محمد فقهاء
الحمد لله ذي الفَضْل المبين، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله رب العالمين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله سيِّد المرسلين، وخيرُ الأوَّلين والآخِرين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدِّين.
وبعد:
لقد بيَّن القرآن الكريم أنَّه ما من رسولٍ أُرسل إلاَّ لِيُطاع ويُتَّبع؛ وهذا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، وكذلك الحال تِباعًا مع رسولنا الأكرم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فقد قال الله تعالى مُخاطِبًا المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [النساء: 59]، فهذا الخطاب المُوَجَّه للمؤمنين فيه أمرٌ وحثٌّ لهم بطاعته، فالآية التي ذكرتها أوَّلاً توجيهٌ عام بأنَّ الرُّسل ما بُعِثوا إلاَّ لِيَكونوا مُطاعين، يَتْبعهم النَّاس في كلِّ ما جاء به رَسولُهم الذي أُرسِل إليهم، فيأتَمِرون بما يأمرهم به، وينتهون عمَّا نَهاهم عنه، وطاعة الأنبياء والرُّسل مُطْلقة؛ لأنَّهم مَعْصومون من الله تعالى، ولولا عِصْمتهم ما أمَرَ الله بطاعتهم طاعةً مطلقة، وهذه الآية كذلك تأتي في ضمن طاعة النبِيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فأمرت المؤمنين بطاعته.
وقد بيَّن الله أنَّ ما جاء به الرسولُ في أمور الدِّين نحن مأمورون بالأخذ به، وأنَّ ما نهانا عنه فعلينا الانتِهاء عنه؛ ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، فأمر الرَّسول هو كأمر الله في الاتِّباع، ولا يحلُّ تقديم أيِّ قول بعد قول الله تعالى على قوله صلَّى الله عليه وسلَّم بل ورتَّب العذاب الشَّديد، والنَّكال على مَن يُخالف أمره صلَّى الله عليه وسلَّم فنحن نأخذ ما أُمِرنا به، ونخلع ما نُهِينا عنه.
وقال تعالى أيضًا مُحذِّرًا مَن يخالف أمره: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، فالله يَنْصحهم بألاَّ يُخالفوا أمر الرسول؛ لأنه سيصيبهم شرٌّ من مُخالفته وعذابٌ أليم.
ولَم يقف الحدُّ عند هذا، بل جعلَ من طاعته صلَّى الله عليه وسلَّم طاعةً لله؛ أيْ: مَن يُطِع الرَّسول فهو مطيعٌ لله؛ ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، مَن أخذ بأوامره وانتهى عن نواهيه، فقد أطاع الله؛ لأنَّه كما ذكرتُ آنِفًا أنَّ أوامره ونواهيه إنَّما هي من عند الله، ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3 - 4]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عصاني فقد عَصى الله))... الحديث، فهذه النُّصوص توجب علينا طاعة الرَّسول بِما جاء به مشرِّعًا عن الله تعالى؛ وذلك بالاقتِداء به قولاً وعمَلاً، بكلِّ ما أُثِر عنه وثَبت، وأن نتجنَّب ما نهى عنه، وإنَّ طاعة الله مرتبطةٌ بطاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وطاعة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم دليلٌ على محبَّة العبد لله تعالى، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾ [آل عمران: 31]، فعَلامة مَحبَّة الله تعالى هي الاتِّباع، ولا يَكون هذا إلاَّ إذا كان واقِعًا نَحْياه في حياتنا، في السرَّاء والضرَّاء، وفي الشدَّة والرَّخاء، وفي العسر واليُسر، والمَنْشَط والمَكْرَه.
وطاعة الرسول يترتَّب عليها الثَّواب والعقاب؛ فإنَّ هذه النُّصوص ليست فقط لِمُجرَّد السَّرد والمُطالَعة، وليس فِعْل أوامره واجتناب نواهيه مجرَّدَ طقوسٍ تُؤدَّى في الحياة الدُّنيا وحَسْب، بل رتَّب الله تعالى على طاعته ثوابًا وعقابًا في الآخرة، فالثَّواب الجزيل لِمَن أطاعه، والعذاب الأليم والنَّكال لمن عصاه، وردَ عن النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: ((كلُّ أمتي يَدْخلون الجنة إلاَّ من أبى))، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخلَ الجنَّة، ومن عصاني فقد أبَى))؛ البخاري في "صحيحه"، فطاعته سببٌ لدخول الجنَّة، ومخالفة أمره سببٌ للوقوع في الفتنة والعذابِ الأليم ودخول النَّار.
وأختم بهذا الحديث الَّذي رواه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً أكل عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بشماله فقال - أي: النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كُل بيمينك))، قال: لا أستطيع، قال - أي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا استطعْتَ، ما منَعَه إلاَّ الكِبْر))، قال: فما رفعَها إلى فيه.
فشُلَّت يد هذا الرجل بسبب تكَبُّره عن سُنَّة النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبسبب دُعاء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عليه، ولولا أنَّ أمر السُّنة مهمٌّ لِهذه الدَّرجة لما أمَرَنا الإسلام بكلِّ هذا الأمر، ونبَّهَنا عليه بشدة، ونستنتج من الحديث:
1 - أنَّه لو كان أمر الأكل باليمنى واتِّباع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أمرًا هيِّنًا لَمَا شُلَّت يده بسببها.
2 - والحذر من مُخالفته صلَّى الله عليه وسلَّم حتى ولو في أمورٍ نعدُّها بسيطة.
3 - والحذر من التكبُّر عن سُنَّة الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم أو الحَطِّ من شأنها.
ومع كلِّ هذه الأوامر، فإنَّنا نجد الكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، يتَهاونون بها ويحطُّون من شأنها، وقد تشبَّهوا بالأجانب في مأكلهم ومشربهم، ونِكاحهم وزيِّهم، وأمور حياتهم كلها من ألِفها إلى يائها، فكان هَدْي الكفار أقرب إلى قلوبهم وأحبَّ من هدي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والله المُستَعان.
والحمد لله ربِّ العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم