اقتباس
فهؤلاء الكهان والعرافين خطر عظيم على الجهلاء والبسطاء من المسلمين؛ فإنهم يُلَبِّسون عليهم دينهم ويخرجونهم من نور التوحيد الخالص إلى غياهب الإشراك بالله -والعياذ بالله-، فمن المقرر المعلوم المتفق عليه الذي أجمعت عليه الأمة كلها أنه: لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له...
شك أناس جهلاء ينتسبون إلى الإسلام في أن الله عالم الغيب وحده لا شريك له؛ فقالوا: إن غير الله يعلم الغيب!! -حاشا لله وتعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-... وهم دومًا يحتجون لذلك بفعل الكاهن أو العراف أو الدجال أو المشعوذ الذي زاروه فأخبرهم بشيء من الغيب سيحدث في المستقبل، فراحوا يرتقبون ساعات أو أيامًا وإذا بما وصفه لهم الكاهن يتحقق كما قال!... ويحتجون بأنهم فقدوا مالًا أو ذهبًا في يوم من الأيام فذهبوا إلى ذلك الكاهن فما أن دخلوا عليه حتى أخبرهم بأسمائهم وأسماء أمهاتهم مع أنهم يلقونه لأول مرة! والأغرب أنه يخبرهم بمكان المال أو الذهب فيجدونه فيه كما أخبرهم تمامًا! فتكون النتيجة أنهم يفتتنون به ويكبرونه ويعظمونه ويعتقدون أنه يعلم الغيب أو على الأقل يعلم ما يريده من أمور الغيب!
وهو ما كان يحدث لأقوام في صدر الإسلام فيوضح لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمر ويكشفه ويفسره؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهـا- قالت: سأل أناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليسوا بشيء" قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"(متفق عليه).
ومن أين يأتي الجني بهذه الكلمة التي يقرها في أذن الكاهن؟ يجيبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدَّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء"(رواه البخاري).
***
فهؤلاء الكهان والعرافين خطر عظيم على الجهلاء والبسطاء من المسلمين؛ فإنهم يُلَبِّسون عليهم دينهم ويخرجونهم من نور التوحيد الخالص إلى غياهب الإشراك بالله -والعياذ بالله-، فمن المقرر المعلوم المتفق عليه الذي أجمعت عليه الأمة كلها أنه: لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له، يقول -عز من قائل-: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل: 65]، ويستنكر القرآن قائلًا: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)[آل عمران: 179]، ويقول -سبحانه وتعالى- في موضع ثالث: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)[الأنعام: 59]، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر"(رواه البخاري)، وهو قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان: 34].
حتى سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أُمِر أن يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)[الأعراف: 188]، كما أُمِر نبي الله نوح -عليه السلام- أن يقول: (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)[هود: 31]... ولا الجن كذلك يعلمون الغيب، فهذا القرآن يقول عن نبي الله سليمان-عليه السلام- والجن المسخرين له: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)[سبأ: 14]؛ لكنهم لا يعلمونه.
أما الاستثناء في قوله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)[الجن: 26-27]، فإنما يُقصَد به المعجزات الدالة على نبوتهم؛ يقول الخازن: "يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب؛ حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات، فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته"، ويقول القرطبي: "إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات"... هذا، ولا يقال لمن أطلعه الله على شيء من الغيب: أنه يعلم الغيب، بل الغيب لله وحده يبدي منه ما يشاء، ويخفي منه ما يشاء، فما أبدى من شيء لم يعد غيبًا.
***
وحمايةً لجناب التوحيد فقد أغلق الإسلام هذا الباب الخطير من الإشراك؛ الذي هو إتيان الكهان والدجالين والعرافين والمشعوذين، فبداية حرَّم نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- ما يعطى لهم من الأجرة، فعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن"(متفق عليه).
بل حرَّم الذهاب إليهم من الأصل؛ فمن أتاهم فصدقهم في علمهم للغيب فقد كفر، والدليل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه فيما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-"(رواه الحاكم في المستدرك)... وأما من أتاهم فضولًا أو مجرِبًا ومختبِرًا، فلا تقبل صلاته أربعين ليلة، هكذا حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"(رواه مسلم).
وعلى كلا الحالين فإن إتيانهم من أمور الجاهلية التي حرَّمها دين الإسلام، فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله أمورًا كنا نصنعها في الجاهلية؛ كنا نأتي الكهان، قال: "فلا تأتوا الكهان"(رواه مسلم).
***
وقد انتبه خطباؤنا النابهون بهذا الأمر وأولوه عناية خاصة في خطبهم، وهذا شيء منها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم