معالم الهداية في القرآن (1)

سعيد بن يوسف شعلان

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ القرآن يعرّف الإنسانية بكل أسباب السعادة 2/ القرآن يحذر من كل أسباب الشقاء والانتكاسة 3/ دلالة القرآن على أنواع التوحيد الثلاثة 4/ تعريف بأنواع التوحيد الثلاثة وشرح موجز عنها

اقتباس

فإن في فهم هذه الآية الكريمة وتدبرها جوابًا لكل التساؤلات المطروحة في هذه الأيام عن أسباب السعادة وأسباب الشقاء وأسباب الكوارث والويلات المتلاحقة على المسلمين، وأسباب تقلص الفضائل وفشو الرذائل وظهور الضغائن والأحقاد والتمزق في الأواصر وانقطاع الصلات إلى غير ذلك من التساؤلات، فإن السبب العظيم لحصول كل خير منشود، وتجنب كل شر مخوف، هو الإيمان والعمل الصالح، ومن ذلك اتباع كتاب الله تعالى اتباعًا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:
 

أما بعد:

فإنه ينبغي لنا -نحن المسلمين- أن نقف طويلاً طويلاً مع قوله تعالى في الآية التاسعة من سورة الإسراء: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]؛ فإن في فهم هذه الآية الكريمة وتدبرها جوابًا لكل التساؤلات المطروحة في هذه الأيام عن أسباب السعادة وأسباب الشقاء وأسباب الكوارث والويلات المتلاحقة على المسلمين، وأسباب تقلص الفضائل وفشو الرذائل وظهور الضغائن والأحقاد والتمزق في الأواصر وانقطاع الصلات إلى غير ذلك من التساؤلات، فإن السبب العظيم لحصول كل خير منشود، وتجنب كل شر مخوف، هو الإيمان والعمل الصالح، ومن ذلك اتباع كتاب الله تعالى اتباعًا تامًّا صحيحًا، فما اشتكى المؤمنون مُرّ الشكوى ولا اشتد تألمهم وتوجعهم وعظمت أحزانهم وغمومهم ومصائبهم إلا لأن كتاب الله مهجور غير متبوع إلا ممن رحم الله من عباده، ولو اتبع كتاب الله حق الاتباع لتبدل الحال إلى أحسن الأحوال، فإن الله -عز وجل- تكفّل بذلك، وقال في الآية الخامسة والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام:155].

ولقد ذكر الله -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، أن هذا القرآن العظيم -الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم وآخرها عهدًا برب العالمين -جل وعلا-: (يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، أي إلى الطريقة التي هي أرشد وأعدل وأصوب.

وهذه الآية الكريمة أجمل الله تعالى فيها جميع ما في القرآن العظيم من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبع تفصيلها على وجه الكمال لأتى على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة، هذا القرآن العظيم الذي يهدي للتي هي أقوم والذي هُجر وابتُعد عنه ابتعادًا عظيمًا، أمرنا ربنا -تبارك وتعالى- بأن نتبعه وأن نلتزمه، فإن في اتباعه خير الدنيا والآخرة.

وسنذكر -إن شاء الله تعالى- جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للتي هي أقوم، بيانًا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، وتنبيهًا ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها الباهرة، وسيتم ذلك على مدى الخطب والجُمع القادمة إن شاء الله وقدر.

ومن ذلك وأول ذلك على وجه الإطلاق مما يهدي إليه القرآن مما هو أقوم -أي أرشد وأعدل وأصوب- توحيد الله في ربوبيته، فإن القرآن فيه هدى للتي هي أقوم، أي للطريقة التي هي خير الطرق وأقومها وأعدلها، وهي توحيده، وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله -جل وعلا- ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: توحيده سبحانه في ربوبيته، وهذا النوع في التوحيد جُبلت عليه فطر العقلاء، الفطر المستقيمة والعقول السليمة، فُطرت على أن الله سبحانه واحد في ربوبيته؛ قال سبحانه في سورة الزخرف: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [الزخرف:87]، وقال في سورة يونس: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [يونس:31].

وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله في سورة الشعراء: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ) [الشعراء:23]، لا يقدح في أن الفطر المستقيمة جُبلت على أن الله واحد في ربوبيته، لا يقدح في ذلك؛ لأنه تجاهُل من عارف أنه عبد مربوب، هو عارف أنه عبد مربوب بدليل قوله تعالى في سورة الإسراء: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ) [الإسراء:102].

وبدليل قوله تعالى في سورة النمل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل:14].

وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله، لا يكفي أن تكون فصيح اللسان حسن العبارة في الاستدلال على توحيد الربوبية بحيث يتمايل الجالسون أمامك عجبًا وسرورًا مما تسوقه من الأدلة على وحدانية الله في ربوبيته، إن لم ينفع هذا النوع في إخلاص العبادة لله لم يُغنِ شيئًا، ولم يُجدِ شيئًا ولا فائدة له ولا منه، ولو كنت تحرك كل ساكن بسبب براعتك وفصاحة لسانك وحُسن بيانك في الاستدلال على توحيد الله في ربوبيته، المهم أن يؤثر ذلك فيك فتكون قويًا بنفس الدرجة في توحيد العبادة، وسيتبين ذلك في الخطبة الثانية إن شاء الله.

والدليل على أن هذا النوع لا ينفع إذا لم يكن معه إخلاص في عبادة الله قوله تعالى في سورة يوسف: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف:106]، (يُؤْمِنُ) وفي آخر الآية: (وَهُمْ مُّشْرِكُونَ)! وجملة (وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) حال، والحال تكون قيدًا لعاملها أو وصفًا له، فكيف يكون الشرك وصفًا للإيمان أو قيدًا له؟! لكن الإيمان الذي أسند إليهم في أول هذه الآية هو الإيمان اللغوي الذي هو مجرد التصديق باللسان وليس الإيمان الشرعي، ولهذا لا تنافي بين العامل والمعمول بين الحال وعاملها لا تنافي؛ لأنهم يقولون: الله خلقنا ورزقنا ودبر أمورنا ويميتنا ويحينا، ثم يعبدون غيره ويلجؤون إلى غيره، ويستغيثون بغيره، ويتضرعون إلى غيره، ويذبحون لغيره... إلى غير ذلك مما كان يفعله أهل الجاهلية.

فوصفوا بأنهم مشركون ولم ينفعهم إيمانهم اللغوي ولم يغنِ عنهم شيئًا، بل لم يغنِ عن إدخالهم في عداد المشركين، والآيات في هذا القسم الأول -توحيد الربوبية- كثيرة جدًّا.

النوع الثاني: توحيده -جل وعلا- في عبوديته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي مركبة من نفي وإثبات: "لا إله" هذا نفي، "إلا الله" هذا إثبات.

فمعنى النفي فيها خلع جميع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها إفراد الله -جل وعلا- وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، العبادات بإخلاص على الوجه الذي شرعه سبحانه على ألسنة رسله -عليهم الصلاة والسلام-.

وأكثر آيات الله في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم، قال سبحانه حاكيًا عن استنكار أهل مكة لعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- للتوحيد عليهم وتعجبهم من ذلك في سورة (ص): (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص:5]، أنتم تقولون: إن الله خلقنا ورزقنا، وتذكرون ما هو دون ذلك مما هو دالٌّ على توحيده في ربوبيته، كيف زلت أقدامكم في هذا النوع الثاني العظيم، واستنكرتم أن يكون الإله واحدًا؟! لأن إيمانهم كما قلنا لغوي فحسب ليس شرعيًا، ليس تأثرًا وانفعالاً وخضوعًا وإذعانًا، لغوي فحسب، لا يُغني ولا يُسمن من جوع.

ومن الأدلة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى في سورة محمد: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد:19]، وقوله في سورة النحل: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل:36] وقوله تعالى في سورة الأنبياء: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].

وقوله سبحانه في سورة الزخرف: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف:45]، وقوله سبحانه في سورة الأنبياء: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الأنبياء:108].

والآيات سوى ذلك في هذا النوع كثيرة كثيرة.

والنوع الثالث: توحيده -جل وعلا- في أسمائه وصفاته: وهذا النوع ينبني على أصلين:

أولاً: تنزيهه -جلا وعلا- عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، تنزيهه عن أن يشابه المخلوقين في صفاتهم لقوله تعالى في سورة الشورى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء) [الشورى:11].

الأصل الثاني: الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أن تؤمن بذلك، أن لا ترد شيئًا من ذلك، إذا وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه بصفة، أو أثبت له رسوله -صلى الله عليه وسلم- صفةً؛ وجب عليك أن تؤمن بذلك، ووجب عليك أن تبتعد كل البعد من التأويل والتحريف أو التكييف أو التمثيل أو التعطيل أو التشبيه، احذر ذلك كله وتلقه بالقبول وأمِرّه على ما جاء عليه.

ليس معنى هذا أن لا يفهم المعنى المندرج تحت الاسم أو الصفة، إنما المعنى قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، فإنه سبحانه في هذا الأصل الثاني الذي ذكرناه قد وصف نفسه بعد أن ذكر (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء) [الشورى:11]، قال: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]. وصف نفسه بأنه سميع بصير، فيقبل هذا ويتم به الإيمان ويقطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، كيف السمع؟! وكيف البصر؟! اقطع الطمع تمامًا عن إدراك هذه الكيفية لأنه سبحانه قد قال في سورة طه: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه:110].

إذا عُرف هذا، فليعرف أن أكثر آيات القرآن الكريم في تقرير التوحيد ونفي ضده. وفقنا الله وإياكم لفهم مراده، وأن نكون من أطوع عباده، وأن نُعد ليوم العرض على الله ما يستحق من زاده.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:
 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإنه يكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بالربوبية على وجوب توحيده في عبادته سبحانه، يقررهم الله -تبارك وتعالى- بأنه هو الرب العظيم، ثم بعد التقرير ينكر عليهم أنهم زلت أقدامهم في توحيد العبادة، ويوجب ذلك عليهم ما داموا قد أقرّوا أنه هو الرب العظيم وذلك كثير في القرآن.

من ذلك قوله سبحانه في سورة المؤمنون: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [المؤمنون:84-85]. أفلا تعقلون وتنتفعون باعترافكم بأن الأرض لله ومن فيها لله، أفلا تنتفعون بذلك في أن توحدوا الله في العبادة أيضًا: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) [المؤمنون:86-87]. أفلا تحذرون عقابه، وتتقون أسباب عذابه.

(قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون:88-89]، كيف تذهب عقولكم وتكون كالمسحورة في عبادتكم معه غيره، إلى غير ذلك مما هو كثير في القرآن.

وإذا قامت الحجج والأدلة على الكفار بسبب اعترافهم بالربوبية فهي على المسلمين أشد قيامًا ونهوضًا.

كيف يسوغ من الذين يدينون بالإسلام الدين الخاتم، دين التوحيد، كيف يسوغ منهم أن تزل أقدامهم في توحيد العبادة، كيف يقبل منهم وقوع ذلك. ما كان ينبغي هذا لأنهم أهل الكتاب وأهل السنة، فينبغي أن يكون رجوعهم واعتمادهم على كتاب الله، وعلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا ينبغي أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا ينبغي أن يضادوا أحكامه -سبحانه وتعالى- بعد أن أسلموا، وإذا كانت الحجج والأدلة أنهض على المسلمين وأقوم عليهم، فإنها على المنتسبين للعلم أشد، أشد قيامًا ونهوضًا، فإن بعض المنتسبين للعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذا تكلم عن توحيد الربوبية تكلم بأفصح لسان وأجود بيان، وأفضل عبارة، وإذا جاء إلى توحيد العبادة زلّت قدمه، وأفتى بما يُضاد كلامه عن توحيد الربوبية.

كيف؟! كيف يفتي بجواز التوسل بأصحاب القبور؟! وكيف يُفتي بما شاكل ذلك من الأمور التي لا تنبغي إلا لله؟! وكيف يُفتي بما يضاد أحكام الحرام؟! أما الحلال فإنهم لا يقولون بضدها، لا يقولون بالحرام في مقابلها؛ لأنهم يفرحون بهذا الحلال ويودون التوسع والتزود والتزيد بهذا الحلال والمباحات، فإنهم لا يقولون عن حلال حرام، إنما يأتون إلى الحرام فيحلونه للناس تطيبًا لقلوب العامة، فيفتون بما هو صريح في معارضة الله تعالى في الكتاب وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء المنتسبون للعلم لهم دخل كبير وتسبُّب عظيم فيما آلت إليه أمور المسلمين وأحوالهم، زلت أقدامهم في هذا القسم والنوع من أنواع التوحيد.

وإذا تكلَّموا عن الربوبية كاد المستمعون يميلون من كلامهم طربًا، فإذا جاؤوا إلى توحيد العبادة رأيتهم أجهل الناس وأخدع الناس وأغش الناس.

ثم العجب كل العجب ممن يتصور أن من أحسن وأجاد في هذا القسم الأول من توحيد الربوبية أنه بذلك قد أصبح جديرًا بالمهابة والتقدير والتعظيم، ولو أخطأ ما أخطأ في توحيد العبادة، مع أن الله -عز وجل- يقول: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 106].

ويقول للذين أقروا بتوحيد الربوبية: (أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)، (أَفَلاَ تَتَّقُونَ)، (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، إلى غير ذلك مما يقوله الله -سبحانه وتعالى- لهؤلاء المقرين بالربوبية.

فالحذر الحذر، والانتباه الانتباه إلى هؤلاء الذين يجيدون أحسن الإجادة عندما يتكلمون عن الخلق والرزق والتدبير والإماتة والإحياء، يتكلمون بأحسن لسان وأفصح بيان، ثم هم بعد ذلك يضادون أحكامه، وتزل أقدامهم في العباد، أليس لله الملك الكامل، والتصرف النافذ والأحكام القدرية الشرعية والجزائية؟! أليس له كل ذلك بمقتضى ربوبيته؟! بلى، له كل ذلك سبحانه، فكيف يُقر له بالربوبية وأنه هو الخالق العظيم الحاكم الملك، ثم بعد ذلك يقع ما يقع من الزلل في توحيد العبادة.

أبدًا، كل ما يفعله العبد على سبيل التعبد لا ينبغي أن يكون إلا لله -عز وجل-، لله وحده.

تعرف أن الله العظيم له ما له من التصرف الكامل والملك النافذ ثم تحيد عنه إلى مخلوق ضعيف، أيقنت بأنه لا يصلح شأنه ولا يُفلح إلا بتوفيق الله له؟!

تُعرِضُ عن الملك صاحب الملك الكامل والتصرف النافذ إلى مخلوق ضعيف، بل قد يكون ميتًا أيضًا، هذا أمرٌ عجيب يستدعي غاية العجب وغاية الاستنكار.

والحزن أيضًا على المسلمين الذين كان ينبغي أن يميزهم عن غيرهم أنهم يفردون الله -جل وعلا- وحده بعبادتهم، لا يشركون معه شيئًا لا في نيَّة ولا في عمل سبحانه.

ثم إن الناس بعد ذلك يتعجبون من الكوارث والمصائب، وما يحيق بهم، ويحارون كيف يدينون بالإسلام ثم لا يجدون من الله -تبارك وتعالى- النصر والتأييد، الذي كان للمسلمين الأوائل.

أين النصر والتأييد والعون والتوفيق؟! تخلَّف ذلك لما نقص العباد من حقوق العبودية ما نقصوا، نعم، إن الله تعالى يقول في الآية السادسة والثلاثين من سورة الزمر: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر:36]، هو حسبه وكافيه سبحانه.

فدل ذلك على أن الكفاية الكاملة التامة من الله سبحانه لعبده تكون كاملة تامة كلما كان أقوم بحقوق العبادة، وينقص من هذه الكفاية بما نقص العبد من حقوق هذه العبادة، فكلما كان أتم عبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم، وما نقص من حقوق العبادة نقص من الكفاية بحسبه، يقول الله -عز وجل- في سورة الأنفال: (يَـاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]. هو كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين.

ويقول في سورة الطلاق: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، كافيه، لكن هذا لمن يتوكل ويقوم بحقوق العبودية، كلما كان لها أقوم كانت كفاية الله له أكمل وأتم.

فيا أيها الباحثون عن السعادة: هلا عرفتم طريقها فسلكتموه؛ حتى لا تلوموا بعد ذلك إلا أنفسكم إن لم تحصل لكم؛ لأنكم حينئذ إذا عرفتم طريقها وسبيلها فلم تسلكوه ولم تحصل لكم؛ وجب عليكم أن لا تلوموا إلا أنفسكم.

وجب عليكم أن تكفوا عن هذا اللوم الذي هو أشبه بالاعتراض على قضاء الله -تبارك وتعالى- وقدره.

ثم إني أختم هذه الخطبة بتذكيركم بأنه قد مضت سنة أخرى من سنين عمرنا، فخذوا من تصرّم الأيام والشهور والأعوام عبرة وانتبهوا، انتبهوا إلى ما مضى من عمركم مضيعًا فاندموا عليه وتوبوا، وانتبهوا إلى ما هو آتٍ، واعزموا عزمًا أكيدًا على أن تصلحوا فيه وأن لا تنسحب الأيام من بين أيديكم وأنتم مقيمون عليه من العصيان، ليس منا أحد يعرف هل يعيش إلى أن يبلغ هذه السنة إلى آخرها أو أنه يموت بعد ساعة منها أو قبل دخولها: (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان:34].

فلا يعلم أحد متى يموت، ولا أين يموت، وإنما ينفعكم غاية الانتفاع في صلاح أموركم وشؤونكم أن لا تنسوا أنكم عبيد لله -تبارك وتعالى-.

وعلى العبد أن يقوم بما يوجبه عليه سيده، فلو كانت حياتكم لله ما ضركم أن يأتي الموت اليوم أو غدًا أو بعد غد.

فليأت في أي وقت قدّره الله -عز وجل-، فحياتنا لله، وصلاتنا ونسكنا لله، ومحيانا ومماتنا لله، وكل أمورنا لله، ليأت الموت وقت ما قدره الله تعالى إذن.

وإنما يضرنا غاية الضرر أن ننسى أننا عبيدٌ لله -عز وجل-، وينسينا هذا الأمر تشاغلنا بأمور حياتنا، تشاغلنا بحظوظ أنفسنا وشهواتها العاجلة، فإنها تُلهي وتُنسي وتشغل عن تذكر ما خُلقنا من أجله ألا وهو عبادة الله الواحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه.
 

 

 

 

 

المرفقات

الهداية في القرآن (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات