كيف نتعامل مع الأخطاء؟

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الوقوع في الخطأ من طبائع البشر 2/ قبول الله لتوبة التائبين 3/ باب التوبة مفتوح 4/ صور من رفق شريعة الإسلام بالعصاة 5/ المنهج الشرعي في التعامل مع المخطئين والمذنبين.

اقتباس

متى رأيتَ صاحبَك قد غَضِبَ وأخذَ يتكلَّمُ بما لا يصلحُ، فلا ينبغي أن تعقدَ على ما يقولُه خِنْصِراً، ولا أن تؤاخذَه به، فإن حالَه حالُ السكرانِ لا يدري ما يجري، بل اصبرْ ولو فترةً، ولا تعوِّلْ عليها، فإن الشيطانَ قد غلبَه، والطبعُ قد هاجَ، والعقلُ قد استترَ، ومتى أخذت في نفسِك عليه، أو أجبتَه بمقتضى فعْلَه، كنتَ كعاقلٍ واجهَ مجنوناً، أو مفيقٍ عاتبَ مغمىً عليه، فالذنبُ لك، بل انظرْ إليه بعينِ الرحمةِ، وتلمَّحْ تصريفَ القدرِ له، وتفرَّجْ في لَعِبِ الطبعِ به.. واعلم أنه إذا انتبَه ندِمَ على ما جرى، وعَرَفَ لك فضْلَ الصَّبْرِ، وأقلُّ الأقسامِ أن تُسْلِمَه فيما يفعلُ في غضبِه إلى ما يستريحُ به. وهذه الحالةُ ينبغي أن يتلمَّحْها الولدُ عند غضبِ الوالدِ، والزوجةُ عند غضبِ الزوجِ، فتتركَه يَشفى بما يقولُ، ولا تعوِّلْ على ذلك، فسيعودُ نادماً معتذراً...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عبادَ اللهِ.. الخطأُ.. صفةٌ لازمةٌ للبَشَرِ.. مهما يكونُ من الاحتياطِ والحَذرِ.. ولذلكَ قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"..

 

فأخبرنا أنَّ كثرةَ الخطأِ في حياتِنا قدرٌ من الأقدارِ.. وأن خيرَنا هم أهلُ التَّوبةِ والاعتذارِ.. واسمعْ كيفَ تعاملَ اللهُ -جلَّ جلالُه- مع طبيعةِ الإنسانِ.. عندما يُخطئ ثُمَّ يعودُ إلى ربِّه آسفاً ندمانَ.

 

أكلَ أبونا آدمُ -عليه السَّلامُ- من الشَّجرةِ.. فندمَ وتابَ.. (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)، فاعتذرَ بها سريعاً (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، فماذا كانتْ النَّتيجةُ؟، (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37].

 

قتلَ موسى -عليه السَّلامُ- نفساً بغيرِ حقٍّ.. فماذا قالَ؟.. (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)، فماذا كانتْ النَّتيجةُ؟، (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص: 15- 16].

 

حكمَ داودُ -عليه السَّلامُ- في القَضيَّةِ قبلَ سماعِ قولِ الخصمِ.. فماذا كانَ منه؟.. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ)، فماذا كانتْ النَّتيجةُ؟، (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) [ص: 24- 25].

 

ولا زالَ الغفورُ الرَّحيمُ مع جميعِ عبادِه.. الذي خلَقهم ويعلمُ ضعفَهم.. والذينَ لا بُدَّ لهم من الزَّللِ خطأً كانَ أو مقصوداً.. ولذلكَ جعلَ لهم نورَ الأملِ موقوداً.. وطريقَ العودةِ مفسوحاً.. وبابَ التَّوبةِ مفتوحاً.. فقالَ سبحانَه وتعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 110].. فاللهم لكَ الحمدُ لا نُحصي ثناءً عليكَ.. أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ.

 

سُبْحَانَ مَنْ يَعْفُو وَنَهْفُو دَائِمًا *** وَلَمْ يَزَلْ مَهْمَا هَفَا العَبْدُ عَفَا

يُعْطِي الَّذِي يُخْطِي وَلاَ يَمْنَعُهُ *** جَلاَلُهُ عَنِ العَطَا لِذِي  الخَطَا

 

وهكذا تعاملَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مع النَّاسَ.. يُعلِّمُ الجاهلَ.. ويُوجِّهَ المُخطئ.. ويُرشدُ الحائرَ.. ويتجاوزُ عن النَّادمَ.. ويعتذرُ للمجتهدِ.. يقبلُ من أهلِ الفضلِ اعتذارَهم من الأخطاءِ.. ولكنَّه يتبرأ من عاقبتِها أمامَ من في السَّماءِ..

 

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَدَهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ.. اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ".

 

فالخطأُ هنا ليسَ كسائرِ الأخطاءِ.. بل ذهبتْ فيه أرواحٌ وسالت فيه الدِّماءِ.. فبيَّنَ النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- الزَّللَ.. وتبرأَ إلى اللهِ -تعالى- من العملِ.. ولكن أبقى خالدَ بنَ الوليدِ على قيادةِ الجُيوشِ.. ولا زالَ هو سيفُ اللهِ المسلولِ.. على أعداءِ اللهِ -تعالى- حتى ماتَ الرَّسولُ.. -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.

 

وقد يكونُ الخطأُ في أصولِ الإيمانِ وأساسِ الدِّينِ.. وقد يكونُ من قَاماتِ النَّاسِ وأهلِ اليقينِ.. فَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ- أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بِنُسْخَةٍ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَسَكَتَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيهِ-: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟.

 

 فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي، لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لَاتَّبَعَنِي".

 

غَضِبَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.. واعتذرَ عُمرُ -رضيَ اللهُ عنه-. وبيَّنَ الحقَّ والصَّوابَ.. وانتهى اللَّومُ والعِتابُ.. وبقيَ عمرُ هو عمرُ.. ثاني الخلفاءِ الرَّاشدينَ.. ومن أهلِ جنَّةِ النَّعيمِ والمقامِ الأمينِ.

 

وقد يكونُ الخطأُ من شخصٍ حبيبٍ.. في حدٍّ من حدودِ العزيزِ الرَّقيبِ.. فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟".

 

 فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا.

 

تَلَوَّنَ وجهُ الحبيبِ على الحبيبِ.. ولامَهُ على الشَّفاعةِ في حدِّ القريبِ المُجيبِ.. فتابَ واستغفرَ وأبدى النَّدمَ.. وماتَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.. وكانَ قد جهَّزَ جيشاً لقتالِ الرُّومِ قائدُهم.. هو أُسامةُ -رضيَ اللهُ عنه-.

 

وقد يكونُ الخطأُ من الزَّوجةِ الغيورةِ.. في موقفٍ لا يتحمَّلُه إلا الرِّجالُ الصَّبورةُ.. فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ –وهي عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وكَانَ عِنْدَهُ ضُيوفٌ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ -إنَاءٍ- فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ عَائِشَةُ يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: "كُلُوا.. غَارَتْ أُمُّكُمْ، كُلُوا.. غَارَتْ أُمُّكُمْ"، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ.

 

فالخطأُ من طبيعةِ الإنسانِ.. والغِيرةُ من طبيعةِ النُّسوانِ.. والاعتذارُ لها أمامَ الضُّيوفِ من شيمةِ أهلِ الإحسانِ.

 

قال ابنُ الجوزيِّ رحمَه اللهُ في (صيدِ الخاطرِ): "متى رأيتَ صاحبَك قد غَضِبَ وأخذَ يتكلَّمُ بما لا يصلحُ، فلا ينبغي أن تعقدَ على ما يقولُه خِنْصِراً -أي: لا تعتدَّ به ولا تلتفتْ إليه-، ولا أن تؤاخذَه به، فإن حالَه حالُ السكرانِ لا يدري ما يجري، بل اصبرْ ولو فترةً، ولا تعوِّلْ عليها، فإن الشيطانَ قد غلبَه، والطبعُ قد هاجَ، والعقلُ قد استترَ، ومتى أخذت في نفسِك عليه، أو أجبتَه بمقتضى فعْلَه، كنتَ كعاقلٍ واجهَ مجنوناً، أو مفيقٍ عاتبَ مغمىً عليه، فالذنبُ لك، بل انظرْ إليه بعينِ الرحمةِ، وتلمَّحْ تصريفَ القدرِ له، وتفرَّجْ في لَعِبِ الطبعِ به.. واعلم أنه إذا انتبَه ندِمَ على ما جرى، وعَرَفَ لك فضْلَ الصَّبْرِ، وأقلُّ الأقسامِ أن تُسْلِمَه فيما يفعلُ في غضبِه إلى ما يستريحُ به.

 

وهذه الحالةُ ينبغي أن يتلمَّحْها الولدُ عند غضبِ الوالدِ، والزوجةُ عند غضبِ الزوجِ، فتتركَه يَشفى بما يقولُ، ولا تعوِّلْ على ذلك، فسيعودُ نادماً معتذراً، ومتى قُوبلَ على حالتِه ومقالتِه صارتِ العداوةُ متمكِّنةً، وجازى في الإفاقةِ على ما فُعِلَ في حقِّه وقتَ السُّكْرِ.

وأكثرُ الناسِ على غيْرِ هذا الطريقِ، متى رأوا غضبانَ قابلُوه بما يقولُ ويعملُ، وهذا على غيْرِ مقتضى الحكمةِ، بل الحِكمةُ ما ذكرتُ، وما يعقلُها إلا العالمونَ.

 

أستغفرُ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربَّ العالمينَ، مَنَّ على من شاءَ من عبادِه بهدايتِهم للإيمانِ وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تَفرَّدَ بالكمالِ والجلالِ والعظمةِ والسلطانِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثَ إلى كافةِ الإنسِ والجانِّ، فبلَّغَ رسالةَ ربِّه وبيَّنَ غايةَ البيانِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الذين جاهدوا في اللهِ حقَّ جهادِه حتى نشروا العدلَ والأمنَ والإيمانَ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.. أما بعد:

 

فيا أهلَ الإيمانِ.. إذا علمنا أن الخطأَ من طبيعيةِ البَشرِ اللَّازمةِ.. وعرفنا أن الذي أمامَنا ليسَ له نيَّةُ سُوءٍ جازمةٍ.. فعلينا بمعالجةِ الخطأِ بالطريقةِ المناسبةِ.. فتارةً يكونُ بتعليمِ الجاهلِ.. كما جاءَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: مَهْ مَهْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ"، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.

 

وتارةً بالموعظةِ الحسنةِ.. فعن أَبُي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِي السَّوْطُ مِنْ هَيْبَتِهِ، فَقَالَ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ: "أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ".

 

وإياكم أن تقطعوا حبلَ المودةِ بمن تعلمونَ حبَّه وصدقَه من الخاطئينَ.. فلعلَّ يوماً يفتحُ على قلبِه ربُّ العالمينَ.. فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لَا تَلْعَنُوهُ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".. فأيُّ أثرٍ سيكونُ لهذه الكلامِ والحنانِ.. في قلبِ ذلكَ الرَّجلِ السَّكرانِ؟.

 

اللهم أرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عنّا سيئَها لا يصرف سيئها إلا أنت، اللهم فقّهنا في دينِنا، وبصّرنا بعيوبنا، وارزقنا الثباتَ واليقينَ.

 

 اللهم استر عوراتِنا، وآمن روعاتِنا، واحفظنا مِن بين أيدينا ومِن خلفِنا، وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا ومِن فوقِنا، ونعوذُ بعظمتِك أنْ نُغتالَ مِن تحتنا، اللهم أصلحنا وأصلح أزواجَنا، وأصلح أبناءَنا وبناتِنا.

 

 اللهم اهدنا سُبُلَ السَّلامِ، وأخرجنا مِن الظلماتِ إلى النُّورِ، وجنبنا الفواحشَ والفِتنَ، ما ظهرَ منها وما بطنَ، لا إله إلاّ أنتَ سبحانَك إنّا كنّا مِن الظالمينَ.

 

 

المرفقات

نتعامل مع الأخطاء؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات