اقتباس
والجنة مغلقة الأبواب حتى يفتحها رسولنا -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"...
هو من النفس أغلى، ومن الروح أثمن، ومن الوالدين أولى، ومن الزوجة أعز، ومن المال أبقى... إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد الأولين والآخرين وخاتم المرسلين: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)[الأحزاب: 40]، وهو بنا رءوف رحيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]، فهو أولى بنا من أنفسنا بأنفسنا: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)[الأحزاب: 6].
ولقد زكى اللهُ -تعالى- عقلَه فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النجم: 2]، وزكى علمه فقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)[النجم: 5]، وزكى نطقه فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)[النجم: 3]، وزكى بصره فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)[النجم: 17]، وزكى قلبه فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)[النجم: 11]، وزكى ذِكْره فقال: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح: 4]، وزكى خلقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]... فما ترك شيئًا فيه إلا زكَّاه وشرَّفه.
ونادى الله -تعالى- أنبياءه جميعًا بأسمائهم المجردة فقال: (يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)[البقرة: 33]، (يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)[هود: 76]، (يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ)[القصص: 31]، (يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)[هود: 48]... إلا نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد ناده بـ: (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)، و(يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، و(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ)، و(يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ)... حتى لما ذكره باسمه قرن به شرف الرسالة: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)[الفتح: 29].
وهو -صلى الله عليه وسلم- سيد البشرية جمعاء وأوَّلها في كل فضيلة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع"(متفق عليه).
وهو -صلى الله عليه وسلم- حامل اللواء الذي تنضوي تحته جميع الأنبياء، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "...وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي"(رواه الترمذي).
وقد خصه الله -عز وجل- بما لم يعطه أحدًا سواه، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"(متفق عليه).
وهو -صلى الله عليه وسلم- صاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود، حيث يقول كل نبي: "نفسي نفسي"، ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "أنا لها"، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا، كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود"(رواه البخاري).
وهو -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن -عز وجل-، فعن عبد الله بن مسعود يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله -عز وجل- صاحبكم خليلًا"(رواه مسلم).
ولقد كان وجوده -صلى الله عليه وسلم- أمانًا للأمة؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- القائل: "...وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون"(رواه مسلم).
والجنة مغلقة الأبواب حتى يفتحها رسولنا -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"(رواه مسلم)، وعند الدارمي: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها"، قال أنس: كأني أنظر إلى يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركها(رواه الدارمي، وصححه الألباني)، وفي لفظ لابن حبان: "أنا أول من يقرع باب الجنة".
وهو -صلى الله عليه وسلم- معروف للأنبياء وبه يشروا؛ فعن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام"(رواه البيهقي، وصححه الألباني).
ومولده -صلى الله عليه وسلم- وبعثته وحياته ومماته نعمة ورحمة للعالمين، يقول الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]، وكفى ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القرآن الكريم: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[العنكبوت: 51].
ثم كفاه -صلى الله عليه وسلم- شرفًا أن الجليل -سبحانه وتعالى- قد أقسم بحياته قائلًا: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر: 72]، وأنه -تعالى- قد سارع في رضا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)[البقرة: 144]، ووعده بما يرضيه: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5].
***
وللنبي الأعظم والرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم- حقوق في رقاب أمته، فمن تلك الحقوق:
أولًا: تصديقه -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر عنه، والإيمان بكل ما أتى به: وهذا شرط من شروط النجاة من النار؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"(رواه مسلم).
ثانيًا: طاعته -صلى الله عليه وسلم- والتسليم لأمره: وهو أمر الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 33]، وطاعته -صلى الله عليه وسلم- من طاعة الله -تعالى-، ففي الصحيحين: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله"، وهي شرط لدخول الجنة: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"(رواه البخاري).
ثالثًا: محبته -صلى الله عليه وسلم- أكثر من كل شيء إلا الله: فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"(متفق عليه)، بل وأحب إليه من نفسه التي بين جنبيه؛ فعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر"(رواه البخاري)، يعني: الآن كَمُل إيمانك.
رابعًا: نصرته -صلى الله عليه وسلم- واحترامه وتوقيره: فقد أمر الله -تعالى- قائلًا: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)[الفتح: 9]، وقائلًا: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)[النور: 63]، وقد جعل القرآن مجرد رفع الصوت في حضرته -صلى الله عليه وسلم- معصية محبطة للعمل فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[الحجرات: 2-4]، وهذا تعليم للأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، ومع سنته بعد وفاته.
خامسًا: الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- كلما ذُكر اسمه: تلبية لأمره -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، و"البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي"(رواه الترمذي).
ثم مكانته -صلى الله عليه وسلم- لا يستطاع وصفها، وحقوقه لا يُدرَك حصرها، قد ذكرنا هنا بعضها، وفيما يلي من الخطب القيمة طرفًا منها، ولن يحيط كل ذلك بعُشر معشارها، وإنما هو جهد المقل وفتح للباب وذكرى للمؤمنين.
التعليقات