اقتباس
وهداية القرآن جامعةٌ للمصالح العاجلة والآجلة، ومحققةٌ لمنافع الدنيا والآخرة: فأما ما يتعلق بالآخرة فالقرآن عرّف العباد بربهم -سبحانه وتعالى-، ودلهم عليه، وبيّن لهم أفعاله وأسماءه وأوصافه، وكشف لهم ما يحتاجون إلى العلم به من الغيب الذي يدفعهم للإيمان والعمل الصالح، وفصّل لهم بداية خلقهم ونهايته، وأعلمهم بمصيرهم بعد موتهم، وأوضح لهم طريق السعادة ليسلكوه، وسبل الشقاء ليجتنبوها، وما ترك شيئًا من دينهم إلا هداهم إليه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ...
إن أهم وصفٍ للقرآن، وأكثره ورودًا في آياته، كونه هدىً يهدي البشرية أفرادًا ودولاً وأممًا لما يصلحها في كل شؤونها، ذلكم الوصف الرباني الذي قُرن بتاريخ نزول القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، وهو أول وصفٍ يقرع الأسماع عند الابتداء في قراءته؛ ففي مطلع سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2].
وهداية القرآن جامعةٌ للمصالح العاجلة والآجلة، ومحققةٌ لمنافع الدنيا والآخرة: فأما ما يتعلق بالآخرة فالقرآن عرّف العباد بربهم -سبحانه وتعالى-، ودلهم عليه، وبيّن لهم أفعاله وأسماءه وأوصافه، وكشف لهم ما يحتاجون إلى العلم به من الغيب الذي يدفعهم للإيمان والعمل الصالح، وفصّل لهم بداية خلقهم ونهايته، وأعلمهم بمصيرهم بعد موتهم، وأوضح لهم طريق السعادة ليسلكوه، وسبل الشقاء ليجتنبوها، وما ترك شيئًا من دينهم إلا هداهم إليه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
وأما ما يتعلق بالدنيا ومعاملة الناس بعضهم لبعضٍ؛ فقد هدى القرآن فيها إلى أحسن السبل وأيسرها وأنفعها، في السياسة والاقتصاد والأخلاق والمطاعم والمشارب واللباس والعلاقات الأسرية والاجتماعية والدولية، في أحكامٍ تفصيليةٍ لبعضها، وقواعد عامةٍ تنتظم جميعها، فلا يقع المهتدي بالقرآن في تخبطات البشر، ولا يجرّ إلى أهوائهم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، وقد جيء بصيغة التفضيل (أَقْوَمُ) لتدل على أنه لا يمكن أن يساوى مع غيره أبدًا، وذكرت الصفة (أَقْوَمُ) ولم يذكر موصوفٌ لإثبات عموم الهداية بالقرآن للتي هي أقوم في كل شيءٍ.
لقد تكرر وصف القرآن بأنه هدىً في آياتٍ كثيرةٍ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2]، (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [النمل:2] (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) [لقمان:3]، (هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ) [غافر:54]، (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:102]، (هَذَا هُدًى) [الجاثيةٌ:11]... ومثلها آياتٌ كثيرةٌ، لكنّ الملاحظ فيها جميعًا أنّ وصف القرآن بالهداية لم يحدّد في مجالٍ معينٍ ولا زمانٍ معينٍ، ولم يذكر له معمولٌ، وإنما كان بهذا الإطلاق والعموم؛ ليدل على أنه هدىً في كل شيءٍ، وأن من اهتدى بالقرآن في أي مجالٍ من مجالات الدنيا والآخرة فإنه يُهدى للأصوب والأقوم والأحسن.
وأكثر ما جاء وصف القرآن بالهداية خُص به المؤمنون أو المتقون أو المحسنون؛ لأنهم قبلوا هداه، وعملوا بمقتضاه، وإلا فالأصل أن القرآن هدىً للناس جميعًا، لكنّ الكفار والمنافقين لمّا لم يرفعوا به رأسًا، واستبدلوا به غيره في الاهتداء لم ينتفعوا باطلاعهم عليه، ولا بقراءتهم لآياته: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت:44]، وفي آيةٍ أخرى ذكر الله تعالى جملةً من أوصاف القرآن، وتأثيره في القلوب، ثم قال سبحانه: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23].
لقد هدى الله تعالى بالقرآن بشرًا كثيرًا في القديم والحديث، ولا زلنا نسمع كل يومٍ قصص المهتدين بالقرآن ممن سمعوه، أو وقع في أيديهم فقرؤوه، ومنهم من قصد قراءته لنقده والطعن فيه، وصرف الناس عنه، فكان من المهتدين به. وللمستشرقين والمثقفين الغربيين أعاجيب في ذلك.
وينبغي لنا -نحن المسلمين- أن نقف طويلاً طويلاً مع قوله تعالى: (إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]؛ فإن في فهم هذه الآية الكريمة وتدبرها جوابًا لكل التساؤلات المطروحة في هذه الأيام عن أسباب السعادة وأسباب الشقاء وأسباب الكوارث والويلات المتلاحقة على المسلمين، وأسباب تقلص الفضائل وفشو الرذائل وظهور الضغائن والأحقاد والتمزق في الأواصر وانقطاع الصلات إلى غير ذلك من التساؤلات، فإن السبب العظيم لحصول كل خير منشود، وتجنب كل شر مخوف، هو الإيمان والعمل الصالح، ومن ذلك اتباع كتاب الله تعالى اتباعًا تامًّا صحيحًا، فما اشتكى المؤمنون مُرّ الشكوى ولا اشتد تألمهم وتوجعهم وعظمت أحزانهم وغمومهم ومصائبهم إلا لأن كتاب الله مهجور غير متبوع إلا ممن رحم الله من عباده، ولو اتبع كتاب الله حق الاتباع لتبدل الحال إلى أحسن الأحوال، فإن الله -عز وجل- تكفّل بذلك، وقال في الآية الخامسة والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام: (وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام:155].
وهذه الآية الكريمة أجمل الله تعالى فيها جميع ما في القرآن العظيم من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبع تفصيلها على وجه الكمال لأتى على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة، هذا القرآن العظيم الذي يهدي للتي هي أقوم والذي هُجر وابتُعد عنه ابتعادًا عظيمًا، أمرنا ربنا -تبارك وتعالى- بأن نتبعه وأن نلتزمه، فإن في اتباعه خير الدنيا والآخرة.
ومن هذا المنطلق انتقينا لخطبائنا الكرام في مختاراتنا لهذا الأسبوع مجموعة من الخطب المختارة حول كون القرآن الكريم كتاب هداية للتي هي أقوم، لنتحدث خلالها حول معنيين: أولهما: كيف أن القرآن الكريم كتاب هداية، يقوم الله تعالى به المعوج من عباده ومن حياتهم، والآخر: أن هدايته هي أقوم هداية، وحكمه هو أصوب وأقوم الأحكام، مشيرين خلال تلك الخطب إلى كيفية كونه أقوم الكتب والأحكام مقارنة بغيره من الأحكام الوضعية والأرضية.
التعليقات