اقتباس
إن حادثة عسير وما تحمله من دلالات من الهجوم على المساجد، واستباحتها، وقتل المصلين فيها، وترويع الآمنين، لهي عمل إجرامي تخريبي جبان، يقطر حقدًا وغدرًا، استطاع أصحاب الفكر الضال غسل أدمغة بعض الشباب المندفع المتحمس لدينه، فأنزلوا نصوصًا محكمة نزلت في قوم محادين لله ولرسوله معرضين عن شريعته في قوم من المسلمين المصلين، فتجرأ هذا الحدث الغرّ فأحدث أحداثًا في المسجد لا يقبلها...
جريمة بشعة جديدة تضاف للأحداث المفزعة والغريبة التي تقع في بلاد الحرمين، جريمة تنشر الفتن، وتُحدث الاضطرابات، وتخلف قتلى وجرحى، وتصنع إحنًا ومحنًا، جريمة فيها اجتراء على حرمات المساجد، وإشعار المصلين بعدم الأمان فيها والفرار منها، وإن استباحة المساجد بالتفجيرات وقتل المصلين جريمة شنعاء أنتجتها نيران الحق البغيض والجهل واتباع الأهواء المضلة والفتن العمياء.
إن المسجد في الشريعة الإسلامية مكان طاهر، أُعدّ ليجتمع الناس فيه لعبادة الله –تعالى- ولإقامة الشعائر الدينية، وتعظيمه من أفعال عباد الله المتقين، قال الله –تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32].
ولقد حسَّ الإسلام على بناء المساجد ورفعها وتطييبها وتنظيفها وجعل في ذلك الأجر والمغنم في الدنيا والآخرة، وكذا جعل في المشي إليه والصلاة فيها وعمارتها درجات وحطًّا للخطيئات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تطهر في بيته، ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة» (صحيح مسلم 666).
ومن المؤلم أن تنبت في المسلمين نابتة سوء لا يعظّمون المساجد، ويعتدون عليها، ويسعون إلى خرابها؛ إما بهدمها أو بتعطيلها من العبادة، ويقتلون العبّاد الذين يرتادونها، وهل يوجد أحد أشد عداوة إفسادًا من هؤلاء؟! قال الله –تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[البقرة: 114]، وليس هناك أحد أظلم ممن يقوم بتفجير المساجد، ويسعى في خرابها، ويقتل المصلين والذاكرين فيها.
إن المسجد مكان عبادة وأمن، من لجأ إليه يأمن، وله مكانته السامية في قلوب المسلمين فهم يعظمونه ويجلونه، قال الله –تعالى-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[التوبة: 18]، فكيف يتجرأ هؤلاء على تفجير المساجد فيخربونها ويقتلون من فيها؟! وهم يزعمون أنهم مهتدون!!، ويدلّسون على الشباب بأنهم مجاهدون!!، ألا إنهم هم الكاذبون.
كما أن المساجد أماكن يحبها الله –تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" (صحيح مسلم: 1/ 464)، ولذا كان زوار المساجد هم ضيوف الرحمن، ووعدهم الله –تعالى- بالتكريم والتقدير، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ" (صحيح البخاري: 1/133)، فكيف يُهددون بالقتل والتفجير؟!.
ومن صور تعظيم الإسلام للمساجد: تحريم أذى المسلمين فيها بأي وسيلة حتى ولو كانت غير مقصودة، ومن ذلك دخول المسجد بالسلاح، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا، أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، - أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ -، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْء" (صحيح البخاري: 9/ 50).
وإن هذه الأحداث المؤلمة لتصيب المسلم بالهموم والأحزان، ولا نجاة من ذلك إلا بالاعتصام بالله -تعالى-، ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين من فتن آخر الزمان، وأمر المسلم بالاعتصام بحبل الله ودينه، وعدم الانسياق خلف الأهواء والفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: " وإنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضًا.. فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤْتَى إليهِ" (صحيح مسلم 1844)، فمن أراد أن يُرْحَم فليرحمْ هو خَلق الله، ومن أراد أن تُصان أمواله ونفسه، فليبدأ هو وليسلم الناس من لسانه ويده، وهذا هو المؤمن.
ومصداق ذلك ما ثبت عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوداعِ: "هذا يومٌ حرامٌ وبلَدٌ حَرامٌ، فدماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكم حرامٌ مثلُ هذا اليومِ وهذا البلدِ إلى يومِ تلقونَهُ وحتَّى دَفعةٌ دَفَعها مسلِمٌ مسلِمًا يريدُ بها سوءًا، وسأخبرُكم مَنِ المسلمُ؛ من سلمَ النَّاسُ من لسانِهِ ويدِهِ، والمؤمنُ من أمِنهُ النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم، والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذُّنوبِ والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ تعالى" (مختصر البزار 1/464، وقال ابن حجر العسقلاني: إسناده صحيح)، فهذا هو التعريف النبوي للمسلم والمؤمن والمهاجر يا عباد الله، فهل نعي ونتدبر ومن ثَم نمتثل ونعمل؟!
إن من صور الغلو الممقوتة: الاجتراء على دماء المسلمين المعصومة، وسفك الدم الحرام، وترويع الآمنين، وزعزعة الأمن في الأوطان، ونشر الخوف والفتن فيها، وقد حفلت النصوص الشرعية بالنصوص المتواترة التي تحذر المسلم التحذير الشديد من الدماء المعصومة، فقال رب العالمين: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93]، وهذا وعيد شديد لمن اجترأ على الدم الحرام فسفكه، واعتدى على أرواح آمنة، وأنفس مطمئنة، فقتلها، فويل له يوم يقوم الناس لرب العالمين!!
وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " لا يَزَالُ العبدُ في فَسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا" (صحيح الجامع 7691)، وتأمل في هذا الحديث، يظل العبد في سعة، إذا أذنب استغفر، وإذا ذلّ في معصية تاب، وإذا أطاع ربه قَبِل الله منه، حتى يقع في ورطة عظيمة وداهية شديدة، بأن يلوث يده بالدماء المعصومة، عندها يضيق عليه دينه، ويعظم عند الله جُرْمه، وتسود صحيفته، وتضيق عليه نفسه، وتظلم روحه، ويجد الهمّ في قلبه، ولِمَ لا، وقد هدم بنيانًا شيّده الله، وأمر بصيانته وعدم أذاه؟!
ومما جاء من التحذير الشديد من الاعتداء على المسلمين، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طاف يومًا حول الكعبة ونظر إليها فقال: "ما أطيبَكِ وأطيَبَ ريحَكِ ! ما أعظمَكِ وأعظمَ حُرمتَكِ ( يَعني الكعبةَ ) والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ لحُرمةُ المؤمنِ أعظَمُ عندَ اللَّهِ حرمةً منكِ مالِهِ ودمِهِ ، وأن يُظنَّ بهِ إلَّا خيرًا" (صحيح الترغيب: 2441).
وسياق هذا الحديث كأنه يقول: إذا كان المسلم يعظّم بيت الله الحرام، ويشد إليه الرحال، وينفق من أجل زيارته الأموال؛ فإن أخاه المسلم بجواره وبالقرب منه، أعظم حرمةً وأجلّ مكانةً من بيت الله الحرام، فهل يعني مسلمو هذا الزمان هذا التوجيه النبوي الكريم؟!
وقد فهم الصحابة هذه النصوص، وقدّروها حق قدرها، فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ –رضي الله عنهما- أنه قال: "إن مِن وَرَطاتِ الأمورِ، التي لا مَخْرَجَ لمَن أَوقعَ نفسَه فيها، سفكَ الدمِ الحرامِ بغيرِ حلِّه" (صحيح البخاري: 6863).
إن حادثة عسير وما تحمله من دلالات من الهجوم على المساجد، واستباحتها، وقتل المصلين فيها، وترويع الآمنين، لهي عمل إجرامي تخريبي جبان، يقطر حقدًا وغدرًا، استطاع أصحاب الفكر الضال غسل أدمغة بعض الشباب المندفع المتحمس لدينه، فأنزلوا نصوصًا محكمة نزلت في قوم محادين لله ولرسوله معرضين عن شريعته في قوم من المسلمين المصلين، فتجرأ هذا الحدث الغرّ فأحدث أحداثًا في المسجد لا يقبلها شرع ولا يقرها دين، كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يوصون المجاهدين بعدم المساس بأصحاب الصوامع والرهبان؟! فيكف بالمسلمين المصلين في المساجد ؟! نسأل الله الهداية والرشاد في زمان كثرت فيه الفتن.
ومن أجل تذكير المسلمين بحرمة قتل المسلمين، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضّح حرمة إيذاء الآمنين في المساجد والاعتداء عليهم مع شدة النكير على حادثة عسير، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات