نصيحة لا فضيحة

حامد إبراهيم طه

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ النصيحة وظيفة الأنبياء والرسل 2/ المقصود بالنصيحة والفرق بينها وبين الفضيحة 3/ بعض آداب الناصح والمنصوح 4/ بعض الممارسات الخاطئة عند تقديم النصيحة 5/ شروط تقديم النصيحة 6/ الآثار المترتبة على قلب النصيحة إلى فضيحة 7/ أدب السلف في النصيحة

اقتباس

رُبَّ نصيحة أحدثت قطيعة؛ ويكفيك إلقاء نظرة بسيطة في حياتنا الاجتماعية لتلاحظ كم علاقات أسرية متينة انفرط عقدها بفعل نصيحة، بعد أن دفع حسن النية أحدَهم إلى نصح أقربائه باجتناب المنكر، وتعزيز نظام الحماية في البيت حين تكاثرت الفيروسات الداخلة إليه.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: يقول الله -تعالى- في محكم آياته: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة: 91]، وقال تعالى على لسان نبيه هود: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: 68]، وقال تعالى على لسان نبيه صالح: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79]، وقال تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص: 20]، وروى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ".

 

إخوة الإسلام: بداية القول: إن لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- الأسوة الحسنة فهو خير ناصح، وخير داعية، وقد كان صلى الله عليه وسلمَ يوصي باللين في كل شيء، ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ".

 

ويقول الإمام الشافعي -رحمه الله- في أبيات تملؤها الحكمة:

تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي *** وجنِّبني النصيحةَ في الجماعهْ

فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** من التوبيخِ لا أرضى استماعه

وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي *** فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه

 

أيها المسلمون: من ذا الذي يَسلمُ من الخطأ والتقصيـر؟

 

الجواب: لا أحد، فالخطأ واردٌ على الجميع.

 

لكنّ السؤالَ -الذي يطرح نفسهُ كما يقال-: كيف العـلاج؟ كيف نصـلحُ الخطأ؟

 

فمن السبلِ لإصلاح الأخطـاء: بذلُ النصيحة, رغبة في الإصـلاح والتقويم, لا "الإسقاط"، ولا "التحطيم!".

 

وتأمل عبارتي جيدًا، لعلك تسأل أو تقول: ما هي النصيحة؟

 

يقول الخطابي: "النصيحةُ كلمة جامعة، معناها: حيازة الحظ للمنصوح له".

 

وهي باختصار: إخلاص الرأي من الغش وإيثارُ مصلحته, وهي من القلبِ للمنصوحِ كائنًا من كان. هذه هي النصيحة, وتلكم هي معانيها.

 

فهل استشعرت -أخي الكريم- عندَ نصحِكَ هذه المعاني، فسددت خلله وقومتَ زلته وحزت له الحظ, وأخلصت له القصد.

 

تأمل نفسك، فأنت أدرى وأعلم!

 

ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمة الله عليه- في رسالته: "الفرقُ بين النصيحة والتعيير" أمورًا ينبغي للناصح أن يعتني بها؛ منها: أن يكون الناصحُ مخبرًا بعيبِ صاحبه ليتجنبه لا ليعيره ويفضحه, فإن التعييرَ بالذنبِ ، وفضح المسلم بين الناس قبيحٌ مذموم.

 

وقال الفضيل بن عياض: "المؤمن يَستر ويَنصح, والفاجر يهتك ويعير".

 

والأصل في النصيحة: أن تكون سرًا, فقال بعضهم: "من أمرَ أخاه على رؤوس الملأ فقد عيّره".

 

وعلى الناصح أن يكون قصده إزالة المعصية أو دفعها.

 

وينبغي على الناصحِ: أن لا يتتبع عورات المسلمين ومخازيهم، فمن تتبع عورات المسلمين, تتبع الله عورته؛ ففي مسند الإمام أحمد وغيره قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ".

 

وعلى الناصحِ: أن لا يظهر الشماتة بمن ابتلي من المسلمين والصالحين, بل يدعو ربه السلامة والعافية, فإن العافية لا يعادلها شيء، ومن عوفي فليحمد الله, وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ".

 

ومن الناسِ من يظهر النصح ويبديه, فيظهرُ الأمر في قالبِ النصح والإشفاق, وفي باطنه التعييرُ والأذى, مراده غرضٌ فاسد, وهوىً كاسد, كحالِ أهل النفاق الذين اتخذوا مسجدًا إضرارًا للمؤمنين وموالاة للمحاربين لله ورسوله.

 

وينبغي للناصح: أن ينزل الناس منازلهم, فالنصيحة للعالِم تختلف عن غيره, وكذا السلطان, وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره: "أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلاَ يُبْدِ لَهُ عَلاَنِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلاَّ كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ".

 

فليست النصيحة إليه ببث العيوب و المثالب أمام العامة, أو من على رؤوس المنابر.

 

وينبغي للمنصوح له: أن يتقبل النصح, ويسعى في استدراك الخطأ, ويشد من أزر أخيه الناصح؛ فإن المحبة الصادقة هي التي دفعته لذلك وإلا لم يبالي بكَ كما فعلَ غيره.

 

أيها المسلمون: إن النصيحة كمفهوم كوني وقيمة نبيلة سامية، لَنعمة مغبون فيها كثير من الخلق، ورغم كونها مُعادلة للدين بأكمله في المنظور الإسلامي: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" [رواه مسلم]، ومع بالغ الأسف فقد أضحى فعل النصح مثار نفور وشبهة في وقتنا الراهن، إن لم أقل: "جريمة" ينبغي أن تضرب لها ألف حساب قبل اقترافها، فلطالما سقط بعضنا في متاهات كان في غنى عنها بفعل نصحه لشخص ما بتغيير طريق يراه مُؤدٍّ مباشرة إلى ندم مؤبد، أو حثه على اتباع وجهة له فيها الخير كله.

 

ويحدث أحيانا أن توضع موضع اختيار صعب حين ترى شخصا ما لا سيما إن كان يعني لك الكثير، في وضع خطير أو تعترضه مشكلة تحتاج تفكيرا ممنهجا بصيرا لمواجهتها، فيدفعك ضميرك المستيقظ داخلك إلى النصح له وإرشاده إلى برّ الأمان، لكن ما إن يأتيك هذا الشعور النبيل حتى تضع في حسبانك ما قد ينشبه فعلك هذا من معارك حامية الوطيس، وتلبيدٍ لسماء علاقتكما بغيوم الشنآن، والتي لم يكن ينقص دوام صفائها إلا صمتك في تلك اللحظة، إلا أنه بدل تركه يجازف وحده، تجازف أنت بتقديم نصيحة له،

وإن نزلَت أسهمك في بورصته إلى الصفر، فأنت واثق من نبل فعلك كل الثقة، والأهم أن أسهمك في بورصة أخرى مرتفعة لا محالة.

 

نَعمْ، رُبَّ نصيحة أحدثت قطيعة؛ ويكفيك إلقاء نظرة بسيطة في حياتنا الاجتماعية لتلاحظ كم علاقات أسرية متينة انفرط عقدها بفعل نصيحة، بعد أن دفع حسن النية أحدَهم إلى نصح أقربائه باجتناب المنكر، وتعزيز نظام الحماية في البيت حين تكاثرت الفيروسات الداخلة إليه.

 

وكم ابن بات بين عشية وضحاها عاقا لوالديه، وأخذ رصيدا كافيا من السخط، حين نصحته أمه العجوز بكل حنان بعدم أهلية فتاة أحلامه للزواج بها، لِما تعرفه عنها من فجور، فَشنَّف أذنا أمّه الناصحة بكلام غليظ فاحش دفاعا عن معشوقته "الطاهرة في نظره آنئذ"، وحسن اختياره الذي ندم عنه طوال حياته.

 

وكم صديق عزيز عليك كانت النقطة التي أفاضت الكأس بينكما، نصحك له بترك معصية أو بفعل طاعة.

 

وكم رفيقة لكِ نصحتِها يوما بالرجوع إلى الله، والابتعاد عن مُغريات المراهقة العابرة المكلّفة المنساق وراءها تكلفة باهظة مدى الحياة. فما كان منها إلا أن نهرتكِ وأسقطت عليكِ كل صفاتها البذيئة. وكانت "النصيحة" عنوان لحظة الوداع بينكما.

 

وحالات كثيرة، كان السبب الأساس وراء هدمها "تقديم نصيحة".

 

أيها المسلمون: وإن الذي يحفر في حياتك الخاصة لكي يجمع حولك ما يكفيه من عثرات وأخطاء لِيَعُدَّها لك في قالب تقديم نصيحة بحضور من تحب ومن لا تحب، فيهدمك نفسيا هدما يجعلك ترفض النصيحة بكل أشكالها وألوانها وأصحابها، وإن كان القصد وراءها نبيلا، فمثل هؤلاء فاضح لا ناصح.

 

وإن الذين يقذفونك بكل الصفات الدنيئة، ويخفضون مؤشر معنوياتك إلى درجة الصفر، ويشعرونك بأن الحمار أهم منك بكثير؛ كل هذا من أجل نصحك وإرشادك لتكون حيوانا على الأقل بعد أن قتلوا فيك الإنسان، فمثل هؤلاء فاضح لا ناصح.

 

نحن لا نتحدث عن هؤلاء جميعا وآخرين، ولا يهمنا في هذا المقام لا هم ولا نصائحهم.

 

نحن نقصد بالنصيحة ما يتوافق مع نواميس الكون؛ أي ما يهدف إلى بناء الإنسان أولا وقبل كل شيء.

 

نقصد النصيحة المُؤطَّرة بالشروط المنسجمة مع الفطرة والتي حث عليها الإسلام فيما حث عليه.

 

أيها المسلمون: ولعل أهم تلك الشروط المتفق عليها في باب تقديم النصيحة: إخلاص النية والقصد الحسن، واختيار المقام والمقال المناسبين؛ أي تقديم النصيحة في جو أخوي تسوده المحبة.

 

والابتعاد عن إشعار المنصوح بفداحة أفعاله والتنكيل به، وتذكيره عمدا بسلسلة هفواته لإرهابه نفسيا.

 

وانتقاء بعناية كبيرة القاموس الموجَّهة به الرسالة المتوافِق مع الحالات النفسية لكل منصوح وظروفه الخاصة.

 

والحرص على الانفراد به بعيدا عن أنظار الآخرين وإن كانوا أحبة.

 

دون أن ننسى حسن الظن بالناصح، وتقبل النصيحة بصدر رحب، والانصياع وراء الحق لا تعنتات النفس وهواها حتى وإن كان الناصح أقل سنا وعلما.

 

كما تظل القدوة الحسنة أهم شرط في باب التناصح إذ لا يمكن لنصيحتك أن تثمر ما لم تكن معالمها بادية عليك.

 

فمن المتعارف عليه أن طبيعة الإنسان السليمة لا تقبل التناقض في شيء كما أنني أكاد أجزم أن نصيحة طبيب مدخن لمريض بالإقلاع عن التدخين لن تجد نفعا إلا فيما نذر، وهلُمّ جرّا.

 

هكذا إذًا، توفر شروط النصح يصبح فيها لفعلك معنى وللنصيحة ثمارا.

 

ومن بديهيات القول: إن كل إنسان مُعرَّض للهفوات والخطأ. وبتصحيح الأخطاء وتفادي تكرارها نرتقي.

 

من هنا تستمد النصيحة أهميتها القصوى في حياتنا الخاصة والعامة ذلك إن نجاحنا في كثير من الأحيان رهين باتباع نصائح ثمينة تضعنا على سكة الصواب، كما أن فشلنا يكون غالبا نتيجة استخفافنا بنصائح أُسدِيـت إلينا بالمجان، ودفعنا ثمنها غاليا.

 

وعليه؛ لنخلق مناخا تسوده المحبة والأخوة والخير وصفاء النفوس، لنجعل خلفية تفكيرنا "حسن النية" لندفع بعجلة إسعاد الآخر إلى الأمام، لنُنقّب جميعا في نفوسنا الملوثة بالقيم الفاسدة عن أصالتنا، لنمدّ يد العون لمن يحتاجها لا لمن هو حريٌّ بمدّها، لنزرع نصيحة جميلة تحيا بعد فنائنا.

 

لنطلب النصيحة في كل وقت وبدون تردد من أهلها، لنبني الإنسان.

 

لكني أعود ثانية للتذكير بأني أتحدث عن "النصيحة لا الفضيحة".

 

أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: فما هي الآثار المترتبة على قلب النصيحة إلى فضيحة؟

 

فانظر -رحمك الله- كم من المحظورات قد ارتُكبت عندما فُعل هذا الفعل؟ ثم انظر مرة أخرى إلى الآثار المترتبة على انقلاب النصيحة إلى فضيحة:

 

أولاً: عدم القبول لهذه النصيحة؛ لأن النفوس تصد عما يكون فيه إظهار لعيبها، وإشهار لخطئها، فإذا نصحت الرجل في الملأ من الناس أو أظهرت عيبه من ورائه فغالب الأحوال أنه لا يرتدع، بل يصر ويمضي على معصيته، ويبقى على مخالفته، ثم قد يلتمس لها تأويلاً، وقد يبحث لها عن دليل؛ وما ذلك إلا بسبب ما وقع في نفسه من أثر سوء فعلك ومن أثر فضحك له.

 

الأمر الثاني: تغير القلوب وحصول الشحناء والبغضاء، وشيوع سوء الظن والريبة بين الناس؛ فإن الذي فضحته لا شك أنه في الغالب يضمر لك في قلبه كرهاً، ويحمل لك في نفسه شراً، والآخرون الذين سمعوا تغيرت قلوبهم، وزادت ريبتهم، وتحقق تخوفهم وحذرهم، فيحصل من وراء ذلك ما لا يليق بأمة الإسلام من إساءة الظن، وتتبع العثرات، وترقب المحاذير والمعايب، وهذا كله فساد لأصل المودة والأخوة الإيمانية الواردة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وهذا يبعث على تغير القلوب، وفي حديث معاوية -رَضي الله عنه- الذي رواه أبو داود وابن حبان بسند صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت تفسدهم" أي إنك تعلمهم كيف يسيئون الظن بغيرهم، وتعلمهم كيف يجترئون على حرمات إخوانهم، وتعلمهم كيف تنصرف ألسنتهم بالغيبة من أثر هذا الفعل، وكم في إفساد القلوب وإفساد النوايا والطوايا بين أهل الإسلام وأهل الإيمان من آثار وخيمة وعواقب عظيمة!

 

الأمر الثالث: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فالله -جل وعلا- قد نهى عن ذلك وحذر منه فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة) [النور: 19]، فهذا التحذير معناه: أن لا يذكر المرء وقوع الفواحش، وأن لا يذكر من ذكرها؛ حتى لا يكون في ذلك تسهيل للناس إلى الوقوع فيها، أو إرشاد لهم إلى طرائقها، أو تهوين من خطرها وفظاعتها، أو عدم التفات لما وقع في الآيات والأحاديث من التحذير منها، وذلك كله من أعظم الأمور وأخطرها، ولذلك ورد عن بعض السلف في شأن إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا أنه قال: اجتهدوا أن تستروا العصاة؛ فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام، أي أنه يظهر المجتمع المسلم كأنه مجتمع فحش وجرائم وأمور لا تليق بصفاء القلوب ولا بنقاء السرائر ولا بالصلة بالله؛ فينبغي أن يحذر المرء من ذلك.

 

الأمر الرابع: انشغال مثل هؤلاء الناس بعيوب غيرهم عن عيوبهم، وحسبك بهذا أثراً خطيراً؛ لأن كثيراً من أولئك قد تفرغ في وقته وفكره لتتبع أخطاء الناس وفضحهم؛ بحجة أنه يظهر الحق، وهذا في غالب الأحوال ينسى نفسه، ويغض الطرف عن عيبه، ويقسو بذلك قلبه، وقد قال ابن رجب: "فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة. أما صاحب العقل الصحيح والقلب الحي فإنه يدرك ويفرق بين ما هو نصيحة وبين هو فضيحة"، وعن الحسن البصري أنه قال: "من سمع بفاحشة فأفشاها كان كمن أتاها، وما تزال الفاحشة تفشو بين المؤمنين حتى تصل إلى الصالحين فهم خزانها" أي يمسكون عن نشرها وإشاعتها لئلا يسهل على الناس ذكر مثل هذه الأمور.

 

أيها المسلمون: وانظروا معي إلى أدب السلف الصالح في النصيحة، قال إمام الجرح والتعديل في عصره يحيى بن معين -رحمه الله تعالى-: "ما رأيتُ على رجلٍ خطأً إلا سترته، وأحببتُ أن أزين أمره، وما استقبلتُ رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك وإلاَّ تركته"، قال المزني سمعت الشافعي يقول: "من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه"، وقيل لمسعر: "أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإن قرعني بين الملأ فلا"، وهذا حق؛ فإن النصح في السر حب وشفقة، والنصح في العلن انتقاص وفضيحة، وهذا هو قول الشافعي -رحمه الله-: "من وعظ أخاه سرّاً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه"، وقال رجل لعلي بن أبي طالب -رَضي الله عنه- أمام الناس: "يا أمير المؤمنين إنك أخطأت في كذا وكذا، وأنصحك بكذا وبكذا"، فقال له علي -رَضي الله عنه-: "إذا نصحتني فانصحني بيني وبينك، فإني لا آمن عليكم ولا على نفسي حين تنصحني علناً بين الناس"، وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سراً" حتى قال بعضهم: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمه"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير"، ويعقب الحافظ ابن رجب على كلمة الفضيل هذه بقوله: "فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان"، ويقول الإمام أبو حاتم بن حبان البستي -رحمه الله تعالى-: "النصيحة تجب على الناس كافة على ما ذكرنا قبل، ولكن إبداؤها لا يجب إلا سراً؛ لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه، ومن وعظه سراً فقد زانه"، فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه أحرى من القصد فيما يشينه"، وقال أبو حاتم بن حبان: "خير الإخوان أشدهم مبالغة في النصيحة كما أن خير الأعمال أحمدها عاقبه وأحسنها إخلاصا"، ويقول الإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري -رحمه الله-: "وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلابد من التصريح"، ويقول عبد العزيز بن أبي داود -رحمه الله-: "كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئاً يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه، ويهتك ستره"، ويقول الإمام ابن حزم الظاهري -رحمه الله تعالى-: "ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة وملك، لا مؤدي حق أمانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل، ولا حكم الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبده"، ويقول أيضاً: "فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله -تعالى-: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه: 44]، وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا"، ويقول الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "وحد النصيحة أن يسوء المرء ما ضر الآخر، ساء ذلك الآخر أم لم يسؤه، وأن يسره ما نفعه، سر الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة"، ويقول الخليفة عمر بن عبد العزيز: "من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه".

 

 

 

المرفقات

لا فضيحة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات