اقتباس
يوم عظيم من أيام الله تعالى، أعز الله فيه القلة المؤمنة المستضعفة على جحافل الكفار المتغطرسين الذين أخذتهم حمية الجاهلية، وسكرة الغفلة، ومكروا واستكبروا على عباد الله الموحدين، فأنزل الله بأسه بهم، وحاق بهم النكال، وخسروا مجدهم وعزهم، ومرَّغ المؤمنون أنوف كبريائهم في التراب، وردَّ الله الذين آمنوا إلى مأمنهم لم يصبهم شرّ ولا أذى، إنه يوم بدر، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان..
في وسط أجواء هزيمة نفسية سيطرت على كثير من ضعاف الإيمان، خاصة مع طغيان الكافرين، وتلون المنافقين، وعلو الروافض، ورغبةً في بثّ روح العزة والأنفَة في قلوب المسلمين، وإيمانًا بأن تاريخ أمتنا ناصع البياض ليس فيه ما يُستحى منه، وتذكيرًا بيوم من أيام الله تعالى، لهذا وغيره هذه دعوة للعودة إلى دراسة السيرة النبوية العطرة، واستلهام دروسها، والاستفادة من عبرها التربوية، فما أحوج الأمة إلى العودة إلى معين السيرة النبوية العطرة، تستقي من روضها ما فيه حياتها.
ومن أركان السيرة النبوية غزوات النبي –صلى الله عليه وسلم- المباركة، التي كان منطلقها نشر الدين والدفاع عن العقيدة، وإبعاد الطواغيت الذين تسلطوا على أديان الناس وعقائدهم، وإفساح الطريق أمام دعاة الحق لإعلام مبادئ هذا الدين ليدخل فيه من يشاء برغبة وإرادة واقتناع، ليحيى من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ولتستبين سبيل المحرمين.
وغزوة بدر لها مكانة عظيمة في دين الله -تبارك وتعالى-، فهي يوم عظيم من أيام الله تعالى، أعز الله فيه القلة المؤمنة المستضعفة على جحافل الكفار المتغطرسين الذين أخذتهم حمية الجاهلية، وسكرة الغفلة، ومكروا واستكبروا على عباد الله الموحدين، فأنزل الله بأسه بهم، وحاق بهم النكال، وخسروا مجدهم وعزهم، ومرَّغ المؤمنون أنوف كبريائهم في التراب، وردَّ الله الذين آمنوا إلى مأمنهم لم يصبهم شرّ ولا أذى، إنه يوم بدر، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان..
التقى الضعفاء القلة المؤمنة التي خرجت لا للحرب ولا للقتال، وإنما للاسترداد بعض حقوقهم عند من عصبوهم أرضهم وديارهم، وسلبوا أموالهم، ولكن الله أراد أمرًا آخر غير المال، فقد شاء الله وقدَّر أن تنجو القافلة، ويعرب أبو سفيان إلى مكة بالمال والقافلة والجمال، وهنا فوجئ المسلمون بصلَف واستكبار الكافرين، ووجدوا أنفسهم مضطرين للمعركة والنزال، وإذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه، وما أصدق القائل:
وإذا لم تكن إلا الأسنةُ مركباً *** فما حيلةُ المضطر إلا ركوبها
ليس هناك مفر ولا مهرب، إنها الحرب بشدائدها، والمسلمون قلة، والعدو متجبر متكبر، ولم يخرج من الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلا عدد قليل، وهنا رغب الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى ربه، ولجأ إليه لجوء المضطر، ورتَّب أصحابه وعبّأ جيشه، ووقعت الملحة ونصر الله هؤلاء الضعاف القلائل على تلك الجحافل المشركة، وكان يومًا عجيبًا من أيام الله تعالى.
إن غزوة بدر الكبرى تعد إعلانًا لبدء حياة جديدة، تعلو فيها كلمة الحق؛ لبناء عقلية جديدة مستضيئة بنور الهدى والإيمان؛ ولذا سماها الله تعالى الفرقان في سورة الأنفال.
والمتأمل في أسباب انتصار المسلمين في هذه الغزوة يجد أن التوكل على الله وحده، والاعتماد عليه سبحانه، والاستنصار به -جل وعلا-، ودعاؤه والاستغاثة به: كما كان نبينا يفعل، ومن يقرأ قصة غزوة بدر يجد ذلك واضحاً حيث قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ" فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.." (رواه مسلم).
ومن عوامل النصر: الصبر والثبات: سواء كان ذلك في المعركة، أو قبل المعركة: صبر على الابتلاء، صبر على المحن، فلا يمكن أن يمكن لهذا الدين إلا بعد ابتلاءات ومحن، ثم إذا صُفي ونُقي جاء التمكين، وجاء النصر، فلابد من صبر وثبات كما قال جل وعلا:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا...)[سورة الأنفال: 45]. وكما قال سبحانه: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة الأنفال: 66].
ومن عوامل النصر: الإكثار من ذكر الله تعالى، قال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...)[سورة الأنفال: 5]، فإذا قارنت هذا الأمر الإلهي الذي طبقه النبي وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، ثم قارنته بهذا العصر الذي تعيشه الأمة المأزومة هنا وهناك؛ وجدت أن أهل هذا العصر يدخلون المعركة، وهم يغنون، ويرقصون؛ فتكون النتيجة هزيمة ساحقة، وخيبة ماحقة.
ومن أسباب النصر: وحدة صف الأمة: أما إذا كانت مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها، ولذلك صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- لما أراد أن يستخلص بيت المقدس من أيدي الصليبيين أول أمر فعله أن قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت، وهي: مصر والشام، فلما وحدها نهض لقتال الصليبيين، فوحدة الصف المسلم سبب من أسباب النصر والتمكين، وأما إذا كان المسلمون مفرقين فإن النصر منهم بعيد.
ومن أسباب النصر: وجود القيادة المؤمنة القوية: فالقيادة العلمية القوية وقيادة الدنيا إذا اجتمعتا تحقق النصر والتمكين، أما إذا وجدت القيادة العلمية، ولكن ليس معها قوة تحميها وتدافع عنها وتجاهد لنشرها فإنها لا تقوى ولا تنتصر.
ومن أسباب النصر: إعداد العدة والأخذ بالأسباب: قال الله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)[سورة الأنفال: 60]؛ كل شيء تستطيعه الأمة من أسباب القوة، فأعدوه صغيراً كان أو كبيراً ما دمتم تستطيعونه عليكم أن تعدوه، فنحن مطالبون بأن نعد ما نستطيع ولسنا مطالبين بأن نعد ما لا نستطيع.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعد أسباب القوة، وفعل الأسباب المتوفرة في عصره، والتي استطاع أن يفعلها، فلبس الدرع يوم أُحد، وحفر الخندق يوم الأحزاب، وأخذ السلاح وأعد الجنود، وأعد القادة ورباهم، وأعد الأموال فكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره. لكن ينبغي أن نعلم أن الاعتماد لا يكون على الأسباب إنما على الله القوي العزيز وحده.
لقد كانت غزوة بدر التي ابتدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه ومدده فرقانًا بين الحق والباطل، ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء، الحق الذي يتمثل في تفرد الله -سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشى على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!
كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك. فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء وللقيم والأوضاع وللشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات - وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه.
كانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصورًا جديدًا للحياة، ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض، فلم يكن الإسلام يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه يتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم، ولم يكن له بُدٌّ في أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد والمنهج الجديد والدولة الجديدة والمجتمع الجديد في واقع الحياة وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تَكبتها، وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في الحياة.
وكانت غزوة بدر فرقانًا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة؛ فجَرَتْ وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة حتى لقد قال: المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ)، وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهى المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة، لتكون فرقانًا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين، حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية؛ لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلامًا يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
ولأجل هذا وضعنا بين أيديكم -أيها الخطباء الفضلاء- مجموعة من الخطب المختارة عن غزوة بدر الكبرى؛ لعلنا ننتفع بما فيها من عظات وعبر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات