اقتباس
والمسلم مضطر في حياته على هذه الأرض أن يتعامل مع جميع أصناف البشر؛ مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، لينهم وصعبهم، مخلصهم ومنافقهم، سهلهم وعنيدهم، ذكيهم وغبيهم، وقد يكون احتكاكه بهم عند تباين أحوالهم؛ في الرضا والغضب، وفي السعادة والحزن، وفي الإقبال والإدبار... وإذا حدث التعامل والتخالط وقع الخلاف والتنازع والتصادم وربما التقاتل...
لما خلق الله -عز وجل- البشر جعلهم أشكالًا وألوانًا وأصنافًا؛ فمنهم الأبيض والأسود والأحمر، ومنهم الطويل والقصير، ومنهم البدين والنحيف، ومنهم من يتكلم العربية أو الهندية أو الإنجليزية...: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)[الروم: 22].
ولم يقتصر الاختلاف بين البشر على المظاهر الخارجية والعوارض المتغيرة فقط، بل تجاوز ذلك بكثير؛ إلى حيث القلوب والعقول والنيات والمقاصد والطاقات والإمكاينات، وترتب على ذلك اختلافهم الأكبر في المذاهب والنحل والديانات: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[المائدة: 48]، ولهذا حكمة إلهية أرادها الله -عز وجل-؛ إذ يقول -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[هود: 118-119]؛ قال الحسن وعطاء: "وللاختلاف خلقهم"(تفسير الخازن)، يقول ابن كثير: "أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم"(تفسير ابن كثير).
والمسلم مضطر في حياته على هذه الأرض أن يتعامل مع جميع أصناف البشر؛ مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، لينهم وصعبهم، مخلصهم ومنافقهم، سهلهم وعنيدهم، ذكيهم وغبيهم... وقد يكون احتكاكه بهم عند تباين أحوالهم؛ في رضاهم وغضبهم، وفي سعادتهم وحزنهم، وفي إقبالهم وإدبارهم... وإذا حدث التعامل والتخالط بين المسلم وهؤلاء البشر بمشاربهم المتباينة فالأمر عرضة لأن يقع بينهم الخلاف والتنازع والتصادم بل والتقاتل.
ولقد قدَّم لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- المنهاج الأسمى والأرقي والأتقى والأنسب في التعامل مع جميع أنواع وأصناف البشر، فعلمنا التعامل مع المخطئين والشاردين والمجاهرين والمبتدعين من المسلمين، ثم قدَّم لنا كذلك منهج التعامل مع الخبثاء الماكرين من المنافقين، ومع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومع الكفار والمشركين عمومًا ممن يخالفوننا في العقيدة والدين، ومع غيرهم ممن تطأ أقدامهم هذه الأرض التي نحيا عليها.
***
أما من أخطأ من المسلمين، فقد جاءت وقائع السيرة النبوية من أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقدِّم لنا منهجية التعامل معهم؛ فرأينا ماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الأعرابي الذي تبول في المسجد، ومع معاوية بن الحكم السلمي الذي شمَّت عاطسًا في الصلاة، ومع الشاب الذي طلب الإذن في الزنا، فهذان علَّمهم -صلى الله عليه وسلم- برفق لأنهما كانا من الجهلاء.
ورأينا كيف غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أطال معاذ الصلاة على الناس حتى كاد أن يفتنهم، وكذلك لما جاء ثلاثة من الشباب فسألوا عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم عزموا على عدم الزواج وعدم النوم بالليل وعلى الصيام أبدًا!
ثم رأينا كيف تجاوز النبي -صلى الله عليه وسلم- عن زلة حاطب بن أبي بلتعة لما أراد إخبار المشركين بقدوم المسلمين لفتح مكة، بسبب أن قد شهد بدرًا.
ثم عايشنا كيف تعامل -صلى الله عليه وسلم- مع الأنصار بعد توزيع غنائم حنين، لما كثرت فيهم القالة حتى قال بعضهم: " يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعطي قريشًا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم"(رواه البخاري)، وعند أحمد أنهم قالوا: "لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه".. وكيف جمعهم وحدهم، وخصهم بحديث قلبي ودود، حتى بكوا وخضعوا، فدعا لهم ولأولادهم وأحفادهم...
أما أهل البدع، ممن لم تُخرجه بدعته من الدين، فقد علَّمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نتجنب بدعته، ونتمسك بسنته -صلى الله عليه وسلم-: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وللتعامل معهم أصول، منها: بغض بدعهم، ومنها: عدم الاستماع لكلامهم ولا التعرض لشبهاتهم، ومنها: هجرهم وعدم بدئهم بالسلام، ومنها: الإنكار عليهم...
***
وفي المقابل عاينا ما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع ذي الخويصرة، الذي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اعدل، فرد عليه قائلًا: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل"(متفق عليه).
ومع رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، الذي قال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، فأراد عمر أن يقتله، فنهاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذاكرًا الحكمة: "لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه"(متفق عليه)؛ لأنه في الظاهر منهم.
***
ثم علَّمنا ديننا القواعد العامة في التعامل مع الكفار عمومًا، ومنها: العدل معهم: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
ومنها: دعوتهم إلى الإسلام: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعليٍّ: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم"(متفق عليه).
ومنها: التبرؤ من عقيدتهم وعدم موالاتهم: اقتداءً بالخليل إبراهيم وقومه: (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)[الممتحنة: 4].
ومنها: مخالفتهم وعدم التشبه بهم: فقد حذَّرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "من تشبه بقوم فهو منهم"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ومنها: الإحسان إلى المحتاج منهم: فلما استفتت أسماء بنت أبي بكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ أجابها: "نعم؛ صليها"(متفق عليه).
ثم بيَّن لنا الإسلام أن الكفار ليسوا جميعًا سواء؛ بل هم أصناف وأنواع، ولكل صنف منهم معاملته الخاصة به، فوق ما ذُكر:
فمنهم: المحاربون: وإننا وإن أُمرنا بالغلظة عليهم: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 73]، فإنه يحرم علينا التمثيل بجثثهم: فعن بريدة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا"(رواه مسلم).
كما يحرم علينا الغدر بهم وخيانة عهودهم، (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)[التوبة: 4]، ولنا أن نسالمهم إن سالمونا، وفي صلح الحديبية الذي سالم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة النموذج والقدوة والأسوة في هذا الأمر.
وثاني أصنافهم: أهل الكتاب، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يجاورهم في المدينة، ويبرم معهم المعاهدات، ولا ينقض لهم عهدًا، ويبيع منهم ويشتري، ويقترض منهم، ويرهن عندهم درعه، ويقبل أن يحكم بينهم بكتاب الله إذا اختلفوا...
وثالث أصنافهم: المعاهدون والمستأمنون: ويتلخص التعامل معهم فيما يلي: حمايتهم ورد العدوان عليهم: فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"(رواه النسائي، وصححه الألباني)، وحرمة أموالهم ودمائهم طوال مدة عهدهم: وتلك قاعدة عامة في الإسلام تقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[المائدة: 1].
***
ولأن الأمر على قدر كبير من الأهمية، فقد عقدنا من أجله هذا الملف العلمي الكامل؛ محتويًا على الكتب والأبحاث والخطب والمقالات والفتاوى، من بين مقروء ومسموع ومرئي، فتناولنا فيه الموضوع من جوانبه ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وقد جاءت محاوره على الصورة التالية:
التعليقات