منهج السلف في الفتوى, والرد على المخالف- والحديث عن أهمية مدارس وفصول القرآن

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ منزلة الإفتاء منزلةٌ عظيمةٌ خطيرة 2/ مفاسد الجرأة على الفتوى 3/ معالم منهج السلف في الفتوى 4/ أهمية نصح المخطئ في فتواه والتواصل معه والرفق به 5/ الثناء على قرار فتح فصول تحفيظ القرآن في التعليم العام.

اقتباس

وإذا تحصَّن الْمُفتي بالعلم الشرعي الموروثِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, فينبغي له ويتأكد عليه أنْ يعرف سيرته وسيرة أصحابه في الفتوى, فيتعلم منهم كيفية وآداب الإفتاء. وسيرةُ الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- مليئةٌ بالآداب العظيمة, والأخلاق الجمّة, التي تحلَّوا بها في فتاويهم, وفي تعاملهم مع السائلين, ومع غيرهم من المفتين.. وكذلك ليعرف طُلاب العلم وغيرُهم من عامة الناس, المنهجَ الصحيحَ في التعامل مع مَن أفتى بفتوى خاطئة, أو تكلم بغير علم, وما هو الموقف الشرعيُّ حيال ذلك....

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العاملين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد, فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّ منزلة الإفتاء منزلةٌ عظيمةٌ خطيرة, لا يتجاسر عليها إلا أحدُ رجلين:

 

جاهلٌ قليل البضاعة في العلم, يريد أنْ ترتفع مكانته, ويخاف إنْ هو امْتنع من الإجابة أنْ يقل قدره.

أو عالِمٌ متمكنٌّ في العلم.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "الْجُرْأَةُ عَلَى الْفُتْيَا تَكُونُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ, وَمِنْ غَزَارَتِهِ وَسِعَتِهِ، فَإِذَا قَلَّ عِلْمُهُ أَفْتَى عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا اتَّسَعَ عِلْمُهُ اتَّسَعَتْ فُتْيَاهُ". ا.هـ كلامه.

 

ولذلك كان من اللازم على كلِّ من أراد الفتيا وتصدَّر لها, أنْ يعرف خطرها وعظم قدرها, فهي توقيع الْمُفتي عن رب العالمين, والْمُبلِّغ للناس عن رسول الله الأمين.

 

كيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب, فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) [النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله –تعالى- بنفسه شرفًا وجلالة, إذ يقول في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء: 176].

 

وإذا تحصَّن الْمُفتي بالعلم الشرعي الموروثِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, فينبغي له ويتأكد عليه أنْ يعرف سيرته وسيرة أصحابه في الفتوى, فيتعلم منهم كيفية وآداب الإفتاء.

 

وسيرةُ الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- مليئةٌ بالآداب العظيمة, والأخلاق الجمّة, التي تحلَّوا بها في فتاويهم, وفي تعاملهم مع السائلين, ومع غيرهم من المفتين, وسأبسُط القول فيها؛ لتكون نِبْرَاسًا لمن تصدّر للإجابة والفتوى, وسراجًا مُنيرًا في التعامل مع الْمُفتين الآخرين.

 

وكذلك ليعرف طُلاب العلم وغيرُهم من عامة الناس, المنهجَ الصحيحَ في التعامل مع مَن أفتى بفتوى خاطئة, أو تكلم بغير علم, وما هو الموقف الشرعيُّ حيال ذلك.

 

معاشر المسلمين: كان السلفُ الصالحُ يرجع أحدُهم إلى الآخر عند الفتوى, ويعرف قدر من هو أعلم منه, ولا يتردد في التصريح بفضله وعلمه, والرجوع إلى قوله إذا ظهر له رجحانه, ويُحيل السائل إلى من هو أعلم منه, ويُشير عليه بأن يستفتيه إنْ رآه أهلاً لذلك.

 

فعن أَبي المِنْهَالِ قَالَ: "سَأَلْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّرْفِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِنِّي، فَكِلاَهُمَا يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنًا" (رواه البخاري).

 

قال الحافظ: "وَفِي الْحَدِيثِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنَ التَّوَاضُعِ, وَإِنْصَافِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا, وَمَعْرِفَةِ أَحَدِهِمْ حَقَّ الْآخَرِ". ا.هـ.

 

وروى الإمام مسلم في صحيحه أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يَقُولُ: "مَنْ أَصْبَحَ جُنُباً أَفْطَرَ ذلِكَ الْيَوْمَ".

 

فسُئلَت عَائِشَةُ وَأُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عن ذلك, فقَالَتا: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصْبِحُ جُنُبًا ثُمَّ يَصُومُ"، فأُخبر أَبُو هُرَيْرَةَ بما قالتا فقال: هُمَا أَعْلَمُ، ورَجَعَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ.

 

وإذا صدرت من أحدهم فتوى تُخالف النص: ردُّوا على الفتوى وبينوا خطأها مع الاحتفاظ لصاحبها بالاحترام والإجلال.

 

قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: "كُنْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدَيْنِ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِنَّا لَنَسْمَعُ ضَرْبَهَا بِالسِّوَاكِ تَسْتَنُّ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَجَبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيْ أُمَّتَاهُ أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَتْ: وَمَا يَقُولُ؟ قُلْتُ يَقُولُ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي رَجَبٍ، فَقَالَتْ: "يَغْفِرُ اللهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَعَمْرِي مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، وَمَا اعْتَمَرَ مِنْ عُمْرَةٍ إِلَّا وَإِنَّهُ لَمَعَهُ" قَالَ: وَابْنُ عُمَرَ يَسْمَعُ، فَمَا قَالَ: لَا وَلَا نَعَمْ، سَكَتَ. (رواه مسلم).

 

فلْنتعلم من مدرسة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, كيفيَّة التعامل مع من أفتى بخلاف الحقّ, وخالف النص الصريح, والعجيب أن هؤلاء الصحابة الكرام, كان أحدُهم يُفتي بما يُخالف النصّ الصريح, ومع ذلك لم يكن أحدٌ من أقرانهم وأصحابهم يردّ عليهم بالعنف والغلظة, ولم يقدحوا بالشخص نفسِه, إنما كانوا يردُّون على الفتوى نفسها, ويُبيِّنون غلطها, دون الْمَساس بصاحبها.

 

وهذا بخلاف ما عليه بعض الناس, من القدح بالْمُخالف, بل والدخولِ في نيَّاتهم, والقدح في أشخاصهم, في مسألةٍ اجْتهادية, ليس عليها نصٌّ صريح, إنما هي محلُّ بحثٍ واجتهاد, ومع ذلك يتعامل بعض الناس مع مَن خالفه وكأنه ارتكب جريمةً بشعة, أو خالف النصوص الصريحة.

 

ولم يُكلِّف أحدُهم نفسه التواصل معه, ولو عن طريق الهاتف, أو الذهابَ إليه ليتحقق من ذلك, ويُناقشه بأدبٍ وحكمة.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "والصحابةُ -رضي الله عنهم- اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع, كالجدِّ مع الإخوة, وعتقِ أم الولد بموت سيدها, ووقوعِ الطلاق الثلاثِ بكلمةٍ واحدة, وفي بعضِ مسائل الربا, وفي بعضِ نواقضِ الوضوء, وموجباتِ الغسل, وبعضِ مسائل الفرائض وغيرها, فلم يَنْصِبْ بعضُهم لبعض عداوة, ولا قَطَع بينه وبينه عِصْمَة, بل كانوا كلٌّ منهم يجتهد في نصرِ قولِه بأقصى ما يقدر عليه, ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة, والمصافاة والموالاة, من غير أن يُضْمِرَ بعضُهم لبعض ضَغْنًا, ولا يَنْطَوِيْ له على مَعْتَبَةٍ ولا ذَمّ, بل يدل المستفتي عليه مع مخالفتِه له, ويَشْهَدُ له بأنَّه خيرٌ منه وأعلم منه.

 

فهذا الاختلاف أصحابُه بين الأجرين والأجر, وكلٌّ منهم مُطيعٌ لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق". ا.هـ.

 

وكان سلفُنا الصالحُ -رضي الله عنهم- لا يُعنِّفون على مَن أفتى واجْتهد, ولا يُعرف عنه التبحر في العلم والفتوى, فهذا مَسْرُوقٌ -رحمه الله- يقول: "كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بن مسعود جُلُوسًا، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ بَيْنَنَا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ, إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ يَقُصُّ وَيَزْعُمُ، أَنَّ آيَةَ الدُّخَانِ تَجِيءُ فَتَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ- وَجَلَسَ وَهُوَ غَضْبَانُ-: يَا أَيَّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ، مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِمَا يَعْلَمُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللهُ أَعْلَمُ". (متفق عليه).

 

لم يسبّه ولم يجرحْه, ولم يتهم نيَّته, ولم يقل: هذا جاهل, وهذا هو الرفق الذي لا يكون في شيءٍ إلا زانه, فلو ردّ عليه بعنفٍ لربما أخذَتِ المردود عليه العزة بالإثم, واستمر على خطئه وأصر عليه.

 

وقد سار عُلَماء الخلف على نهج علماء السلف, فمن تأمل فتاوى الإمامين ابنِ باز وابنِ عثيمين -عليهما رحمةُ الله-, رأى فيها الردّ على المخالفِ الْمُجتهدِ مِن أهل السنة بالرفق واللين, وعدمِ ذكر اسْمه وجرحِه, بل وكثيرًا ما يُسألان عن فتوى لأحد الدعاة أو العلماء, فيَتَّصلان به للتأكُّدِ مِنْ صحة ذلك, فإنْ ثبت عنه ذلك نصحاه ووَعَظَاه برفقٍ ولين, وهكذا جمع الهد بهما الكلمةَ وألّف القلوب.

 

وما تقدم تقريره من عدم القدح فيمن أفتى بفتوى خاطئة, إنما هو في حقّ من عُرف بالعلم والصلاح, أما مَن عُرف عنه الجهلُ والفساد, وحبُّ الظهور والبروز, والإفتاءُ بالفتاوى الغريبة, فينبغي أنْ يُبيَّن حالُه, ويُشهَر بين الناس ضلالُه.

 

هذا وللحديث بقيّةٌ بمشيئة الله تعالى.

 

نسأل الله تعالى أنْ يُعلِّمَنا ما ينفعُنا, وينفَعَنا بما علّمنا, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن من أعظم ما تميّزت به هذه الدولةُ المباركة: رعايتَها للقرآن, واعْتِناءَها به, فأنشأت الجمعياتِ والمدراسَ والكلياتِ والجامعات, التي تعتني بالقرآن, ورعتْ أهلَه طلابًا ومُعلّمين.

وقامتْ بطباعته وتوزيعه على المسلمين في الداخل والخارج.

 

ولا غرابة في ذلك, فهي على يقين بأنّ التمسّكَ به والعملَ به سببٌ للعزّ والنصر والتمكين, والنجاةِ من الفتن والمحن والرزايا.

 

وإننا نحمد الله –تعالى- على هذه النعمة العظيمة, التي تستوجب منّا الشكر والإشادة والثناء. ونشكر المسئولين على ذلك, وعلى رأسهم قيادةُ هذه البلاد المباركة.

 

ونخُصُّ بالشكر وزيرَ التعليم -حفظه الله- على اهتمامِه بالقرآن الكريم, وقرارِه الصائبِ بفتح فصولِ تحفيظِ القرآن في مدارسِ التعليم العام.

 

وينبغي للآباء الحريصين على أبنائهم, أنْ يستغلّوا هذه الفرصة السانحة, فيُلحقوا أولادَهم في هذه المحاضن الآمنة النافعة.

 

ولقد تميز طلاب وطالبات التحفيظ بالتفوق والنبوغ, والسلامةِ من الانحرافات الأخلاقيّة والعقائدية غالبًا.

 

وقد أُجريتْ دراسةٌ على طلاب الحلقات المتميّزين, فأظهرتْ بأنّ الانتظام في حلقات التحفيظ, لا يتعارض مع قدرة الطلاب على التحصيل العلمي في المدارس والجامعات، بل إنَّ حفظ القرآن له دورٌ كبيرٌ في زيادة التحصيل العلمي والنّبُوغ، حيث إنَّ أكثر من سبعين بالمائة من حُفاظ القرآن متفوقون في دراستهم, وَيَحْصُلُون على المراكز الأولى في المدارس والجامعات, وما يزيد على ستّين بالمائة من الحفظة, يسلكون طريق التعليم الجامعي ويتفوقون فيه, بما في ذلك الكليات العلمية, وقد أكَّدَ عميدُ كليةِ الهندسة بجامعة الملك عبد العزيز, أنَّ معظمَ طلاب كليتي الطب والهندسة المتميّزين, هم من أبناء الحلقات.

 

نسأل الله –تعالى- أنْ يجعل القرآن ربيع قلوبنا, ونور صدورنا, وجلاء همومِنا وأحزاننا, إنه على كلّ شيءٍ قدير.

 

 

 

المرفقات

السلف في الفتوى, والرد على المخالف- والحديث عن أهمية مدارس وفصول القرآن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات