عناصر الخطبة
1/لله حكمة في ابتلاء خلقه بالمصائب 2/شؤم المعاصي والذنوب 3/الاستغفار ماحٍ للذنوب جالب للخيرات والبركات 4/فضل الله على الأمة الإسلامية في صلاة الاستسقاء 5/أسباب القحط ووجوب اجتنابهااقتباس
ولقد شرَع اللهُ لنا صلاةَ الاستسقاء عند انحباس المطر؛ ليرجع الناس إلى ربهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وليس الاستغفار مجرد لفظ يردَّد على اللسان، وليست صلاة الاستسقاء مجرد عادة تُفعَل في الأوطان، وإنما هما توبة وندم، وعبادة وخضوع لرب العالمينَ...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده -سبحانه- وأشكره، يجود بأعظم مطلوب، ويعمُّ بفضله وإحسانه كلَّ مربوب، ويفرِّج همَّ الكروب، ويغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويعلم خائنة الأعين، وما تُكِنُّه القلوب، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، نِعَمُه تترى، وفضلُه لا يُحصى، لا معطيَ لِمَا منَع، ولا مانع لِمَا أعطى، وكل شيء عنده بقَدَر وأجَل مسمًّى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له مُلك السماوات والأرض وما بينَهما، وعنده علمُ الساعة، وإليه تُرجَعون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أخشى الناسِ لربه، وأتقاهم لمولاه، وأكثرُهم له استغفارًا، وأصدقُهم شُكرًا ودعاءً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]؛ فاتقوا الله -عباد الله-، وتوبوا إليه واستغفِروه، فالذنوبُ كثيرةٌ، والأعمالُ سيئةٌ، والتفريطُ كبيرٌ، والغفلة مستحكَمة، ورحمةُ اللهِ قريبٌ من الْمُحسِنينَ.
ما أصاب أهلَ الأرض من شدة، وما وقع فيهم من محنة، إلا ليعلم الله الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين، يبتلي عباده بالمصائب تارةً، ويعاقبهم على أعمالهم تارةً، وما ظلَمَهم اللهُ، ولكن كانوا هم الظالمينَ.
أيها الإخوة في الله: إذا كَثُرَ الخبثُ استحقَّ القومُ الهلاكَ، وبكثرة الخبث تنتقص الأرزاق، وتُنزع البركات، ويعمُّ الفساد، وتفشو الأمراض، وتسود الفوضى، وتضطرب الأحوال.
أقبَل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا على أصحابه، فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَتْ في أسلافهم الذين مَضَوْا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجَوْر السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعُوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطَروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط اللهُ عليهم عدوًّا من غيرهم فأخَذُوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتُهم بكتاب الله ويتخيَّروا ممَّا أنزل الله إلا جعَل الله بأسَهم بينَهم".
إن للمعاصي شؤمَها، وللذنوب آثارها، فكم أهلَكت من أُمَّة، وكم دمَّرت من شعوب (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ)[الأنبياء: 11]، (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 25-29].
بالمعاصي تزول النِّعم، وتحل النقم، بسببها تتوالى المحن، وتتداعى الفتن (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11].
ولا تزال المعاصي يجر بعضُها بعضًا حتى تألفها الأفئدة، وتأنس بها النفوس، ومن ثم يطبع على القلوب (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
إن في بلاد الله الواسعة معالم شاخصة من مساكن الذين ظلموا أنفسهم، تنطق بمصارع أهلها، وتخبر عن سوء صنيعهم وعاقبة أمرهم (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)[القصص: 58].
أيها الإخوة في الله: لقد أمر الله عند انحباس المطر بالاستغفار من الذنوب، التي هي السبب في منعه، يقول تعالى على لسان نبيه نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12]، ويقول عز وجل على لسان نبيه هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52].
وهذا نبيُّكم محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ أكثَرَ من الاستغفار جعَل الله له من هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورَزَقَه من حيث لا يحتسب".
ولقد شرَع اللهُ لنا صلاةَ الاستسقاء عند انحباس المطر؛ ليرجع الناس إلى ربهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وليس الاستغفار مجرد لفظ يردَّد على اللسان، وليست صلاة الاستسقاء مجرد عادة تُفعَل في الأوطان، وإنما هما توبة وندم، وعبادة وخضوع لرب العالمينَ، وتحوُّل من حالة فساد إلى حالة صلاح، فلا بد أن تكون حال المسلمين بعد صلاة الاستسقاء أحسنَ من حالهم قبلَها، هذا إذا كانوا صادقين في توبتهم، معترفينَ بذنوبهم.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في دعاء الاستسقاء فلا يحطهما إلا وقد نشأ السحاب، وسالت الأودية والشِّعاب؛ لأنه صادق مع ربه، وهكذا كان خلفاؤه الراشدون وصحابته الأكرمون، والتابِعون الصالحون، كانوا يستسقُون فيُسقَوْن، ويَسألون فيُعطَون؛ لصدقهم مع الله في توبتهم ورغبتهم إلى الله في دعائهم.
شكا المسلمون في المدينة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قحوطَ المطر؛ فخرج فصلى بهم، ثم دعا الله -تعالى-؛ فأنشأ الله سحابةً فرعدت وبرقت، ثم أمطرت -بإذن الله-، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعة أصحابه إلى الكِنِّ ضَحِكَ حتى بدت نواجذُه، وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله".
وروى البخاري عن أنس -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون.
أيها الإخوة في الله: إن ربنا قريب مجيب، يستجيب من عباده إذا دعوه صادقين مخلصين، متضرعين مبتهلين (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، أما إذا دَعَوْهُ وقلوبهم غافلة، وأفعالهم فاسدة، مُصرُّون على الذنوب والمعاصي؛ لم يغيروا من أحوالهم شيئًا، فهل يستجاب لهم دعاء؟ قال بعض السلف: "أنتم تستبطئون نزول الغيث وأنا أستبطئ نزول الحجارة من السماء".
ولذلك -أيها الإخوة- ترون الناس في أعوام سابقة استغاثوا ثم استغاثوا فلم يُستَجَب لهم، لا لقلة في خزائن الله؛ فخزائنه لا تنفد، ومُلكُه لا يُحَدّ، بيده خزائن السماوات والأرض، ولكنهم مُنِعُوا من أجل ذنوبهم ومعاصيهم، أمَا ترون الصلاةَ التي هي عمود الدين قد أُضيعت؟ أمَا ترون المحرَّمات قد انتُهكت؟ أما ترون الأمانات قد ضُيِّعت؟ أما ترون المعامَلات قد فسَدَت؟ أما ترون الآباء قد أهمَلوا أولادَهم، والأولاد قد عقُّوا آباءهم؟ أما ترون الأسواق قد مُلِئَتْ بالمنكَرات؟ أما ترون البيوت قد دبَّ إليها الفساد الكبير من جرَّاء الهوائيات؟
فهل غيَّرْنا من هذه الأمور شيئًا قبل أن نستسقي حتى يُغيِّرَ اللهُ ما بنا؟
إنني لا أقول إن هذه الأوصاف السيئة قد عمت جميع المسلمين، فهناك من عباد الله الصالحين مَنْ هم سالمون منها في أنفسهم، لكنهم لا يحاولون إصلاح غيرهم، ولا يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، والعقوبة إذا نزلت عمَّت الجميع، عمَّت العاصين لمعصيتهم، والصالحين لسكوتهم (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 25].
أيها الإخوة في الله: إن في تصريف الأمطار بإنزالها في بعض الأقطار وحبسها عن بعض الديار لعبرة لأولي الأبصار، وعظة للعصاة والفُجَّار، وإن القادر على منع نزول الأمطار قادر على تغوير المياه من الآبار: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك: 30]، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون: 18].
فاتقوا الله -رحمكم الله-، واتعظوا واعتبروا وبادِروا بالتوبة وتعجلوا الإنابة، فقد جعل الله لكم في التوبة ملاذًا مكينًا، وملجأً حصينًا يلجه المذنب معترفًا بخطيئته، نادمًا على فعلته، غير مصر على سيئته.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله: مَنْ تدنَّس بشيء من قذَرِ المعاصي وأوحال الذنوب؛ فليُبادِرْ بغسله بماء التوبة، وطهور الاستغفار، فربُّكم يحب التوابينَ ويحبُّ المتطهرينَ.
في كتاب الله قوم مذمومون، لم يستكينوا عند البلاء، ولم يرجعوا عند البأساء، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [الْمُؤْمِنَونَ: 76].
فاستكِينُوا لربكم، وابتهِلوا إليه، وتضرَّعوا وادعوا واستغفِروا، فمن ذا الذي دعاه فلم يستجِبْ له؟ ومن ذا الذي سأله فلم يُعطِهِ؟ ومن ذا الذي أناخ ببابه فأقصاه؟ سبحانه ذو الفضل، أعطى عباده ما سألوا، وجاد عليهم بما لم يسألوا (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[الرعد: 34].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا وبلاغًا إلى حين.
اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، نافعًا غير ضارٍّ، عاجلًا غير آجِل، تُحيي به البلادَ، وتُغيث به العبادَ، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، اللهم سُقيَا رحمة لا سُقيَا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم اسقِ عبادَكَ وبلادَكَ وبهائمَكَ وأحيي بلدَكَ الميتَ، اللهم أنبِتْ لنا به الزرعَ، وأدرَّ لنا الضرعَ، وأنزل علينا من بركاتِكَ، اللهم إنا خَلْقٌ من خلقِكَ فلا تَمنَعْ عنَّا بذنوبنا فضلَكَ، اللهم إنا نستغفركَ إنكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا، وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ ونبيِّكَ محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم