عناصر الخطبة
1/فضائل الطاعات وبركاتها 2/ضرر الذنوب والمعاصي والآثام 3/من آثار الذنوب والمعاصي 4/العقوبات القدرية والشرعية على المعاصي 5/أصول الخطايا.اقتباس
إن القلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، والنفس المطمئنة تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف، وربما ماتت، والمعاصي تخوف العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإذا وقع العبد في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله، والإنابة إليه، والتضرع والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسأل عن ما يفعل وهم يسألون، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وإذا قضى شيئًا فإنما يقول له كن فيكون. أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أنزهه بها عن ما يقول المبطلون، وأعظمه بها عن ما يقول المشركون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها الإخوة: ما أجدر العبد العاقل بطاعة ربه، واجتناب معصيته، فالطاعات سبب لنزول النعم، وحصول البركات، والمعاصي والذنوب تزيل النعم وتحل النقم، وتسبب الوحشة والرعب والخوف في قلب العصاة، وكلما كثرت الذنوب زادت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين خلقه، فالغفلة توجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشة الشرك.
والطاعات غذاء للقلوب، والمعاصي تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه. والذنوب تُعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد أبواب العلم، وتحجب موارد الهداية، وتذل النفس وتصغرها حتى تصير أصغر شيء وأحقره. والطاعات تجعل مع العبد معية الله ونصره وحفظه، والذنوب تجعل العاصي في أسر شيطانه، وسجن شهواته، وقيد هواه: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) [النساء: 38].
وإذا قُيِّد القلب طرقته الآفات بحسب قيوده، فلا يستطيع السير إلى الله والدار الآخرة: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
أيها الإخوة: وكلما بعد القلب عن الله كانت الآفات إليه أسرع، والبعد عن الله -عزَّ وجلَّ- مراتب متفاوتة، فالغفلة تبعد العبد عن الله, وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة. وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية, وبعد الشرك والنفاق أعظم من ذلك كله.
والمعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف والعزة، وتكسوه أسماء الذل والذم والصغار، وشتان ما بين الأمرين: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة: 18-20].
والمعاصي تسلب اسم المؤمن والبر والمحسن، والتقي والمطيع والورع، والطيب والصالح والعابد، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي، والمفسد والمسيء، والمجرم والخبيث، والكاذب والخائن، والسارق والزاني، والظالم والفاسق ونحو ذلك من أسماء الفسوق.
والطاعات صلة بين العبد وربه، والمعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 36،37].
والمعاصي والذنوب تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، بل تمحق بركة الدين والدنيا، وما محقت بركة الأرض إلا بمعاصي الخلق كما قال -سبحانه-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
وإنما كانت معصية الله سبباً لمحق بركة الرزق والأجل وغيرها؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، وكل شيء اتصل به الشيطان فبركته ممحوقة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة.
وضرر الذنوب والمعاصي والآثام في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وليس في الدنيا والآخرة من شر إلا وسببه الذنوب والمعاصي، قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
عباد الله: ومن آثار وأضرار الذنوب والمعاصي: حرمان العلم, وحرمان الرزق, والوحشة بين العبد وربه، وبينه وبين الناس, وظلمة يجدها العبد في قلبه, وتعسر أموره عليه, وحرمان الطاعة, ووهن القلب والبدن.
والمعاصي تقصر العمر, وتمحق بركته, وتنقص العقل, ويجر بعضها إلى بعض, فيألفها العاصي ولا يستطيع مفارقتها, ولا يستقبح فعلها أمام غيره.
والمعاصي سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وكما أن العز في طاعة الله, فكذلك الذل في معصية الله.
والمعاصي مفسدة للعقول، تورث الطبع على القلوب، وتدخل العبد تحت لعنة الله ورسوله، وحرمانه من دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والملائكة.
أيها الإخوة: ومن آثار الذنوب والمعاصي كذلك: أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الإنسان والحيوان، وفي المياه والهواء، وفي الزروع والثمار وغيرها.
والمعاصي تذهب الغيرة من القلب، وتذهب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وتضعف في القلب تعظيم الرب -جل جلاله-، وتضعف وقاره في القلب، وتستدعي نسيان الله لعبده، وتركه وخذلانه له، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه.
ومن عقوباتها أنها تسبب نسيان العبد لنفسه، وتخرجه من دائرة الإيمان والإحسان إلى ما دونها، وتمنعه ثواب المؤمنين. فالإيمان سبب جالب لكل خير، وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان والطاعات، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه الكفر والمعاصي.
والطاعات تقوّي سير القلب إلى الله والدار الآخرة، والمعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة أو تعوقه، أو توقفه. فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته تدريجياً حتى ينقطع عن السير إلى الله؛ فالمعاصي والفواحش في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغل في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة.
فكما أن بدن الإنسان إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة استراح فعمل بلا معوق ونما، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، وزكا ونما وقوي واشتد، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له الجوارح وأطاعت، ولا سبيل إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال -سبحانه-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور: 30].
والله -عزَّ وجلَّ- لا يضيع أجر من أحسن عملاً، يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا فيها، ثم في الآخرة يوفيه أجره بأعظم مما في الدنيا كما قال -سبحانه-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [النحل: 30]. وقال -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وكذلك الكفار يعاقبون بسوء أعمالهم في الدنيا، ثم يصيرون في الآخرة إلى أشد العذاب كما قال -سبحانه-: (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [الرعد: 34].
أيها الأحبة: وأهل طاعة الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، وهم أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وهم الأسفلون في الدنيا والآخرة.
وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، ثم في أسفل سافلين كحال العصاة والكفار والمنافقين كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145]، وكلما عمل العبد طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين، ثم في أعلى الأعلين: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69،70].
والنزول أمر لازم للإنسان كالصعود، فقد هيأه الله ليصعد بالطاعات إلى أعلى، أو ينزل بالمعاصي إلى أسفل. فمن شاء أن يتقدم فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه إلى دار كرامته، أو يتأخر عما خلق له، وعما يحبه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، فكل ذلك ميسر وممكن: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر: 37].
والنزول درجات: فهو يحصل للعبد بسبب الغفلة, أو التوسع في المباحات, أو معصية صغيرة أو كبيرة, فهذا علاجه الإقلاع والتوبة. فإن كان النزول إلى أمر يقدح في أصل الإيمان كالشك والريب والنفاق، فهذا لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه.
عباد الله: ومن عقوبات المعاصي والآثام: أنها تجرئ على العبد من لم يكن يتجرأ عليه من أصناف المخلوقات، فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة، والتخويف والتحزين والنسيان، وتؤزه إلى المعاصي أزاً. ويجترئ عليه شياطين الإنس بما يقدرون عليه من أذاه. ويجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه، حتى الحيوان البهيم. ويجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه الحد.
وتجترئ عليه نفسه فتستأسد عليه، وتصعب عليه، فلا تنقاد له، فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له، وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبى؛ وذلك لأن الطاعة حصن الرب، فمن دخله كان آمناً، فإذا فارق الحصن اجترأ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وبحسب اجترائه على معاصي الله تكون جرأتهم عليه، وانتقامهم منه.
أيها الأحبة: إن القلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، والنفس المطمئنة تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف، وربما ماتت، والمعاصي تخوف العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإذا وقع العبد في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله، والإنابة إليه، والتضرع والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكر ذكر بلسانه دون قلبه.
ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه، وأدهى من ذلك وأمر أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، فربما لم ينطق بالشهادة عند الموت، بل ربما نطق بضدها أحياناً.
والمعاصي تعمي القلب وتضعف بصيرته، فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الله، ومعرفة الهدى، وقدرته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحسب ضعف بصيرته وقوته، فينعكس إدراكه كما ينعكس سيره، فيدرك الباطل حقاً، والحق باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها، وغفلت عن الله وآياته، فماذا أعد الله لهؤلاء من العذاب؟ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7، 8].
أيها الإخوة: ومن عقوبات الذنوب والمعاصي: أن المعاصي مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه، وجيش يقويه به على حربه، وهو الشيطان الذي لا يفارق الإنسان طرفة عين، يراه الشيطان من حيث لا يراه.
والنفس أول مداخل الشيطان على القلب، فإذا منَّاها وحقق لها مرادها اطمأنت إليه، فخامرت القلب، وصارت مع الشيطان عليه، فيحرك الشيطان الجوارح لكل معصية, ويثبطها عن كل طاعة، فما أعظم عداوة الشياطين لبني آدم، وما أشد غفلة بني آدم عنهم؟ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس: 60-62].
ومما يعين الشياطين على هذا؛ مصالحة النفس الأمارة بالسوء، وإعانتها والاستعانة بها، والوقوف معها ضد النفس المطمئنة. فإن النفس الأمارة إذا قويت وأطاعت الشياطين، أنزلوا القلب من حصنه، وأخرجوه من مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة بالسوء، التي تأمر بما تهوى الشياطين وتحبه، ولا تخالفهم البتة، بل تبادر إلى فعل كل ما يشيرون به من الفواحش والآثام.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويفتح علينا بما ينفعنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، إمام المتقين وقائد الغُرّ الميامين ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: ومن عقوبات الذنوب: أنها تنسي الإنسان نفسه، وإذا نسي العبد نفسه أهملها وتركها ففسدت، وإذا نسي العبد ربه نسيه، وأنساه نفسه, ونسيان الرب للعبد إهماله وتخليه عنه، وإضاعته، وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها، وما تكمل به، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها.
وينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بباله مداواتها، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول به إلى الفساد والهلاك، وكفى بذلك عقوبة، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18،19].
وكيف تكون حال الإنسان إذا نسيه ربه؟ ونسي هو ربه؟ ونسي نفسه؟ وأنساه الله نفسه؟ وإنما يظهر أثر هذا عند الموت، ويزداد ظهوره في القبر، ويبلغ تمامه يوم التغابن.
فالذنوب والمعاصي تنسي العبد حظه من التجارة الرابحة، وتشغله بالتجارة الخاسرة، وتجمع حوله الأشرار، وتنفره من الأتقياء الأبرار.
والمعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فلكل شيء سبب وآفة، فنعم الله ما حُفظ موجودها، ولا استُجلب مفقودها بمثل طاعة الله.
أيها الإخوة: ومن عقوبات المعاصي والذنوب: أنها تباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له، وهو الملك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وهو الشيطان. فالعبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، وقرب منه الشيطان، وإذا أطاع العبد ربه قرب منه الملك، وتباعد منه الشيطان.
ولا يزال الملك يقرب من العبد بالطاعة، فتتولاه الملائكة في حياته، وعند موته، وعند بعثته، وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له، يبشره بالخير، ويعينه عليه، ويدفع عنه عدوه، وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه بالقول السديد، وإذا اشتد قرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه بالفحش والزور.
أيها الإخوة: أما عقوبات المعاصي الشرعية: فالله -عزَّ وجلَّ- شرع عقوبات شرعية على الجرائم كقطع اليد في السرقة، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطريق، والجلد بالقذف وشرب الخمر، والقتل والجلد في الزنا، وغير ذلك من العقوبات التي شرعها الله ورتبها على الجرائم، وجعلها -سبحانه- على حسب الدواعي، وحسب الوازع عنها.
فالذنوب والمعاصي تترتب عليها العقوبات الشرعية، أو القدرية، أو هما معاً، وقد يرفعهما الله عمن تاب وأحسن. وإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية، أو خففتها كما قال -سبحانه-: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس: 98].
وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد من الشرعية، وربما كانت دونها، ولكنها تعم، والشرعية تخص كما قال -سبحانه-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة: 78-80].
عباد الله: وأصول الخطايا كلها ثلاثة: الأول: الكبر, وهو الذي صير إبليس إلى ما صار إليه. الثاني: الحرص, وهو الذي أخرج آدم من الجنة. الثالث: الحسد, وهو الذي جر أحد ابني آدم على قتل أخيه، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض. ومن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والظلم من الحسد.
أيها الأحبة: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية، فللسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة لا بد من طاعة الله ورسوله، وكلما ازداد المسلم من طاعة الله ورسوله ازداد خيره وكماله، وارتفعت درجته عند الله لزيادة إيمانه وأعماله كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158].
وبالطاعات تصلح أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة, وبالمعاصي تفسد أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم