسان كذلك، كان لا بد له من ذنوب ومعاصٍ، والله تعالى لما خلق الإنسان مجبولًا على العيب والنقصان، ألهمه طريق الرشد والبيان، فجعل التوبة والاستغفار وغيرهما من مكفرات الذنوب ماحيةً وجابرة للنقص.
ومن خلال هذه المقالة سأحاول إن شاء الله ذكر أنواع الذنوب والسيئات وبعض مكفراتها.
إن الذنوب والمعاصي تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة، سأذكرها مع شيء من البيان والتوضيح إن شاء الله.
النوع الأول: ذنب لا يُغفر:
إن أعظم الذنوب عند الله هو الشرك به سبحانه؛ فقد صح في الحديث عن عبدالله بن مسعود: ((أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنوب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك))[2]، وهذا ذنب لا يغفره الله أبدًا لمن مات عليه بغير توبة؛ كما أخبرنا الله تعالى بذلك في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [النساء: 48]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وكذلك من الذنوب التي لا تغفر لمن مات عليها الكفر بالله تعالى؛ كمن يسب الله تعالى أو يهزأ بشرعه ودينه؛ فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [البقرة: 161، 162]، فهذه الذنوب لا يغفرها الله لمن مات عليها دون توبة، وصاحبها مخلد في النار أبدًا والعياذ بالله.
أما من تاب، تاب الله عليه، وآتاه الله أجره وثوابه مهما بلغت ذنوبه وسيئاته؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
النوع الثاني: كبائر الذنوب:
هذا هو النوع الثاني من الذنوب، وهي الكبائر والموبقات؛ ومنها ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))[3].
هذه الكبائر وغيرها من أمثالها دون النوع الأول في الجرم، إلا أن الله توعد أصحابها بالعذاب يوم القيامة، وصاحبها مستحق للعذاب في النار، فإن شاء الله، أنفذ وعيده وعذبه بعدله، وإن شاء عفا عنه بكرمه وفضله، علمًا أن هذا الوعيد في هذه الذنوب لمن مات عليها بغير توبة، أما من تاب وأصلح، فإن الله يعفو عنه ويغفر له.
إذًا هذه الكبائر التي دون الشرك أو الكفر لو مات صاحبها من غير توبة، فإنه مستحق للعذاب، فإن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه، وإن عذبه الله تعالى، فإنه لا يخلد في النار خلافًا لصاحب النوع الأول، فإنه خالد في النار.
وأذكر هنا نوعًا مهمًّا من هذه الكبائر، وهي التي تتعلق بحقوق العباد؛ كالمظالم من سفك الدم، وغصب الأموال، وانتهاك الأعراض، وغيرها من هذه الحقوق، فإن هذه الذنوب لا يغفرها الله لصاحبها حتى يستبرئ ذمته من أصحابها، ويؤديَ الحقوق إلى أهلها؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه))[4]، وهذا النوع من الذنوب الكبيرة لا بد له من توبة خالصة، فلا بد للكبائر من توبة مخصوصة، خلافًا للصغائر كما سيأتي.
النوع الثالث: صغائر الذنوب:
صغائر الذنوب وهي السيئات، وهي ما كانت دون الكبائر في الجرم والإثم، كالنظرة المحرمة، وما يصيبه المسلم من أخطاء وزلَّات في حياته، فهذا النوع يغفره الله تعالى لعبادة دون توبة مخصوصة منها، فقد جعل له مكفراتٍ كثيرة تمحى بها هذه السيئات، وسأذكر هنا بعضًا منها، وهي أهمها.
مكفرات الصغائر:
أولًا: أداء الفرائض والمحافظة عليها؛ فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان - مكفرات ما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر))[5].
وكذلك حديث الرجل الذي أصاب من امرأة قُبلةً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ فقال: ((لجميع أمتي كلهم))[6].
ثانيًا: اجتناب الكبائر، فمتى جاهد الإنسان نفسه في سبيل الله، واجتنب الكبائر والموبقات حسبةً لله، فإن الله تعالى يغفر له صغائر الذنوب؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31].
ثالثًا: الابتلاءات والمصائب، فهذه يكفر الله بها السيئات عن عباده؛ فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها - إلا كفَّر الله من خطاياه))[7].
وعمومًا، فإن مكفرات السيئات كثيرة، ولها أدلتها في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وقد أفردت مقالات وفصول لعرضها وبيانها، وقد اقتصرت هنا على ثلاثة من أهمها، والله أعلم.
ولا بد هنا من التنبيه على أمر غاية في الأهمية، وهو أن كون الصغائر يغفرها الله لعباده لا يعني التهاون بها والتساهل، فإن هذا أمرٌ يوشك أن يهلك صاحبه، ويورده المهالك؛ فإن الصغائر إذا اجتمعت على صاحبها أهلكته، ناهيك أنها مقدمة للوقوع في الكبائر أصلًا.
ورحم الله القائل:
خلِّ الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر
ضِ الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرةً
إن الجبال من الحصى
وهنا فائدة مهمة أختم بها؛ وهي: كيف نميز بين الكبائر والصغائر؟
على العموم، فقد توسع العلماء في شرح هذه المسألة على أقوال عدة، وقد أفاد الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في عرضها وبيانها في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31].
وأما القول الراجح والله أعلم أن الكبائر هي كل ما ترتب عليه حدٌّ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، وما دون ذلك يبقى في إطار الصغائر، والله أعلم.
وأظن أن هذا ضابط محكم للتمييز في هذه المسألة وضبطها، والحمد الله رب العالمين.
[1] أخرجه البيهقي (7/ 356)، عن عبدالله بن عباس.
[2] أخرجه البخاري برقم (7520)، عن عبدالله بن مسعود.
[3] أخرجه البخاري برقم (2766)، ومسلم برقم (89)، عن أبي هريرة.
[4] أخرجه البخاري برقم (6534)، عن أبي هريرة.
[5] أخرجه مسلم برقم (233)، عن أبي هريرة.
[6] أخرجه البخاري برقم (4687)، ومسلم برقم (2763)، عن عبدالله بن مسعود.
[7] أخرجه البخاري برقم (5641)، عن أبي هريرة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم