عناصر الخطبة
1/ذكريات النصر 2/ فوائد التاريخ 3/ رمضان مدرسة الجهاد 4/ سبب الغزوة 5/ مشاورة النبي للصحابة 6/ النبي يعد المؤمنين بالنصر 7/ إلحاح النبي في الدعاء 8/ مدد من الملائكة 9/ قصة عمير بن الحمام 10/معجزة كف التراب 11/ انتصار المسلمين 12/ بطولات شابين 13/ جبريل المسلمين وشيطان المشركين 14/ دروس التاريخ .اهداف الخطبة
ذكر الدروس والعبر من غزوة بدر / الدعوة إلى قراءة التاريخ .عنوان فرعي أول
هو المدرسة العظمىعنوان فرعي ثاني
ثلاثمائة وبضعة عشرعنوان فرعي ثالث
هذا مصرعُ فلاناقتباس
وكم هو جدير بالأمة تعيش هذه الأيام المباركة -رمضان- كما تعيش حالات وأوضاعاً شتى يظهر فيها المد والجزر، والتفرق و الاختلاف، وتبرز فيها التحديات العظمى في صور شتى من أعدائها كم هو جديرٌ بها أن تستلهم من تأريخها الدروس والعبر فيما عاشه المصطفى صلى الله عليه وسلم، من رمضانات كانت تبعث فيها السرايا، وتجهز الجيوش وتخاض المعارك،
الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، له الحكم كله، وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسره، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأرسل رسله بالبينات والهدى، وأيدهم بالمعجزات والقوى، ليقوم الناس بالدين الخالص لرب الأرض والسماوات العُلى، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبد الله ورسوله المجتبى، علمه شديد القوى، صلى الله عليه وعلى آله أولى الأحلام والنهى، وصحبه الذين اهتدوا والتابعين ومن تبعهم على سبيل الهدى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوه ولا تعصوه، فبتقوى الله سبحانه تحصل السعادة، وتطمئن القلوب، وتنشرح الصدور، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق: من الآية4].
أيها المسلمون:
في تجديد الذكريات تجد النفوس سلوتها، وتستذكر الأجيال تأريخها، وتأنس القلوب وهي تعيد النظر كرةً بعد أخرى في سير أمجادها وسجلات أبطالها، وتعظم هذه الذكريات وتزهو حين تكون ذكريات نصر وخير وفداء وبطولة، يتوجها شرف الزمان والرجال:
فالزمان: شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
والرجال: محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من المهاجرين والأنصار –رضي الله عنهم وأرضاهم- خير القرون، وأزكى الأمم، وأبرُّ الأجيال.
عباد الله:
والأمم جميعاً اعتادت على قراءة سيرة روادها، وقداسة قوادها وأبطالها، والنظر في سيرهم وحياتهم، والوقوف معها وقوفاً لا يكمن في روايات تتلى، أو قصص تروى، وإنما هو وقوف على عبرٍ ومواقف تبصر المسلم بتأريخه يأخذ منها العظة والعبرة في حياته وتأريخه، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
وكم هو جدير بالأمة تعيش هذه الأيام المباركة -شهر رمضان المبارك- كما تعيش حالات وأوضاعاً شتى يظهر فيها المد والجزر، والتفرق و الاختلاف، وتبرز فيها التحديات العظمى في صور شتى من أعدائها كم هو جديرٌ بها أن تستلهم من تأريخها الدروس والعبر فيما عاشه المصطفى صلى الله عليه وسلم، من رمضانات كانت تبعث فيها السرايا، وتجهز الجيوش وتخاض المعارك، فرمضان أيها الإخوة ليس موسماً للكسل والخمول والراحة والاستجمام، بل هو مدرسة الجهاد الكبرى، وفرصة الانتصارات العظمى، وما معركة بدر الكبرى وفتح مكة وعين جالوت ومعركة حطين وغيرها كثير إلا نماذج على ذلك.
نعم! أيها المسلمون:
إن رمضان هو موسم النصر والعزة لحزب الله؛ الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهو شهر الجهاد الذي يبدأ بجهاد النفس، وينتهي بجهاد العدو بعد. سلسلة من الصبر والمصابرة، تتمثل في الجهاد بالمال، والتضحية بالبدن والوقت، في أداء فريضة أو قيام بنافلة أو دعوة إلى سبيل الله، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.
ورمضان –أيها الإخوة- هو المدرسة العظمى التي تربي فيها الفاتحون الأولون الذين خرجوا ليفتحوا الدنيا بكلمة التوحيد الخالص:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويملأوا المعمورة عدلاً كما مُلئت جوراً؛ بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه.
وحسبُنا -أيها الإخوة- أن نقفَ وقفات سريعة مع بعض أحداث معركة بدر الكبرى التي وقعت في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان المبارك من العام الثاني للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
وحديث الغزوة حديث طويل لا تمله النفوس المؤمنة، ولكننا نجتزئُ بعض أحداثها المهمة.
عباد الله:
لقد كانت معركة بدر الكبرى فرقاناً بين الحق و الباطل أول معركة حاسمة بين المسلمين والمشركين، ونصر الله فيها عباده المؤمنين نصراً مؤزراً، وسجل عليهم المنة العظمى إلى يوم الدين: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران:123].
لم تعرف الدنيا أفقر ولا أضعف ولا أذل من العرب، حتى بعث فيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجاءهم الله بالإسلام فمكن لهم في البلاد، وأوسع لهم في الأرزاق.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنّ أبا سفيان مُقبلٌ من الشام في ألف بعير للمشركين فيها أموالٌ عظيمة لم يبق في مكة مشركٌ ولا مشركةٌ إلا بعث بماله كله في هذه العير، فندب المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج معه قائلاً: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله أن يغنمكموها".
فخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، من كبار الصحابة مهاجرين وأنصار. وإنما تخلف البقية الباقية لأنهم لم يعلموا بالقتال.
وبلغ أبا سفيان الخبر فأرسل إلى مكة يستنجد قومه، فهبت إليه قريش برجالها وعتادها، بطراً ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل، وأقبلوا بحدّهم وحديدهم يُحادون الله ورسوله وجاؤوا على حردٍ قادرين، وعلى حميةٍ وغضب وحنقٍ على رسول الله وأصحابه. وكانوا قرابة الألف ملحد، جاؤوا من غير ميعاد، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:الآية42].
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خرج المشركين لقتاله استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانياً فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثاً، فعرف الأنصار أنه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال أجل. قال: يا رسول الله: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق رسولاً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجلٌ و احد، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدوّنا، إنّا لصُبُرٌ في الحروب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعلَّ الله يُريك منّا ما تقرُّ به عينُك، فسْر بنا على بركة الله.
فتهلّلَ وجهُه صلى الله عليه وسلم لذلك، وقال: سيروا وأبشروا فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم. (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:7].
وسار المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى نزلوا ماء بدرٍ بمشورة الحِبَابِ ابن المنذر –رضي الله عنه- فصنعوا الحياض، وغوروا ما عداها من المياه؛ منعاً للمشركين منها.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في موضع المعركة، ويُشير بيده إلى مصارع القوم، وهو يقول: هذا مصرعُ فلان، وهذا مصرعُ فلان، وهذا مصرع فلان، إن شاء الله. قال أنس –رضي الله عنه-: "فما تعدى أحدٌ ممّن سمّى موضع إشارته".
فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم –وقد رفعَ يديه إلى السماء-: "اللهم هذه قريشٌ جاءت بخيلائها وفخرها تُحادك وتكذب رسولك، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تَهلِك هذه العُصابةُ لا تُبعدُ في الأرض". وأخذ يُلحُّ على الله في الدعاء حتى سقطَ رداؤه عن ظهره فالتزمَه أبو بكرٍ -رضي الله عنه- من ورائه وقال: يا رسول الله أبشر فو الذي نفسي بيده ليُنجزنّ الله لك ما وعدك. رواه البخاري ومسلم.
واستفتحَ أبو جهل في ذلك اليوم يدعو اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وهو يقول: "اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فاحْنِهِ الغداةَ، واللهم أيُّنا كان أحبَّ إليك وأرضى عندك، فانصره اليوم.
فأنزل الله تعالى: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:19]. واستنصر المسلمون الله الذي يُجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه، فأوحى الله إلى ملائكته (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: من الآية12].
وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9].
وبدأت المعركة بالمبارزة، ثم حمى القتال، واشتدت رحى الحرب، وقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس، فوعظهم وذكرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظَفَرِ العاجل، وثواب الله في الآجل، وأخبرهم أنّ الله سبحانه قد أوجب لمن اٌستُشهِدَ في سبيله الجنة، فقام عمير بن الحمام –رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله! جنّةٌ عرضها السماوات والأرض؟!. قال: نعم! قال: بخٍ بخٍ يا رسول الله، قال: ما يحملك على قولك بخٍ بخ. قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج ثمراتٍ كن في قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل، فكان أول قتيل في المعركة. كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنّه كان غفوراً رحيماً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على أفضل المصطفين محمد وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وانصروا الله تعالى ينصركم ويثبت أقدامكم.
أيها المسلمون:
ولما اشتبك القتال في بدر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه العدو، فلم تترك رجلاً منهم إلا ملأت عينيه، وشُغلوا بالتراب في أعينهم، وشُغل المسلمون بقتلهم، فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:17].
وجاء النصر من عند الله، وأنزل جنوداً لم يرَها المسلمون، وأيد رسوله والمؤمنين، ومنحهم أكتاف المشركين أسراً وقتلاً، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين من صناديدهم الذين كانوا يسومون المستضعفين من المؤمنين سوء العذاب، وتلك الأيامُ يداولها الله بين الناس.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: "بئس عشيرةُ النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس". ثم أمر بهم فسبحوا إلى قليب في بدر فطرحوا فيه.
عباد الله:
لقد كانت معركة بدر الكبرى فرقاناً بين عهد المصابرة والصبر والتجميع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.
فعن عبد الرحمن بن عوفٍ –رضي الله عنه- قال: "بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من أنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدُهما وقال: يا عمَّ! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم! وما حاجتُك إليه يا بن أخي؟. قال: أُخبرتُ أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يُفارقُ سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا. قال: فلم ألبث أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت، لهما: إنّ هذا صاحبُكما الذي سألتماني عنه، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه، فوقع صريعاً، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن الجموح –رضي الله عنهما-. والقصة في الصحيح.
ثم مرَ به عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فوجده صريعاً فاجتزَّ رأسه.
الله أكبر يا عباد الله: صنديد من صناديد المشركين كان مع بدء المعركة يجول في المشركين يُحرضهم على القتال قائلاً: لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلاً قتل رجلاً منهم، ولكن خذوهم حتى؛ تُعرِّفوهم سوء صنيعهم؛ من مفارقتهم إياكم ورغبتهم عن اللات والعزى، يأبى الله سبحانه إلا أن يكون حتفه على يد غلامين من الأنصار، ويقتطع عنقه رويعي الغنم عبد الله بن مسعود.
لقد كان معركة بدر بحق فرقاناً بين الحق والباطل على مستوى الكون كله، فقد كان الموجه لها هو الله من فوق عرشه سبحانه وتعالى، وقائدها جبريل ومحمدٌ –عليهما السلام- تحت راية التوحيد.
أما المشركون فقائدهم إبليس –عليه لعنة الله-، والموجه للمعركة أبو جهل –فرعون هذه الأمة- تحت راية الأوثان، حيث حشد الباطل جنوده كلهم وعلى رأسهم إبليس الذي زيّن لهم أعمالهم، (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:48].
وذلك أنّه دخل معهم في صورة سُراقة بن مالك، فلمّا رأى ما تفعلُ الملائكة بالمشركين أشفق أن يخلص القتل إليه، فخرجَ هارباً، وقال: إني بريءٌ منكم، إنّي أرى ما لا ترون، وألقى بنفسه في البحر.
عباد الله:
ولقد كانت معركة بدر فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر والهزيمة، فقد بدأت المعركة وكل عوامل النصر الظاهر في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرة في صف العصبة المؤمنة حتى قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ ) [الأنفال: 49].
وهذه حكمة عظيمة من الله تعالى ليُبين للناس جمعاء أن النصر للعقيدة الصالحة التي تحرك النفوس لا لمجرد السلاح والعتاد، وصدق أبو جهل وهو كذوب: لئن كُنَّا إنّما نقاتلُ الله كما يزعمُ محمدٌ فما لأحدٍ بالله من طاقة.
وإنّ مآسي المسلمين المتكررة وهزائمهم المتلاحقة في هذه العصور المتأخّرة لا ترجع إلى قلة العتاد والقوة، وإنما هي بسبب تخاذلهم وبعدهم عن دين الله، وتناحرهم وانغماسهم في اللذائذ والمشتهيات:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
نعم يا عباد الله:
ما جرّأ الأعداء على الأمة، وأزرى بها، وأفقدها ريادتها إلا تخلى أبنائها عن تأريخم، وتفريطهم في إسلامهم، وابتعادهم عن تعاليم دينهم، وتقليدهم للغرب والكفرة، وإلى الله نشكو جلد الفاجر وعجز الثقة.
ولا يلام الذئب في عدوانه إن غدا الراعي عدو الغنم
وبعد أيها المسلمون:
فهذه بعض نماذج الرعيل الأول وتضحياته نقرؤها اليوم –والتأريخ مليءٌ بالبطولات، والعبر التي سجلها المسلمون يوم كانوا مسلمين بحق – وكأنّها في أنظارنا ضرباً من الخيال أو الخوارق أو المعجزات المستحيلة الوقوع، عندما انقلبت انتصارات المسلمين إلى هزائم متلاحقة، وصارت كالجسد الميت لا تؤلمه السياط ولا تحركه الضربات التي تجري له، وما لجرح بميت إيلام.
فواهاً لأمجاد المسلمين التي سطرها السلف وضيعها الخلف الذين شُغلوا بالشهوات والملهيات عن العمل لنصرة دينهم ورفعته.
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم