اقتباس
ولو زالت عنهم الغفلة وأفاقوا من السكرة وأبصروا الأمر على حقيقته لأدركوا أنهم لا يأكلون إلا النار في بطونهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10]، فهذان ناران؛ نار في الدنيا ونار في الآخرة...
يملك المرء حرية التصرف في ماله ما دام على قيد الحياة، فإذا مات خرج ماله من ملكيته وانتقل إلى وارثه... وما دُمتَ حيًا تُرزق فأنت تملك أن تسحب شيئًا من مالك من يد وارثك وترسله أمامك إلى آخرتك؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟" قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه؛ قال: "فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر"(متفق عليه)؛ إنها -إذن- الصدقة، فهذه فرصة أولى.
وفرصة أخرى سانحة لاستغلال مالك قبل أن يخرج من يدك فيصبح ميراثًا لورثتك؛ وهي أن توصي بثلثه أو أقل في خير، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تصدق عليكم، عند وفاتكم، بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
لكن ما أن يصبح المال ميراثًا بموت صاحبه إلا وتتعلق به حقوق أناس شتى؛ فأولهم الدائنون -إن كان-، وثانيهم المستحقون للوصية -إن كانت-، ثم يأتي بعد ذلك حق ورثة الميت... ولأن حب المال شيء مركوز في الغريزة البشرية، ولأن الطمع والجشع يستولي على قلوب كثير من البشر، ولأن الله -تعالى- أعلم بمن يستحق من الميراث ومن لا يستحق... لكل هذه الأسباب وغيرها لم يترك الإسلام أمر توزيع الميراث لأهواء البشر، إذًا لظلموا وجاروا وتنازعوا وتقاتلوا!... بل نزل القرآن الكريم منظمًا في جلاء ووضوح من يرث ومن لا يرث ونصيب كل وارث: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ...)[النساء: 11]، والآية التي بعدها، ثم عقب عليهما بمكافأة لمن امتثل أمر الله -تعالى-، وبتهديد ووعيد لمن خالفه: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 13-14]...
لكن رغم هذا الوضوح والجلاء في أمر توزيع الميراث، ورغم هذا الحسم والقطع والزجر والتخويف، فإن نفوسًا جشعة شحيحة أبت إلا أن تخالف شريعة ربها، وتأكل حقوق غيرها! فيستولون على ميراث الأخوات والنساء عامة، ويأكلون حق الأيتام، والله -عز وجل- يأمر ويحذِّر قائلًا: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)[النساء: 2]؛ قال ابن عباس: "أي إثمًا كبيرًا عظيمًا"(تفسير ابن كثير).
ولو زالت عنهم الغفلة وأفاقوا من السكرة وأبصروا الأمر على حقيقته لأدركوا أنهم لا يأكلون إلا النار في بطونهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10]، فهذان ناران؛ نار في الدنيا ونار في الآخرة -والعياذ بالله-! وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة" فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وإن قضيبًا من أراك"(رواه مسلم).
ألم يبلغ الذي يأكل ميراث الضعفاء قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، "ومعنى "أحرج": ألحق الحرج، وهو الإثم، بمن ضيع حقهما، وأحذر من ذلك تحذيرًا بليغًا، وأزجر عنه زجرا أكيدًا... لأنهما لا قوة لهما ولا ملجأ إلا إلى الله -تعالى-"(تطريز رياض الصالحين، لفيصل المبارك).
ولو فَقِه لأدرك أنه لا يأكل مالًا حرامًا فحسب، وإنما يقطع الرحم التي أمر الله -تعالى- بها أن توصل، فعقوبته معجلة له في الدنيا قبل الآخرة؛ فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي أكله للميراث بغي على أقاربه، وقطعًا لأرحامهم.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهند
فقل لآكل مال اليتيم: هل ستطعم هذا المال لأولادك؟! هل ستطعمهم سحتًا حرامًا؟! ألم تسمع ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن عجرة، لقد قال له: "يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وليعلم كل من يأكل مال الضعفاء أنه قد يموت ويترك وراءه أولادًا وزوجات ضعفاء، أفيرضى أن يظلمهم الأقوياء ويستولوا على حقوقهم؟! إذن فليتقوا ربهم: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النساء: 9].
***
ولقد نعى القرآن الكريم على آكلي الميراث في كل زمان ومكان قائلًا: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ): "أي الميراث، (أَكْلًا لَمًّا)[الفجر: 19]؛ أي شديدًا، والمعنى: أنه يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون نصيبهم، وقيل: الآكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل أحلال أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره"(تفسير الخازن)، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)[ص: 24].
***
وحري بكل مسلم له مال أن يجعل وصيته مكتوبة مفصَّلة موضحة؛ قطعًا للنزاع وحسمًا للخلاف الذي قد يثور بين ورثته، طاعة لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"(متفق عليه)، إذًا لأغلقنا كثيرًا من أبواب بغي الورثة بعضهم على بعض، ولقللنا النزاع والشقاق فيما بينهم.
وهناك وسائل أخرى تحول دون أكل حقوق الورثة بالباطل، قد وضحها خطباؤنا في هذه الخطب التي نقلناها ها هنا بعد أن أصَّلوا الأمور تأصيلًا ثم فصَّلوها تفصيلًا:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم