يبين الله لكم أن تضلوا (الميراث)

راكان المغربي

2025-01-10 - 1446/07/10 2025-01-20 - 1446/07/20
عناصر الخطبة
1/تحمّل الإنسان أمانة التكاليف 2/اعتناء الإسلام بقضايا الميراث والتركات 3/التحذير من الظلم في الميراث وأكل أموال الورثة 4/من صور الاعتداء على حقوق الضعفاء 5/خطورة تأخير قسمة المواريث 6/شؤم أكل الحرام في الدنيا والآخرة.

اقتباس

فما أعظمَ جهلَ هذا الإنسان! يظنُّ أنه حين ينهبُ من الميراثِ مالاً أو متاعاً أو عقاراً أو غيرَ ذلك، يظن أنه بذلك سيبني مستقبلَه، ويسعدُ في حياتِه، وما يدري الجاهلُ المسكينُ أنه بذلك يُعِدُّ جسدَه لنارِ جهنم...

الخطبةُ الأولَى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فقد عُرضت الأمانةُ على المخلوقات، فبُيِّنت لهم التكاليف، ووُضِّحتْ لهم العواقب.

مَن حملَ الأمانةَ فأدَّاها بامتثالِ الأوامرِ واجتنابِ النواهي فله الثوابُ العظيمُ، ومَن حملها ثم خانها بالمخالفةِ فعليه العقابُ الأليم.

 

أما السمواتُ والأرضُ والجبالُ، فاعتذروا عن المهمةِ، وأشفقُوا من تبعاتِها، واختارُوا السلامةَ فلا لهم ولا عليهم. وأما الإنسانُ فشَمَّرَ عن ساعديه، وقَبِلَ خوضَ الامتحان، وحَمَلَ الأمانةَ بتكاليفِها العظيمة؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].

 

حَمَلَ الإنسانُ الأمانةَ على ظلمٍ فيه وجهلٍ، فكان لا بدّ من ردِعِه عن الظلمِ، وانتشالِه من الجهلِ، وفتحِ أبوابِ التوبةِ في كلِّ مرةٍ يطغى فيها على الإنسانِ ظلمُه وجهلُه؛ وكلُّ ذلك جاءتْ به شريعةُ الإسلامِ الغراءِ؛ (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 89].

 

ومما فصّلَ فيه الكتابُ، وحدَّ حدودَه، قضايا الميراثِ والترِكةِ. حين يموتُ الإنسانُ تاركاً مالاً ومتاعاً، تتطلعُ إليه النفوسُ، وتثورُ بسببِه نوازعُ الظلمِ والجهلِ، فجاءت الشريعةُ بالبيانِ الكاملِ لسدِّ أبوابِ الظلمِ، وقطعِ أسبابِ التنازعِ.

 

قال -سبحانه- في آخرِ سورةِ النساءِ التي بيَّن اللهُ فيها تفاصيلَ الميراثِ: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[النساء: 176]؛ قال السعديُّ -رحمه الله-: " أي: يبيِّنُ لكم أحكامَه التي تحتاجونها، ويوضحُها ويشرحُها لكم فضلاً منه وإحساناً؛ لكي تهتدوا ببيانِه، وتعملوا بأحكامِه، ولئلا تضلّوا عن الصراطِ المستقيمِ بسبب جهلِكم وعدم علمِكم".

 

معاشر المسلمين: الظلمُ في الميراثِ، وأكلُ أموالِ الورثةِ وبخسُ حقوقِهم عادةٌ جاهليةٌ، وسمةٌ شيطانيةٌ، ولغَ فيها كثيرٌ من الناسِ، وتساهلوا فيها ليَعْمُروا بها دنياهم، ويُدَمِّروا بها آخرتَهم.

 

وكم حذرَ اللهُ في كتابِه من هذا العملِ الآثمِ، والجرمِ الكبيرِ؛ فقال -سبحانه-: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا)[الفجر: 19]، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: "هُوَ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ مَالَهُ أَلَمَّ بِمَالِ غَيْرِهِ فَأَكَلَهُ، وَلَا يُفَكِّرُ: أَكَلَ مِنْ خَبِيثٍ أَوْ طَيِّبٍ".

 

فما أعظمَ جهلَ هذا الإنسان!

يظنُّ أنه حين ينهبُ من الميراثِ مالاً أو متاعاً أو عقاراً أو غيرَ ذلك، يظن أنه بذلك سيبني مستقبلَه، ويسعدُ في حياتِه، وما يدري الجاهلُ المسكينُ أنه بذلك يُعِدُّ جسدَه لنارِ جهنم؛ قال -سبحانه- في سياقِ الحديثِ عن الميراثِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء: 10].

 

وإنما خص اللهُ ذِكْرَ اليتامى هنا؛ لسهولةِ التعرضِ لأموالهِم بالنهبِ؛ إذ هم ضعافٌ صغارٌ لا يدرون ما لهم، وقد عدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من السبعِ الموبقاتِ التي توبقُ وتهلكُ دينَ المرءِ ودنياه؛ "أَكْل مَالِ اليَتِيمِ". وقال -سبحانه-: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)[النساء: 2]؛ أي: إثماً عظيماً.

 

ومن أصنافِ الناسِ التي يكثرُ الاعتداءُ على أموالِها: النساءُ؛ لضعفِهن وعدمِ خبرةِ كثير منهن بشؤونِ المالِ والعقارِ، فتجدُ المرأةَ تضعُ ثقتَها في إخوانِها وأقاربِها من الرجال، فيستغلون هذه الثقةَ في الانتقاصِ من حقِّها وهي لا تعلم، أو يتحايلون ويضغطون عليها للتنازل عن شيءٍ منه، أو ينتهبون حقَّها نهباً وهي لا تملكُ حولا ولا قوة.

 

تلك الأمورُ ليست أمثلةً بعيدةً عن الواقع؛ بل هي وقائعُ تحصلُ في مجتمعاتِنا المسلمةِ والله المستعان. ومن يفعل ذلك فقد شابهَ أهلَ الجاهلية، وأحيا ما اندثرَ منها، وخالف أوامرَ الله الصريحةَ في كتابِه؛ كما قال سبحانه: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)[النساء: 7]؛ وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ: اليتيمِ، والمرأَةِ"؛ "أي: أُضَيِّقُ على النَّاسِ في تَضييعِ حَقِّهم، وأُشَدِّدُ عليهم في ذلك، وأحَذِّرُهم من الوُقوعِ في ظُلمِهم".

 

ومن التنبيهاتِ التي يجبُ التنويهُ عليها: خطورةُ تأخيرِ قسمةِ الميراثِ والمماطلةُ في ذلك، فالمالُ الموروثُ صار حقاً لصاحبِه، فيجبُ أن يبذلَ له ويستقرَّ في ملكِه. كما أن في التأخيرِ مدعاة للنسيانِ والتضييعِ، خصوصاً إذا طالت السنين، وماتَ بعضُ الورثةِ فانتقل مالهُم -الذي لم يُقسم- إلى ورثةٍ جددٍ، فيكثرُ الورثةُ، وتزدادُ احتمالياتُ التنازعِ والخلافِ.

 

ولذا فقد وجبتِ المبادرةُ، وحقتِ المسارعةُ في تأديةِ فرائضِ الله ووصيتِه، كما سماها -سبحانه- في كتابِه فقال: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء: 11]، وقال: (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)[النساء: 12]؛ ثم بشَّر -سبحانه- الحافظين لوصيته، وأنذر المُضيّعين لها؛ فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[النساء: 13- 14].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

أما بعد: عباد الله: إن أكلَ الحرامِ وبالٌ على الإنسانِ، ودمارٌ في دنياه وأخراه.

أما دنياه: فالمالُ الحرامُ -مهما كَثُرَ- يمحقُ البركةَ، ويحرِمُ التوفيقَ، ويُغلِقُ على العبدِ أبوابَ السماءِ. ذكر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبَرَ، يمُدُّ يديه إلى السماءِ: يا رب، يا رب، ومطعمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذي بالحرام"، ثم قال: "فأنَّى يُستجَابُ لذلك؟"

 

وأما في آخرتِه: فآكلُ حقوقِ الناسِ سيلقى اللهَ يومَ القيامةِ وهو يحملُها على عاتقِه، -ولو كانَ في الدنيا صوّاماً قوّاماً توّاباً يستغفرُ اللهَ كلَّ يومٍ ألفَ مرة-. وذلك لأنَّ اللهَ لا يقبلُ توبةَ عبدٍ أكلَ حقَّ أحدٍ، حتى يردَّه لصاحبِه. فإن لم يردَّه في الدنيا لقي اللهَ حاملاً إياه يومَ القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطِهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ".

 

والقليلُ المنهوبُ من حقوقِ الناسِ، حسابُه يومَ القيامةِ عسيرٌ شديدٌ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَومَ القِيَامَةِ مِن سَبْعِ أَرَضِينَ"؛ فالشبرُ الذي يستمتعُ به آكلُ الحرامِ اليومَ، سيصيرُ يومَ القيامة سبعَ أرضين يُعذبُ بها.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- يومًا لأصحابه يُصحِّحُ لهم مفاهيمَ الثراءِ والإفلاسِ: "أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟" قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: "إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ".

 

فاللهم اكفنا بحلالِك عن حرامِك، وأغننا بفضلِك عمن سواك.

اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ.

اللَّهُمَّ إِنّا عَائِذونَ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا.

 

المرفقات

يبين الله لكم أن تضلوا (الميراث).doc

يبين الله لكم أن تضلوا (الميراث).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات