محمد عيسى
أنبياء الله ورسلُه هم الصفوةُ الممتازة، الذين اجتباهم الله من بين البشر، واختصَّهم بصفات الكمال الخِلْقية والخُلُقية، وجعَلهم السفراء الأمناء في حمل الشرع وتبليغِه إلى الناس.
وإذا كانت وظيفةُ الرسول هي توصيلَ كلمةِ الله إلى الناس وإرشادهم بالقول والفعل والإقرار، إلى ما فيه من النفع في الدنيا والآخرة، كان لزامًا أن يكون قدوةً حسنةً في كل ما يصدُرُ عنه، وألاَّ ينطِقَ إلا بكلمة السماء، ولن يكون كذلك إلا بالعصمة الباطنية من الحقد والغِل والكبرياء والحسد والرياء والشح... إلخ، والعصمة الظاهرية من الذنوب؛ مثل الشرك، والكذب، والقتل، وشرب الخمر، والزنا... إلخ.
ولعلك تسأل: ما هي العصمة؟
ونجيبك بأنها: حفظُ الله ظواهرَ الرسلِ وبواطنَهم من ارتكاب منهيٍّ عنه، أو ترك مأمورٍ به.
أو هي: لطفٌ من الله سبحانه وتعالى، يجعل الرسل يتَّجِهون إلى فعل الخير، ويبتعدون عن فعل الشر.
ولا يعني الحفظُ أو اللطف أنهم عليهم السلام مجبورون، بل يعني أن استعدادَهم كامل في التمييز بين الخير والشر، وأن مراقبتهم لله في أعمالهم متحقِّقة مع كل نبضة من نبضات القلب؛ فهم يتحرَّكون دائمًا في دائرة الإحسان، التي بيَّنها رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان، فقال: ((أن تعبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))؛ رواه البخاري ومسلم.
ومَن كان أمره كذلك، كان اتِّجاهُه بالعقل والقلب معًا في كل قول أو فعل أو إقرار ملازمًا لأوامرِ الله، ومبتعدًا عن نواهيه.
ونأتي إلى سؤال: هل الأنبياء معصومون قبل البعثة وبعدها من الصغائر والكبائر؟
لعلماء المسلمين مواقفُ متعدِّدة، إلا أنهم يُجمِعون على عصمة الأنبياء من الشرك والكذب، وما يُشعِر بالخسَّة؛ كالزنا والسرقة، وكل ذلك قبل البعثة وبعدها، وجوَّز بعضهم فيما عدا ذلك من الكبائر والصغائر قبل البعثة.
يقول السنوسي:
"أما حكمها قبل النبوة، فالذي ذهب إليه أكثر الأشاعرة، وطائفة كثيرة من المعتزلة، إلى أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل البعثة معصيةٌ كبيرة أو صغيرة"، ولعلنا لا نميل إلى مثل هذا الرأي الأخير، ونرى أن رسلَ الله معصومون عن الكبائر مطلقًا قبل البعثة وبعدها، عمدًا أو سهوًا.
أما الصغائر، فإن كانت مُشعِرةً بخسَّة أو تؤدي إلى نفور، فهم معصومون منها قبل البعثة وبعدها، عمدًا أو سهوًا، وإذا لم تكن مُشعرةً بخسَّة فهم غير معصومين منها قبل البعثة عمدًا أو سهوًا.
أما بعدها، فهم معصومون منها عمدًا، ويجوز الوقوعُ فيها على سبيل النسيان أو الخطأ في التأويل، وإذا حدث مثلُ هذا، فإن المُشرِّع الحكيم يُوجِّههم إلى الطريق الصحيح، ويُذكِّرهم بما وقعوا فيها من نسيان.
بعض الآيات التي يُشعِر ظاهرها ما يخالف عصمة الأنبياء:
وقد وردت آيات في القرآن الكريم يُشعِر ظاهرُها أن الأنبياء قد وقَعوا في بعض الذنوب، فلنتأمل فيها لنقف على حقيقة الأمر!
أولاً: ورد في حق آدم عليه السلام أنه أُمِر بعدم الأكل من شجرة معينة، إلا أنه بعد وسوسة الشيطان خالف الأمر، وبذلك صار عاصيًا، ورجع إلى الله بالتوبة، فقبِِلها منه، وهذا يؤكد وقوعَه في ذنب، والذنوب تخالف العصمة.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 35 - 37].
ويقول سبحانه: ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121].
ويُرَدُّ على هذا: بأن ما حدث من آدم لا يخالف العصمة؛ لأنه كان قبل النبوة؛ حيث لم تكن له أُمَّة بعدُ، ولم يكن في أمر تشريعي، ومثل هذا يعتبر صغيرة، ولقد سماه الله سبحانًا عصيانًا لِمَا سيكون من شأن عظيم لآدمَ فيما بعد، وما صدر عنه عليه السلام كان نتيجة للنسيان، والذي يؤكد هذا قولُه سبحانه: ﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، ولقد غفر اللهُ له هذا الذنب الصغير، ثم جعله نبيًّا؛ يقول تعالى: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 122].
ثانيًا: ورد أن نوحًا عليه السلام طلب من ربه أن يُنجِّي ابنه قائلاً: ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ [هود: 45]، فأجابه سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [هود: 46].
يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 45 - 46].
ويُرَدُّ على هذا: بأن نوحًا عليه السلام لم يكذِب على ربه، وأن من يطلب إنجاءه هو ابنه من صُلبه، وقد ردَّ الله عليه سبحانه وتعالى بما يفيد أنه ليس من أهلك الذين وعدتُك أن أُنَجِّيهم معك، أو هو ليس من أهل دينك، بل هو كافر مستحق للعقوبة.
ثالثًا: وردت آيات في حق إبراهيم عليه السلام، ربما فُهِم من ظاهرها تردُّده في الاعتقاد؛ حيث اعتقد ألوهية الكوكب، ثم رجع عنه إلى اعتقاد ألوهية القمر، فلما طلَعت الشمس ورآها أكبَرَ، اعتقد ألوهيتَها، وهذا التردد في الاعتقاد يفيد الشرك، والشرك من الكبائر التي أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء منها، ثم إنه تبَرَّأ بعد ذلك من كل هذه الأشياء، واعتقد ألوهية الواحد الأحد سبحانه؛ يقول عز وجل: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 76 - 79].
ويُرَدُّ على هذا: بأن إبراهيم عليه السلام يعتقدُ يقينًا بوجود الله، وبأنه سبحانه متَّصفٌ بكل كمال، ومنَزَّه عن أي نقص، إلا أن البيئة التي تُحِيط به تعبدُ الأصنام والكواكب، ولقد أراد عليه السلام أن يهديَهم إلى الله الحق، فتظاهر بالتسليمِ لهم بأن ما يعبدونه آلهةٌ، ثم أخذ يُبيِّن لهم بطلان اعتقادهم بالتدريج، فالإله لا يتغيَّر، وما يعبدونه يتغير، والإله لا يَغِيب وما يعبدونه يغيب، والإله ليس بحادثٍ وما يعبدون حادث.
وما قام به إبراهيمُ عليه السلام من التظاهر بالتسليمِ للخَصْم، ثم مناقشته لبيان بطلان اعتقاد هذا الخصم - لا يتنافَى مع العقل في عصرنا الحديث، وليس فيه أي شرك، بل هو توجيه عقلي للإيمان بالله، وبتفرده بالكمال المطلق، وتنَزُّهه عن الحوادث.
رابعًا: ورد أن إبراهيم عليه السلام أقسَم ليُحطِّمن الأصنام، وفعلاً حطَّمها إلا الصنم الكبير، فقد تركه بعد أن وضع على كتفه المِعْوَل، وحين أتى القوم هالَهم ما رأَوا، ثم سألوا إبراهيم عن الذي حطَّم آلهتهم، فأجابهم بأن الذي حطَّمها هو كبير الأصنام، وطلب منهم أن يسألوه، وعلى هذا فقد وقع إبراهيمُ في الكذب؛ حيث قال ما ليس بحق، والكذب من الكبائر التي تتنافَى مع عصمة الأنبياء.
يقص القرآن هذا الحادث، فيقول: ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 58 - 63].
ويُرَدُّ على هذا: بأنه عليه السلام لم يكذب؛ لأنه لم يقصد إسناد الفعل إلى الصنم حقيقةً، بل إلى نفسه، وإنما أراد الاستهزاءَ والسخرية بهم، والتعريض بضَعْف فِكرهم واعتقادهم، وإعلامهم بأن الأصنام لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تملِك الدفاع عن نفسها، وكأنه عليه السلام أراد أن يقولَ لهم: إذا كان عندكم شكٌّ في أن الأصنام لا تملِكُ شيئًا، فارجعوا إليها واسأَلوها.
ولهذا يحكي القرآن عودتَهم إلى أنفسهم وإحساسهم؛ لتأكُّدهم أن الأصنام لا تنطق؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 64، 65].
خامسًا: ورد أن إبراهيم طلب من الله أن يُرِيَه كيف يُحْيِي الموتى، وهذا يُشعِر بشك إبراهيم في قدرة الله على الإحياء، وشك الأنبياء يتنافى مع عصمتهم؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
ويُرَدُّ على هذا: بأن إبراهيم يعلم علم اليقين أن الله قادرٌ على الإحياء، ولكنه يريد أن ينتقل من علم اليقين - أي المبنيِّ على الاستدلال - إلى عينِ اليقين أي المبنيِّ على المشاهدة.
أيضًا فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]))، فجعل صلى الله عليه وسلم ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم شكًّا، وإن كان إبراهيم موقنًا ليس عنده شكٌّ يقدحُ في يقينه؛ ولهذا لَمَّا قال له ربُّه: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75].
سادسًا: ورد في حقِّ يوسف عليه السلام أن امرأةَ العزيز هَمَّت بارتكاب الفاحشة معه، وهم هو أيضًا، وهذا يتنافَى مع القول بعصمة الأنبياء؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24].
ويُرَدُّ على هذا: بأن الذي يَجرِي في النفس له مراتب خمس:
الأولى: الهاجس، وهو ما يمرُّ سريعًا على نفس الإنسان.
والثانية: الخاطر، وهو ما يبقى في النفس ويتحرك فيها قليلاً.
والثالثة: حديث النفس، وهو التردُّد بين الفعل أو الترك.
المرتبة الرابعة: الهمُّ، وهو توجُّه النفس نحو الفعل، والميل إليه.
وهذه المراتب الأربع لا يتناولُها التكليف، ولا يؤاخذ عليها الإنسان، وإنما يؤاخذ ويقع تحت التكليف إذا انتقل من المرتبة الرابعة ودخل في المرتبة الخامسة، وهي: العزم والتصميم، ويوسف عليه السلام بحُكم طبيعته البشرية - ولكونه قبل البعثة - دخل مرحلة الهمِّ، إلا أنه لم يتجاوَزها، فلا شيء عليه إطلاقًا؛ فهمُّ يوسف كان همَّ خطرات؛ ولذلك لم يفعَل شيئًا من الحرام، بخلاف همِّ امرأة العزيز الذي كان همَّ إصرارٍ؛ ولذلك فعَلَت ما قدَرت عليه من الحرام؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنةٍ ولم يعمَلها كتبتُها له حسنة، فإن عمِلها كتبتُها عشرَ حَسَناتٍ إلى سبعِمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعمَلها لم أكتُبْها عليه))؛ رواه مسلم عن أبي هريرة.
سابعًا: ورد أن موسى عليه السلام حينما دخل المدينة مستخفيًا وجَد رجلينِ يقتتلان؛ أحدهما من شِيعته من العِبريين، والآخر من المِصريين، وحينما استغاث به الذي من شِيعتِه على الذي مِن عدوِّه، قام موسى بدَفْع المصري بكفِّه المضمومة الأصابع، فسقط الرجل قتيلاً، وعلى هذا يكون موسى عليه السلام قاتلاً، والقتل كبيرةٌ تتنافَى مع القول بالعصمة، وقد اعترف موسى بأنه ظلم نفسه بقتله للرجل، والظلم كبيرة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 15، 16].
ويُرَدُّ على هذا:
بأن ما حدث كان قبل النبوة، وأن ما فعله موسى في الرجلِ هو الوكزُ، وهو الدفع والضرب بالكف المضمومة الأصابع، وهذا لا يقتلُ غالبًا، فلم يقصِد موسى عليه السلام قتلَه، وإنما قصد دفعَه بعيدًا عن الآخر، إلا أن أجل الرجل حان في هذا الوقت، ومثل هذا يُعتَبر من الصغائر التي تحدُثُ قبل البعثة،، ولا تتنافَى مع عصمة الأنبياء.
وقد وصَف موسى نفسَه بالظلم لإحساسه بترك الأَولى؛ فقد كان من الأَولى أن يترفَّق بالرجل، ويدفعه بالكلام لا باليد.
ثامنًا: ورد في حق محمد صلى الله عليه وسلم قولُه سبحانه وتعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7]، وظاهر الآية الكريمة أشعر بعض الناس أنه عليه الصلاة والسلام ارتكب بعضَ الذنوب التي تُخلُّ بالعصمة.
ويُرَدُّ على هذا: بأن الضلال يراد به إما ضلال الشرك، وإما ضلال الهوى، وإما ضلال الطريق، والرسول صلى الله عليه وسلم مبَرَّأ عن الشرك وعن الهوى، بقي ضلالُ الطريق؛ فهو عليه الصلاة والسلام نشأ في بيئة جاهلية تعبُدُ الأصنام في جانب، وفي جانب ثانٍ تقول بألوهية المسيح، وفي جانب آخر تدَّعي أن عُزيرًا ابنُ الله، ولطُهرِه وحبِّه للخير كان يتمنَّى هداية هؤلاء الضالين عن الحق، إلا أنه لا يعرف المنهج أو الطريق الذي يسلكه لهدايتهم؛ ولهذا ظل متحيِّرًا، وآثَر التحنُّث وحدَه في الغار، بعيدًا عن التخبط الجاهلي، وكلما رجع إلى القوم فزِع، وازداد حيرةً في بحثه عن طريقٍ لهدايتهم، وظل الأمر كذلك إلى أن جاءه جبريلُ عليه السلام بالمنهج الرباني، والطريق الحق الذي استطاع به إخراج الناس من ظلمات الجهالة والشرك إلى نور الإيمان والوحدانية.
قال ابن القيم في الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 734):
"... وقد أخبَرَ سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمانَ، كما لم يكن يدري الكتاب، فقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 6، 7]، وتفسير هذه الآيةِ بالآيةِ التي في آخر الشُّورى.
تاسعًا: يقول سبحانه وتعالى ﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ [الشرح: 2، 3]، والفهمُ الظَّاهري للآيتين الكريمتين يُشعِر بأنه عليه الصلاة والسلام ارتكب ذنبًا عظيمًا، وهذا يخالف العصمة.
ويُرَدُّ على هذا: بأن المراد بالوِزْر ما يُحسُّه الإنسان من ثقلٍ عظيم نتيجةً للخوف أو القلق أو المعاناة الشديدة، ولقد فوجئ صلى الله عليه وسلم أثناء تحنُّثه بسيدنا جبريل ينزل عليه ويضمه إليه، ويطلب منه أن يقرأ، ولم يكن لنبينا عهدٌ بجبريل ولا بالقراءة؛ ولهذا انتابه عليه الصلاة والسلام الخوفُ والقلق، وأحسَّ برِعدة في جسمه الشريف، فخرج مسرعًا من الغار، وفي منزله طلب من السيدة خديجة رضي الله عنها أن تُزمِّله وأن تُدثِّره، ومع تَكرارِ نزول جبريل وعِلمه بأنه من عند الله سبحانه وتعالى، شعَر بالأُنس والاطمئنان، وزالت مخاوفه، مَثَله تمامًا مَثَلُ مَن كان يحمِلُ على كاهلِه ما لا يُطِيق، ثم رفع عنه، فإنه يُحِس بالراحة.
وفي بداية الدعوة لم يكن للقوم إِلفٌ بالدين؛ ولهذا تحمل عليه الصلاة والسلام كثيرًا من الإيذاء النفسي والجسدي، وأراد سبحانه وتعالى بعد هذه المعاناة الشديدة هدايةَ القوم.
يقول الفخر الرازي:
"الوزر في أصل اللغة هو الثقل، قال تعالى: ﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4]؛ أي: أثقالَها، وإنما سُمِّي الذنب بالوزر؛ لأنه يُثقِل كاسبه...، وهو عليه الصلاة والسلام كان في غمٍّ شديدٍ؛ لإصرار قومِه على الشرك، وأنه كان هو وأصحابُه فيما بينهم مستضعَفين، فلمَّا أعلى اللهُ كلمتَه وعظَّم أمره، وضَع وِزْرَه".
عاشرًا: يقول سبحانه وتعالى: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 2]، يُفِيد الفهمُ الظاهر للنص الشريف أنه حدَثت مغفرةٌ من الله سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام، والمغفرة لا تكون إلا عن ذنبٍ، والذنوب تُخل بالعصمة.
ويُرَدُّ على هذا: بأننا قلنا: إنه يجوز أن يصدر عن الأنبياء قبل نبوَّتِهم بعضُ الصغائر التي لا تُشعِر بخِسَّة، وعلى هذا فإن المراد بما تقدَّم؛ أي: في صباك، وما تأخَّر؛ أي: في شبابك، أو "أن المراد ما تقدم من ذنب أمَّتك وما تأخَّر، فإن الرجل المعتبر إذا أحسَنَ بعضُ خدَمه أو أساء، فإنه يقال له: أنت فعلتَ ذلك، وإن لم يكن هو فاعلَه بنفسه".
وفي تفسير آخر نستريح له: أن المراد بالمغفرة لا مغفرة الذنب، وإنما المغفرة لترك الأَوْلى؛ ففي أسرى بدر مَثَلاً قَبِل صلى الله عليه وسلم الفداءَ؛ طمعًا في هداية القوم فيما بعد، وكان الأَوْلى قتلَهم حتى يذلَّ الكفر؛ ففي هذا الموقف ترَك صلى الله عليه وسلم الأولى، فعاتبه ربُّه سبحانه وتعالى وأعلمه بما كان ينبغي أن يفعله في مثل هذه الحالة، فمن حق الرسول أن يجتهد، لكن المُشرِّع سبحانه يُصحِّح له الاتجاه في حالة ترك الأولى.
وأيضًا فقد انشغل صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم، وهو من المسلمين السابقين، وكان أعمى، جاء يسأله عليه الصلاة والسلام في أمرٍ من أمور الدِّين، انشغل عنه بحديث مع كبير من كبراء قريش، طمَعًا في هدايته للإسلام، فعاتَبه ربه سبحانه وتعالى لتركه الأَولى، وقد سمَّى سبحانه ترك الأَولى بالذنب؛ لأن محمدًا خاتم الرسل، ولا ينبغي أن يصدر عنه مثلُ هذا؛ فعظم الموقف لعظمة صاحبه عليه الصلاة والسلام.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم